طرفٌ من حكايتي مع "الفويس ميل" (1 - 2)

طرفٌ من حكايتي مع "الفويس ميل" (1 - 2)

20 فبراير 2019
+ الخط -
ولأنني كنت أؤمن بأهمية التواصل والتفاعل مع الآخرين دون قيود ولا حواجز، وأعتبر ذلك جزءاً من دور الكاتب ومهمته في الحياة ومن متطلبات عمله أيضاً، لم يكن من السهل أن أتخذ قرار قطع اتصالي الهاتفي المباشر مع العالم الخارجي، لأجعله يمر من خلال وسيط وحيد هو البريد الصوتي، أو "الفويس ميل" كما لا يسميه مَجمَع اللغة العربية، بعد أن كنت أستخدمه فقط في حالة إغلاق هاتفي المحمول أو انقطاع الإرسال عنه.

لم يكن القرار سهلاً، خصوصا إذا كان هاتفك المحمول هو مكتبك وجهة أكل عيشك، ووسيلة الاتصال الوحيدة بك لمن لا يثقون بالبريد الإلكتروني أو لا يجيدون التعامل معه، وقد كان هؤلاء يمثلون الغالبية الساحقة في عصر ما قبل الهواتف الذكية. كنت أعرف أن تحويل كل من يتصل بي إلى البريد الصوتي على الفور، ربما يجعلني أخسر تجربة إنسانية ربما كان الاتصال المباشر بصاحبها سيحملها لي فأستفيد منها على المستوى الشخصي أو المهني، إذا صح أن هناك فرقاً بين المستويين في حالة من اختار أن يكون كاتباً، خاصة أن عدداً من أهم وأمتع وأبشع التجارب التي عشتها في حياتي، نشأت عبر اتصالات هاتفية مع أشخاص لم أكن أعرفهم بشكل مباشر قبل اتصالهم بي.

كنت أخشى أيضاً أن يدفعني ذلك القرار إلى المخاطرة بخسارة مشروع عمل يتأفف صاحبه من ترك رسالة عبر البريد الصوتي، خاصة وقد سبق لي أن شهدت ذات يوم تجربة كهذه، حين جلست مع منتج ونجم سينمائي في جلسة عمل مخصصة لاختيار مخرج لعملنا السينمائي القادم، وكان المنتج مستعجلاً على الاتفاق مع كل أطراف العمل لكي لا يطير النجم من يديه نحو منتج آخر، فكان كلما اتصل بمخرج اقترحنا اسمه، ووجده لا يرد أو يطلب ترك رسالة صوتية يستبعده من حساباته على الفور ليتصل باسم آخر، أياً كانت كفاءة ذلك المخرج أو مناسبته للعمل الذي نحضر له، وحين رد عليه مخرج لم أكن أطيقه فنياً ولا إنسانياً، فوجئت بالمنتج "المتسربع" يطلب منه الحضور إلى مكتبه فوراً لكي يوقع على عقد إخراج عمل يعده بأنه سيكون مفاجأة سارة له، ولحسن الحظ لم يكتمل ذلك المشروع العشوائي، أو من يدري ربما كانت عشوائيته ستنتج عملاً أفضل من مشروعات عقلانية، كانت تعد بما هو أفضل وأفضت إلى غير ذلك.


المهم أن ما حسبته لقيته، حيث قام منتج وغد بالتراجع عن مشروع سينمائي كان على وشك أن يعرضه عليّ، لكنه حين اتصل بي ووجد أن البريد الصوتي هو الذي يرد عليه، وحين جمعتنا الظروف بعد ذلك بعام وعاتبته على ما بلغني عن إلغائه للمشروع، قال لي بجدية إنه اعتبر وضعي لرسالة بريد صوتي على هاتفي غروراً لا يليق بكاتب سيناريو يجب أن يكون في خدمة الجميع طيلة الوقت كأجدعها صيدلية مناوبة، وحين سألته لماذا لم يلغِ إذن مشروعه مع صديقنا النجم الفلاني الذي يقوم بتحويل كل مكالماته على البريد الصوتي، رد عليّ بمبرر عجيب وهو أن الغرور وأخذ مسافة من الناس، أمر يمكن قبوله من الممثلين لأنه جزء من طبيعة مهنتهم، لكنه لا يليق بالكتاب والمخرجين الذين يجب أن يكونوا دائماً تحت الطلب والنظر. وبالطبع لم تكن خسارة شخص يفكر بهذه الطريقة "الإقصائية" أمراً مزعجاً لي، حتى لو كان في مشروعه ماء المحاياة، فأكثر ما أزعجني حقاً في أوائل أيام استخدامي للبريد الصوتي وقبل أن يجمَد قلبي في استخدامه، كان خسارة صديق قديم أراد ذات يوم دعوتي إلى مناسبة عائلية سعيدة، فصدمه وجود البريد الصوتي حاجزاً بيني وبينه، وجعله يظن أنني تغيرت ولم أعد "زي زمان"، ولولا أنني عرفت بموعد ومكان المناسبة من صديق مشترك، لما كنت قد ذهبت إلى تلك المناسبة السعيدة التي حظيت فيها بلقائه هو وعدد من أصدقاء الدراسة، الذين اضطررت أن أشرح لهم فلسفة استخدامي الدائم للبريد الصوتي الذي لم يضطرني إليه إلا الشديد القوي الذي لا علاقة له بالاستعلاء أو بالعنطزة.

لم تكن مناسبة الصديق العائلية مناسبة لكي أحكي لأصدقائي تفاصيل الواقعة التي قادتني إلى اعتناق "الفويس ميل"، لذلك استعنت على تفسير موقفي بواقعة أقدم، كان بطلها أبي الذي لم تلده ستّي الفنان الكبير صلاح السعدني، حين دخلت بيته لأول مرة، فوجدت جهاز تسجيل الرسائل الصوتية "الأنسر ماشين" مستقراً إلى جوار الكنبة التي يكاد لا يفارقها، والتي شهدت تأسيسه لحزب الكنباوية الذي سعدت بالانضمام إليه واعتناق مبادئه فترة لا يستهان بها من حياتي.

كانت تلك المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها جهاز "الأنسر ماشين"، بوصفي قادماً من عالم التليفون "أبو قرص وسلك مِلولو"، ولفت انتباهي أن العم صلاح لا يتعامل مع الجهاز الرابض إلى جواره باستخفاف، بل كان يطلق على "أنسره" لقب "منقذ المعذَّبين وقاهر المعذِّبين"، وحين سألته عن سر ذلك اللقب اتخذها فرصة ليوجه لي أهم نصيحة أسداها لي، أو لعلها النصيحة الوحيدة التي أسداها لي، والتي تتكون من ثلاث كلمات فقط لا غير هي: "احترس من المعذِّبين"، وهي نصيحة كان قد أسداها للسعدني في مطلع حياته الفنان الكبير حسن فؤاد رسام الكاريكاتير والصحفي وكاتب سيناريو فيلم (الأرض) ومكتشف العديد من أهم وأجمل المواهب الصحفية والفنية، وقد جاء في حاشية الإمام السعدني على متن نصيحة الإمام حسن فؤاد، أن أسوأ فئة من البشر ينبغي تجنبها هم من يعشقون تعذيب غيرهم من البشر بأشكال متنوعة من ثقل الظل والغتاتة والغلاسة، وأن من كرم الله علينا كبشر نعيش في الأزمنة الحديثة، أن قدرتنا على الاحتراس من المعذِّبين قد زادت بشكل أكبر مما كان يحظى به السابقون لنا بتعذيب، حيث أصبحت فرصنا في الاختيار والانتقاء أوسع وأكبر، بحيث أصبح من السهل أن نتوقف عن قراءة كاتب نكره كتابته، أو أن نستخدم نعمة الريموت كونترول للامتناع عن مشاهدة وجه مذيع نكره الذين خلّفوه فضلاً عن كراهيتنا له، أو نضع حاجزاً الكترونياً بيننا وبين من لا نحب سماع صوته التعيس "على غيار الريق أو في نص اليوم أو على آخرة المِسا".

فإن لم نفعل ذلك بعد كل ما مُنِحناه من فرص واختيارات، لم يعد لنا إذن حق الشكوى ممن يعذبوننا، لأننا الذين جِبنا التعذيب لأنفسنا، ومع ذلك تظل المشكلة الأكثر تعقيداً في أولئك المعذِّبين الذين يفرضون أنفسهم علينا في صورة أقارب أو معارف أو أصدقاء أو محبين أو شركاء عمل، وأسوأ أصناف هذا النوع من المعذِّبين هم أولئك الذين لا يدركون أنهم يمارسون تعذيب غيرهم بأفعالهم التي تبدو لهم طيبة ولطيفة وودودة، بل يتصورون أنهم يقدمون لك جميلاً رائعاً بإدخالك إلى عالمهم، أو بدخولهم عنوة إلى عالمك، ولذلك كان السعدني وهو سليل طائفة من عقلاء الكنباوية النادرين عبر تاريخ الإنسانية، يرى أن الكنبة أصبحت ضرورة حياة، وبديلاً آمناً عن المقهى الذي لا يمكنك فيه أن تتحكم بشكل كامل في اختيار من تجالسهم، فتضطر أحياناً لتحمل رزالات المعذِّبين الذين يهبطون عليك فيه من حيث لا تحتسب، خصوصاً إذا لم تكن قد اكتسبت مهارات التخلص من الصحبة الإجبارية، وهي مهارات لا يقدر عليها إلا أولو العزم ممن أزالوا غُدّة العشم من أرواحهم، ولذلك ولذلك كله اكتسب الأنسر ماشين عند العم صلاح لقب "منقذ المعذَّبين وقاهر المعذِّبين"، لأنه سد الثغرات الخطيرة التي تسمح بها الهواتف بأنواعها لكي يتسلل إلى حياتك من لا ترغب في وجوده فيها، وفي نفس السياق يمكن أن نضع اختراعات عظيمة تالية لـ "الأنسر ماشين"، كالبريد الصوتي والبريد الإلكتروني وخواص "الأنفريند والبلوك والميوت والأنفولو" التي تحاول إنقاذنا قدر الإمكان من المعذِّبين الذين ابتلتنا بهم وسائل التواصل الاجتماعي، والتي أصبح من المستحيل أن نستغنى عنها كلية حتى حين تتحول في بعض الأحيان إلى وسائل للتباعص الاجتماعي، أو التباغض الاجتماعي إذا كانت كلمة التباعص الاجتماعي يمكن أن تثير ضيقك.

كانت الفلسفة الحسن فؤادية الصلاح سعدنية هي الإطار النظري لقرار اعتماد البريد الصوتي الذي اتخذته، لكن السبب العملي المباشر والعاجل لاعتماد البريد الصوتي منهجاً في الحياة، كان وراءه ـ ولا تتعجب إنها إرادة الله ـ الدكتور صفوت حجازي الذي لم أكن قد التقيت به وجهاً لوجه، إلا في ليلة الاعتصام أمام مقر مجلسي الشعب والوزراء في أواخر أيام التحرير الثماني عشرة التي سبقت خلع حسني مبارك، ومع أنني كنت قد هاجمته من قبل بسبب الدور المخزي الذي لعبه في قضية أحمد الفيشاوي وهند الحناوي، إلا أن أداءه الشجاع في أيام التحرير العصيبة جعلني أتصور أنه يمكن أن يتغير بعد ما شهده من تجربة الميدان التي غيرت الكثير في الكثيرين، لتثبت لي الأيام سريعاً أن تصوري كان وهماً كامل الأبعاد، ومن منا لم تعلمه الأوهام؟ ومن منا لم يعتبره آخرون وهماً بعد كل ما جرى في النهر من دموع ودماء و"ميّة صِنان"؟

بدأت الحكاية حين تلقيت بعد أيام من خلع حسني مبارك، اتصالاً من الدكتور صفوت حجازي (فكّ الله سجنه إن كان يستحق فك سجنه وهو أمر لا أقرره أنا ولا غيري بل تقرره المحاكمات العادلة التي لا وجود لها في قضاء مصر الذي تديره الأجهزة السيادية الآن) أخبرني فيه بعد فيض من المودة والتقدير، أنه تم اختياري أنا وآخرين أذكر منهم الآن مع حفظ الألقاب الأساتذة حسن نافعة ومحمود الخضيري ومنى مكرم عبيد وزكريا عبد العزيز وهشام البسطويسي ومحمود سعد وعلاء الأسواني وبثينة كامل لنكون أعضاء في كيان سيتم إعلانه قريباً، يحمل اسم (مجلس أمناء الثورة)، مهمته المقترحة "السعي الحثيث لتوحيد القوى الثورية التي جمعها ميدان التحرير وإذابة الخلافات بينها عبر الحوار المستمر للحفاظ على روح الميدان قوية وحاضرة"، وبعد أن أنهى كلامه الحماسي، شكرته على حسن ثقته، وشرحت له أن ما يتصوره ليس أمراً واقعياً ولا منطقياً، ففضلاً عن أنني لست مهتماً بالانضمام إلى أي كيان سياسي، لأن دوري هو الكتابة فقط، إلا أنني في الوقت نفسه أرى من باب النصح الأمين ضرورة تغيير اسم ذلك الكيان فوراً، لأنه لا يصح أن يقوم أحد بتنصيب نفسه أميناً على ثورة أو متحدثاً باسمها، حتى ولو كان غرضه نبيلاً ووجيهاً.

خلال حديثه الطويل التالي لما قلته، حرص الدكتور صفوت على أن يقسم بالله العظيم على أنه لا يكلمني كمبادرة شخصية منه، بل هو مكلف بالاتصال بي من عدد من الشباب الثوري المتحمس، وأن اختياري للمجلس المقترح لم يكن عشوائياً، بل تم عبر استبيان قام به هؤلاء الشباب الذين تطوعوا للعمل في الكيان المقترح، وشارك فيه آلاف من الذين شاركوا في الميدان، فشكرت له ولهم حسن ظنهم، لكنني سجلت تحفظي على هذه الطريقة العشوائية في الانتخاب، خاصة وأن هناك كياناً موجوداً بالفعل هو (ائتلاف شباب الثورة)، واجه الكثير من الاعتراضات والانتقادات لأنه يتحدث باسم الثورة، وبالتالي كان من الأولى أن يتم دعمه ومساندته، بدلاً من الانشغال بتشكيل كيان ثوري جديد، وعلى عكس ما توقعت أثنى الدكتور صفوت حجازي على ما قلته، مثنياً على وجاهة ما قلته، ولذلك دعاني لكي ألتقي في مبنى ساقية الصاوي بالزمالك ظهر اليوم التالي بأعضاء المجموعة التي ذكر أسماءها، والذين أبدوا جميعاً موافقتهم على الحضور، لكي أقول لهم هذه التحفظات ونتناقش فيها بكل صراحة ومودة.

لم يجعلني تقبل الدكتور صفوت الودود لاعتراضاتي، أتصورأن الامر سيكون في الغد على غير ما اتفقنا عليه، ولعلي أخطأت خطئاً جسيماً حين لم أقم بالاتصال بالأسماء التي ذكرها، وأغلبها لأصدقاء أعزاء أو لشخصيات عامة أعرفها ويجمعني بها الود والتقدير، لكنني تحت تأثير "روح الميدان" التي كانت لا تزال دافعة ومحركة للكثيرين منا، قررت أن أؤجل ملاحظاتي وأسئلتي إلى الغد، وربما لم أتشكك في سر اختيار ساقية الصاوي بالذات للقاء، لأنني كنت أعرف أن بها الكثير من القاعات الصغيرة التي كانت تقام فيها ندوات ومناقشات لأعداد محدودة من الحضور، ولذلك لم أدرك الفخ الذي وقعت فيه إلا في اليوم التالي، حين وجدت فور دخولي من باب مبنى الساقية عدداً من الكاميرات التلفزيونية وحشداً من الصحفيين، والجميع يسألونني بشغف عن تفاصيل وخفايا هذا الكيان الثوري الجديد الذي عرفت من السادة الصحفيين والمذيعين أنني أتولى فيه مع الأستاذ محمود سعد والدكتور علاء الأسواني مسئولية اللجنة الإعلامية، طبقاً لما تقوله الأوراق التي يحملها الصحفيون والمذيعون في أيديهم، وبالطبع لم أفتح فمي المحتفظ بابتسامة بلهاء بما هو أكثر من السؤال عن المكان الذي يوجد فيه الدكتور صفوت حجازي الآن، عازماً على أن أحتج بقوة على تلك الخديعة وأنسحب في هدوء، متحملاً مسئولية خطأي في الاعتقاد بأن "الثورة تجبّ ما قبلها".

نكمل غداً بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.