لا شيء سوى الفاجعة

لا شيء سوى الفاجعة

22 فبراير 2019
+ الخط -
محشوراً بين خمسة معتقلين عن يميني وخمسة معتقلين عن يساري، أحاول دسّ جسدي بين أقدامهم لإيجاد فسحة للنوم. غمرت وجهي بأحد الأغطية ورحت أتذكّر طفلي الرضيع الذي تركته خلفي، وكلام زوجتي ووالديّ يحفر عميقاً في وجداني، كانوا يُلِحّون وقتها على ضرورة الاهتمام بعائلتي والالتفات لشأني وترك الثورة والابتعاد عن مناكفة داعش وفضح ممارساتها. في تلك الليلة بكيت ندماً، وفي لحظة ضعف تمنيت لو أني استجبت لهم، وعاهدت الله لو أني خرجت من قبضة داعش حيّاً فسأترك كلّ شيء وأفعل ما أرادوا.

وسرعان ما نُقِض العهد، فما هي إلا بضع سويعات حتى أيقظني أحدهم، كان العشرة مستيقظين يحيطون بي كدائرة وأنا في وسطها، قال أكبرهم سنّاً: شوف يا أستاذ محمد، ربما تخرج أنت من هنا ولكن نحن لن نخرج، هم يخادعوننا منذ أشهر، ولا شكّ سيقومون بقتلنا، لذلك يجب عليك أن تحمل حكاياتنا معك، انقلها للناس وأخبر أهلنا. ثم دفع صغيرهم الذي كنت أعلّمه الحروف في الصباح استجابة لأمر السجّان ورقةً وقلماً نحوي وبدأ سرد الحكايات.

كنت أسجّل المعلومات المهمّة فقط؛ الاسم والكنية، العمر، العنوان، تاريخ الاعتقال، الوصية! وهكذا أنهى العشرة حكاياتهم. ثم قال أحدهم: لا تنسوا من قُتِلوا، فأفسحت في الورقة مكاناً لعمود جديد حمل حكايات القتلى. كانوا ثلاثة، الأول قُطِع رأسه، ودُفِن بعيداً بضعة أمتار عن الغرفة التي وُضِعت فيها أولاً، والآخران كانا كرديين قُتِلا ودُفِنا بالقرب من المكان الذي كنّا فيه في تلك الليلة. كنت أكتب وأستمع ذاهلاً من دون وعي، ولكنني كنت متماسكاً حتى بدأت حكاية الرجل الكردي الأخير.

كان قد نزل إلى سوق مجاورة لقريته ليشتري ثياباً لطفله الذي سيولد قريباً، وهناك اختطفه رجال داعش بعدما عجز عن الكلام بالعربية وساقوه إلى السجن الذي كنّا فيه. كان يبكي بحرقة ويخرج من صدره ثوباً صغيراً لطفله المُنتظر، يشمّ الثوب ويقبّله، ويمسح به وجهه ثم يبكي ويبكي معه بقية السجناء، وذات ليلة أخرجه السجّان من الزنزانة بعدما أكّد له أنهم سيفرجون عنه، ترك أغراضه كلّها من فرحته وحمل ثوب الطفل وخرج... بعد دقائق قليلة سمع السجناء صوت طلقتين، وفي الصباح شاهدوا كومة تراب حديثة في زاوية باحة السجن فعرفوا أنه لم يغادر المكان قط. نسفت حكاية الرجل عهدي الذي قطعته منذ قليل، وفقدت معها تماسكي، فبكيت كالمفجوع.

أزيد من خمس سنوات مرّت على تلك الليلة، عملت فيها مطوّلاً على تبليد مشاعري وقتل أحاسيسي، كنت أتعمّد الأكل أمام صور الأشلاء، وأشرب الماء متصنعاً التلذّذ أمام الدماء، ما عادت تحرّكني صور الجثث المحروقة، ولا الجثث الطافية على سطح البحر، ولا تلك المسحوقة تحت الأنقاض، ولا الممزقة بالشظايا. وفي اللحظة التي كدت أعلن فيها انتصاري على الفاجعة، قفز ذلك الكردي العنيد مجدداً من الذاكرة أمامي، أخرج ثوب طفله من صدره، وشمّه، ومسح به وجهه، ثم طواه بحرص ودسه في صدره فوق القلب... فبكيت مجدداً!
استطعتُ الانتصار على كلّ صور جثث الأطفال، حتى أولئك الذين قتلهم الكيماوي، ما عاد يحرّكني الزبد الخارج من أفواههم الصغيرة، ولا عيونهم المحملقة في اللامكان، ولا أجسادهم المنكمشة. ولكن صورة الأم الواقفة أمام عشرات جثث الأطفال في الغوطة، ذاهلة تبحث بين الوجوه المصفرّة عن وجوه أطفالها ما زالت تقتلني. ذاك الطفل الواقف أمام قبر التهم والده منذ لحظات، صامتاً يغالب دمعته، حائراً، عاجزاً عن إيجاد الإجابات لآلاف الأسئلة، فيما يحاول الرجال إهالة التراب لسد فم القبر الشره، ما زال يسحق روحي.
وهكذا كانت الفاجعة اللعينة تتسلل إليّ دائماً عبر تفاصيل صغيرة، فتنسف كل جهود إعادة إعمار روحي، ولذلك قرّرت سدّ هذا الباب والتوقف عن مشاهدة التفاصيل.

بدا الأمر ناجحاً... حتى البارحة على الأقل!
البارحة غصّت وسائل الإعلام وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي بصور الشبان التسعة الذين أعدموا في مصر، وراح الكل يبكيهم، ولكن الصور لم تحرّك فيّ شيئاً، بقيت أمرّ عليها طوال اليوم دون اكتراث، لن أضعف أمامها، مهما حاولت الفاجعة فلن أسمح لها هذه المرة، ما الجديد؟ في كل يوم يُقتل العشرات منا، شبّان كالورود، وأنظمة مجرمة، وصراع أبدي، في سورية في مصر في العراق في اليمن في ليبيا في كلّ مكان، وهل خُلِقنا لغير الموت؟

كان الوضع جيّداً، ودفاعاتي متماسكة، حتى مرّت أمامي صورة سيدة تحمل طفلة رضيعة في محكمة، ترفعها عالياً لتريها لوالدها المعتقل، واحد من التسعة، وُلِدت بعد سجنه، تحاول أن تريه إياها وأن تريها إياه. تشير له مبتسمة في صورة أخرى إلى أن أسنان ابنتهما بدأت تنمو. تبتسم وفي قلبها بعض أمل وتحتضن ابنتها. حاولتُ الهرب من الصورة بسرعة، ولكن الكردي القتيل ظهر إلى جانبها فجأة، وكان كعادته يحتضن ثوب طفله، وإلى جانبهما وقفت السيدة الباحثة عن وجوه أطفالها، فبكيت مجدداً.

وحده الطفل الواجم أمام قبر أبيه كان ينظر إليّ بسخرية، ولسان حاله يقول: ويحك كيف تهرب منها وأنت في قعرها!

لا أعلم إن كان ثمّة علاقة بين الفاجعة والفَجَع، ففي العامية نسمّي الإنسان الشره في تناول الطعام والذي لا يعرف حداً للشبع فجعاناً، ولعل الفاجعة تحمل المعنى ذاته، فهي الأخرى شرهة لا تعرف حدّاً للشبع، غير أنها تلتهم أرواحنا!