السياسة... فن الخلود

السياسة... فن الخلود

24 فبراير 2019
+ الخط -

"بُني الطغيان على خمس: تهميش الحاضر وتقديس الأمس ونشر الخوف مع اليأس، تأليه الشرطة والعس، تقديم الذيل على الرأس.. وجلوس الجحش على الكُرسْ..".

لنتأمل الوصف الأخير، بمناسبة ترشح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لولاية رئاسية أخرى، ولأن المناسبة شرط كما يقولون، فلا مناص من إلقاء نظرة فاحصة على كُنْهِ هذا الحب الأبدي بين السلطة والكرسيّ في الأنظمة العربية ونموذجها الصارخ في الجزائر، حتى نتبين بعضاً من حقيقة هذا التمسك الشديد، غير المفهوم، باعتماد آليات تحليلية، تأويلية تتجاوز القراءة السياسية المحضة، لتصل إلى بعد نفسي - فكري، باعتباره القادر على تذويب ضبابية بل عبثية الفكر والممارسة السياسيين في الوطن المسمى عربياً.

سنجد حينئذ، أنه وراء خطوة تعديل الدستور، التي تُتيح للحكام الجلوس على رأس السلطة أطول مدّة ممكنة، مع الأخذ بالاعتبار تحكم الجنرالات - بالنسبة للجزائر - في خيوط اللعبة السياسية، ناهيك عن تداخل المصالح الاقتصادية لكبرى الشركات المتماهية في النظام مع دول غربية على رأسها أميركا، كلها عوامل مساعدة في فهم الإبقاء على بوتفليقة رئيساً أبدياً للجزائر، لكن هذا مبرر فقط، هو جزء من الحقيقة لا كلها، إذ يتجلى الدافع الأول والأخير في الرغبة الملحّة للرئيس ونظامه في الخلود.


إن الهوس بالخلود هو المقولة النفسية لما يسمى إثبات الذات، لكونه تعبيراً عن جوهر العيش الفردي والجماعي للإنسان المانح قيمة له، وهو حق مشروع وملحّ لا محيد عنه، حتى عند المشاركة في مباراة صغيرة في الحيّ، فما بالُك بشرف ومهمة قيادة شعب عظيم، شهد أكبر ملحمة في التضحية كان عدادها مليون شهيد.

ولكن بما أن الحاكم لم يحقق هذا الشرف وإثبات الذات السابق ذكره، فهو يلجأ لتمديد الحالة ما أمكن خوفاً من النسيان المحتوم، نظراً لعدم تحقيق أي إنجاز تاريخي في مقام يفرض التاريخ نفسه بقوة نظراً لموقعه كحاكم، وينسجم أيضاً مع الشوق الشديد للشعب في استكمال لوحة التضحية والعمل اللذين بدأهما منذ دحر استعماراً تغلغل كثيراً وعشش طويلاً في أوصال البلد.

لقد نسي بوتفليقة ومن يدور في فلكه، أنّ الجزائر بتضحياتها وثوراتها وثرواتها، تستحق نقلة نوعية إلى مصاف الشعوب المتقدمة كما حدث مع تركيا في أعوام قليلة، بيد أن المصيبة الكبرى في نسيانه - ربما بفعل الألزاهايمر المتعرض له - أن الجزائر بلد المليون شهيد لا بلد المليون عام من الحكم والقبضة الحديدية. أكيد أن كرسيّه المتحرك وجزءاً من ضميره المطموس يخاطبانه الآن قائلين: إنك لست نبي الله نوح، فلن تعيش أو تحكم أو تدعو شعبك ألف سنة إلا خمسين.

بوتفليقة ومن على شاكلته يريدون العظمة، لأنها سرّ الخلود في صفحات تاريخ الناس وقلوبهم. غير أنهم يسعون لصفة هم ليسوا جديرين بها تماماً، بحكم سنن العقل والواقع والسياسة والتاريخ.
لذلك تراهم يلجؤون لتكتيك نفسي ثان كخطة بديلة، ألا وهو توريث الحكم للأبناء دون توافرهم على سحنة الحكام أو شروط القادة الأفذاذ، اللهم امتياز النسب وضربة حظ من تيه الحيوانات المنوية، التي جعلتهم أبناء رؤساء عوض كونهم مجرمين أو متسولين أو معطلين.

نجد تفسيراً لظاهرة التوريث هذه في قاعدة اجتماعية تقر بأن: "الشعوب الأكثر بؤساً هي الأكثر إنجاباً"، وهي قانون يسري على حكامنا أيضاً - بما أنهم نتاج بنية وطبيعة وإرادة المجتمع في آخر المطاف، إذ نظراً لأنهم لم يتحملوا رسالتهم في الحياة على أكمل وجه، المتعلقة بمهمة عظيمة أن يكونوا رعاة صالحين تصلح بهم الرعية وتتحقق إنسانية المواطن كاملة، لهذا كله يعقدون الآمال على الجيل القادم برمي المسؤولية الشاقة على كاهله..

هذا الأخير يكون بدوره نتيجة حتمية، سلبية لهذا النوع من التفريط، الناجم عنه تخلف ومراتب متآخرة في قطار تطور الأمم، والخلاصة العسيرة على الشعوب هي تكرار القبح والتخلف والدمار والاستبداد نفسه، في دوامة أبدية، ولنا في بشار الأسد البرهان الصادق.

تلك إذن قاعدتان تشكلان البنية السيكولوجية - الفكرية، للحاكم العربي الطامح للجلوس بشكل سرمدي على كرسيّه، حتى يحين موعد ذهابه إلى القبر، إنه يريد الانتقال من الجلوس إلى الدفن مباشر، رافضاً الوقوف على رجليه، للاطلاع على رغبات أو تطلعات وكذا وضعيات شعبه، ومن ثم تلبيتها وتحسينها.

إن هذا الاختيار عبثي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ربما عدوى التاريخ حملته إلينا منذ قرر معاوية بن أبي سفيان نقل الحكم لابنه يزيد، ويا لها من خطوة بئيسة تلقفها ذوو البصر المحدود من الساسة فكرّسوها وعملوا بها سنّة للخلف، حتى صاروا وصرنا معهم أضحوكة لحكايات الإنسان الديمقراطي الأشقر. وهو أمر منطقي ما دام العبث لا يليق به إلا الضحك والهزل، كردّ فعل مناسب وضروري في وجه فعل لا تنطبق عليه آيات التحليل المنطقي الصارم. هذا الأمر تفطن إليه المواطنون، فبدؤوا بإلقاء النكات والطرائف عوض الاحتجاج والتظاهر على الحاكم الأبدي.. منها قولهم: "إن الرئيس بوتفليقة يعلن وفاة كرسيّه المتحرك، وسوف يعوّضه بواحد من نفس "الماركة" المُصنعة عربياً"، التي تدوم وتقاوم كل عوامل الزمن وردود الشعب.