ماكو عواطف يا معوّد!

ماكو عواطف يا معوّد!

19 فبراير 2019
+ الخط -
أعلن الحاج رأفت الغضبان عن نفاد شحنة التعاطف، وحث العملاء على التأكد من المواقف قبل تفريغ عواطفهم! لم أفهم موقف الغضبان، وقلت أخطف رجلي أتناقش معه في الأمر، وجلست معه ساعتين بالتمام والكمال، لم يعزِّم علي بكوب شاي ولا حتى ماء من الحنفية، وهو معروف بكرمه الواسع؛ فربما حلف عليك بالطلاق والعتاق لتأكل معه، بعد أن يستوثق أنك صائم!

قبل سنوات، كان بيت الغضبان قبلة القاصدين، وكان أخوه الحاج كريم الفياض من أهل السخاء، لكن الغضبان نفض يديه من البشر، وأصبح سريع التبرم مع تقدم السن، وأخلاقه تتناسب عكسيًا مع عمره، تراه ضيق العطن سريع التأفف والقرف والشخط والنطر! اضطررت أن أستجمع أعصابي وأضعها في ثلاجة، ليتسنى لي محاورة بروتاغوراس الغضبان، وإن لم أكن أفلاطون إلا أنني سأحاول فهم ما يختلج في صدر الغضبان.

من باب الاستدراج في الكلام، عاتبته على بخله عتابًا خفيفًا، ولم يفك تكشيرة وجهه ولم يفرد بوزه، وإن كانت كلماته تحمل رقة أكثر مما توح ملامحه، وكأنه كان على آخره وينتظر القشة لتقصم ظهر البعير، وينام البعير بتعليمات الطبيب ويتمدد في سريره. قال الغضبان والدموع تتمرجح في مقلتيه العسليتين ويداه تعزفان حركات غير نمطية كأنه تشايكوفسكي: أنا طالبت بترشيد التعاطف، ويجب أن أكون قدوة لغيري، وإلا أصبحت نائبًا برلمانيًا، أقول للناس كلام وأعمل لامؤاخذة حاجة تانية.


ويبدو من لهجة الغضبان الأولية أن كلامه منطقي، ويريد أن يتساوق مع مطلبه، وأن يتماهى مع دعوته التي أذاعها على الملأ من أعلى مسطبة مسجد الخطاطبة، وألا يقع في تناقض قد يسجله عليه العيال السيس على مساطب التواصل! قلت لنفسي: خليه يكمل وسيبه يجيب آخره، ربما يكون في كلامه جملة مفيدة. وبعد أن تنحنح الغضبان وطرقع أصابعه، وضرب بيده على فخذه مرتين أو ثلاث مرات لا أذكر على وجه الدقة، لاحت منه غمزة مش ولا بد!

ظننتها هفوة منه، لكنها كانت مقصودة وقد وظفها لتخدم أطروحته؛ فواصل بلهجة أكثر حميمية: زمان كنا نتعاطف مع الناس من حولنا، ولا نبخل بمشاعرنا على قريب أو بعيد، لكن بعض الناس فهمت الأمر على نحوٍ خاطئ؛ فترى من يتعب قلوبنا ليل نهار ويشكو همه لطوب الأرض، ثم تكتشف أنه نصاب يتلاعب بعواطفنا، وتجد أشخاصًا في نعومة حلوى الغُريبة لكنهم زي ما قال الأستاذ عنترة بن شداد (عند التقلُّب في أنيابها العطبُ)، وكل هذا يحدث عيانًا جهارًا، ونكذِّب أنفسنا ونترنم مع فيلسوفنا الكبير جورج وسوف قائلين: لسه الدنيا بخير!

وقبل أن يلتقط أنفاسه، احمر وجهه وتسابقت ضربات قلبه، وزمجر كأنه الهزبر الضرغم، مؤكدًا أن الموضوع زاد عن حده: كنا نصبِّر أنفسنا ونقول إن هذا الوباء محلي، صناعة محلية رخيصة وستنقرض بمرور الرؤساء العرب لو فارقوا الكراسي! هنا لم أحتمل الاستماع، وكيف لصعاليك أن يتجرأوا ويجيبوا سيرة الكراسي؟! هي خلاص هزُلت ولا إيه؟ وقلت: اشتري مني يا عم الغضبان؛ فأصدر صوتًا من أنفه –تقريبًا عنده اللحمية- ولم يعر جملتي الأخيرة اهتمامًا، وإمعانًا في الاستخفاف سحب مسند وضعه تحت كوعه، ومدد رجليه وقال بلسان الواثق: ولا يهمني!

وأكمل بسهوكة بعض الرؤساء: ميصحش كده! أن يتاجر الناس بمصالحنا وقلنا ماشي، لكن عواطفنا يا مؤمن! دي اسمها عواطف، يعني عيب يستغلوها ويتحرشوا بها. لم يعد التحرش بالعواطف أزمة محلية مثل أنبوبة البوتاجاز، وأنا أشجب وأدين تصرف الشاب العراقي المشين، الواد يا أسيادنا فبرك أبوه وكان عاوز يبلفه في 100 ألف دولار، ويتلاعب بعواطف أبيه بدعوى أنه مخطوف وأن الخاطفين طلبوا هذا المبلغ فدية، أليس في ذلك ما يمنعني من التعاطف مع الناس أو تقديم أم مشروب لك أو لغيرك؟

وكنت أتوهم، والعتب على النظر، أن الوباء انتقل من المحلية إلى حي المنصور -وهو من أرقى مناطق بغداد- في بلادنا العربية فقط؛ فكلنا في الهم شرق، وأن الالتفاف على الدستور والفهلوة صناعة عربية بحتة، لكن اللي يكيدك إن التلاعب بالعواطف وصل ماما أميركا؛ فعندك مثلًا الكاتب الأميركي، دان مالوري، يكذب علينا ويدعي أنه مصاب بسرطان المخ، ويدخل كتابه (المرأة في النافذة) قائمة الكتب الأكثر مبيعًا؛ أليس في هذا تلاعب بالمشاعر والعواطف؟!

وفي النهاية شمَّر الغضبان وجهه وبنبرة ناشفة قال لي: تأسيسًا على ما سبق أطالب الشعوب الطيبة بكبح جماع عواطفها (الفياظة)، وألا تنساق وراء محاولات الناعمين والمسهوكين والمطبلاتية، فالعواطف "بَحْ! خِلصِت! شطبنا! وعلى طريقة أهلنا في العراق (ماكو عواطف يا معوَّد)، واتفضل من غير مطرود!