ما يبدأ بحسنين هيكل ينتهي حتماً بسمير رجب (2)

ما يبدأ بحسنين هيكل ينتهي حتماً بسمير رجب (2)

19 فبراير 2019
+ الخط -
الصفحة الثانية: موسى صبري صاحب شعار "نعم أنا أطبل وأزمر"
كان الصحفي المخضرم موسى صبري يتخيل أنه بحكم علاقته الطويلة والممتدة مع الرئيس أنور السادات، سيكون أكثر الصحفيين المحيطين بالسادات تأهيلاً واستحقاقاً للعب نفس الدور الذي لعبه محمد حسنين هيكل مع جمال عبد الناصر، لكن أمله خاب سريعاً، في واحدة من لقاءاتهما التي أعقبت إطاحة السادات بهيكل من مناصبه الرسمية، حين قال له السادات بغضب إن هيكل كان يتصور أنه يمكن أن يكون شريكاً في الحكم مع السادات، كما كان شريكاً مع عبد الناصر، لكن السادات رفض ذلك لأنه لن يقبل أبداً أن يكون له شركاء في الحكم، وهو ما كان يعني أن ما حلم به موسى لن يتحقق، وأن علاقته بالسادات ستظل أبعد ما تكون عن الندية أو الشراكة أو حتى لعب دور المستشار والناصح، بل ستظل علاقة محكومة بمبدأ "اكتب ما يُملى عليك".

في كتابيه (السادات الحقيقة والأسطورة) و (50 عاماً في قطار الصحافة) تبدو آثار المرارة جلية على موسى صبري، حين يروي أنه ـ على عكس ما كان يعتقد الكثيرون ـ لم يكن صديقاً للسادات بالمعنى الحرفي لكلمة الصداقة، حيث لم يزره السادات في بيته أو يعُده في مرضه على مدى علاقة شخصية استمرت 40 عاماً، برغم أن السادات كان يفعل ذلك مع صحفيين آخرين، كما أن الكلفة بينهما "لم تُرفع إلا بقدر"، لكن موسى صبري يحرص على تجاوز تلك المرارة حين يضيف في موضع آخر أن السادات "كان يعتبرني كرماً في خلقه واحداً من أفراد أسرته"، لكنه لم يفسر لنا لماذا كان السادات إذن يقوم بالانتقاص من كرامته كصحفي كبير على الملأ إذا كان يعتبره واحداً من أفراد أسرته. لا ينكر موسى صبري حدوث ذلك بدل المرة أكثر من مرة، من بينها مثلاً حين هاجمه السادات في اجتماع أذيع على شاشة التلفزيون، حيث "ظلمني بلا مبرر" على حد تعبير موسى، وحين سأل موسى السادات بعدها في "ساعة صفا" لماذا هاجمه، قال له السادات "بكل بساطة وطيبة" حسب وصف موسى: "معلهش أهي جت فيك يا موسى". في مرة أخرى استمع موسى إلى السادات وهو يقول عنه "انتهى ما بيني وبين فلان ومنذ الآن لا كلام ولا سلام ولا معرفة"، فاستقال موسى، لكنه سحب استقالته بعد أن هاتفه السادات وطلب منه البقاء في موقعه الصحفي في مؤسسة أخبار اليوم، واستجاب موسى لطلب السادات معتبراً أن كل غضبات السادات هي مجرد "زئير أسد ينطلق من حمل وديع" على حد تعبير الدكتور رفعت المحجوب.

قبل أن تتم الإطاحة بهيكل من الساحة الصحفية في عهد السادات، ظل الصراع محتدماً لفترة بين هيكل وموسى صبري على قلب السادات وعقله، وفي تلك الفترة طلب السادات من موسى أن يبدأ في التعاون معه ككاتب للخطب الرئاسية، وهي مكانة لم يكن يصل إليها أي كاتب بسهولة، واختار السادات تعبيراً ملفتاً لوصف الخطاب الذي ينتظره من موسى قائلاً له: "أريد منك خطاباً مثل خطاب العرش"، وبعد أن كتب موسى الخطاب وسلمه للسادات الذي قرأه ثم رَكَنه على الرف، وقرأ على الشعب خطاباً كتبه له هيكل، وهو ما أزعج موسى وأحزنه.


بعد أن أطاح السادات بهيكل لم ينل موسى صبري فرصة الانفراد بكتابة خطب السادات، مثلما كان يفعل هيكل مع عبد الناصر، فقد ظلت كتابة الخطب لفترة مسئولية أحمد بهاء الدين الذي روى تفاصيل ذلك في كتابه المهم (محاوراتي مع السادات)، وحتى خطاب الكنيست الشهير الذي جاء في فترة لم يعد فيها أحمد بهاء الدين مقرباً من السادات مثل موسى، لم ينل موسى فرصة كتابة الخطاب منفرداً برغم تأييده الكامل لمبادرة السادات بزيارة إسرائيل، فقد تم تكليف الدكتور أسامة الباز بالاشتراك مع موسى في كتابة الخطاب، وحتى حين كان موسى يكتب بمفرده خطاباً للسادات، كان السادات ينحي الخطاب جانباً ويرتجل في مواضع كثيرة، ولعل أشهر واقعة في ذلك الصدد حدثت حين كتب موسى خطاباً يدعو إلى الوحدة الوطنية ويشيد بالبابا شنودة، لكن السادات قرر في خطابه أن يهاجم البابا شنودة بعنف، اقترب فيه من اتهامه بالخيانة.

من وقائع الغضب الساداتي الذي تعود صبه على موسى صبري، تلك الواقعة التي نقل فيها مصطفى أمين للسادات رأي موسى صبري في نية السادات أن يعرض منصب وزير الإعلام على هيكل، ليتصل السادات بموسى غاضباً ويقول له: "رأيك يدل على أنك لا تفهم في السياسة يا موسى، ولولا خوفي من انزعاج زوجتك وهي في مقام ابنتي لأمرت باعتقالك في مستشفى بهمن ـ مستشفى للأمراض النفسية والعصبية ـ حتى تعود أعصابك إلى طبيعتها"، لكن كل هذا الجفاء الذي يصل إلى حد الإهانة لم يثنِ موسى صبري عن الوقوف وراء السادات بكل ثقله، ليكون واحداً من "أقوى وأعنف أقلام السلطة"، حسب تعبير الصحفي فتحي رزق ـ والد الكاتب ياسر رزق ـ والذي سأل موسى صبري عن تعليقه على الكتابات المعارضة التي تهاجم دفاعه العنيف عن السادات، فقال له: "لا يهمني رأي أحد، كل الذي يهمني أنني ممتاز مهنياً ونظيف اليدين".

كان موسى صبري مغرماً على الدوام برواية قصته مع السادات حين جمعتهما تجربة الاعتقال السياسي قبل ثورة يوليو 1952، وكيف لعب دوراً في تهريب السادات من المعتقل، لكن السادات حين كتب قصة حياته بالتفصيل الممل في كتاب (البحث عن الذات)، لم يشر إلى موسى صبري لا من قريب ولا من بعيد، واكتفى بأن يهدي نسخة من الكتاب إلى موسى موقعة بعبارة "إلى رفيق رحلة العمر"، وهي عبارة أسعدت موسى كثيراً، مثلما أسعدته واقعة رواها لرشاد كامل واستشهد فيها بإبراهيم سعدة، وهي أن السادات عندما غضب من كتاب عثمان أحمد عثمان الذي صدر بعنوان (تجربتي)، لأن الكتاب هاجم عبد الناصر بعنف، وكان عثمان يتوقع ككثير من الصحفيين والسياسيين أن السادات سيسعد بهجوم عثمان على عبد الناصر، لكن موسى صبري وحده الذي توقع أن السادات سيغضب مما كتبه عثمان، وحين بلغ ما قاله موسى مسامع السادات قال للصحفيين: "الوحيد اللي فاهمني موسى صبري، انتم تعرفوني من قريب، لكن موسى فاهم أنا إيه كويس قوي". بالطبع هناك من يرى أن هجوم عثمان أحمد عثمان على عبد الناصر كان من المستحيل أن يتم بدون علم السادات وإذنه، فقد كان عثمان أكثر من مجرد مستشار أو شريك في الحكم، كان صديقاً حميماً ومقرباً للسادات ، ولذلك يرى هؤلاء أن غضب السادات من عثمان لم يحدث إلا بعد رد الفعل العكسي المفاجئ الذي أحدثه هجوم عثمان على عبد الناصر، لأن التشكيك في ذمة عبد الناصر المالية والتلميح إلى فساده وعدم نزاهته، كان يعني أن السادات نائبه وصديقه متواطئ في ذلك الفساد بشكل أو بآخر، وهو ما لم يغب عن فطنة موسى صبري بحكم خبرته الطويلة في بلاط أصحاب الجلالة.


كان موسى صبري يعرف جيداً حجمه وموقعه في اللعبة، ولذلك لم يتردد في أن ينفذ أوامر السادات، حين طلب منه أن يقف ضد اثنين من كبار أساتذته هما مصطفى أمين وجلال الدين الحمامصي، برغم أن موسى كان قد لعب دوراً كبيراً بمساندة من جيهان السادات وأحمد رجب وعلي حمدي الجمال وآخرين للإفراج عن مصطفى أمين المحكوم عليه بالسجن بتهمة التجسس، لتتم بعد الإفراج عنه إعادته للعب أدوار صحفية مهمة، هو وتوأمه علي أمين الذي كان قد ترك مصر منذ سنوات، لكن مصطفى أمين الذي كان قد تعلم الكثير من تجربة السجن المريرة، قرر أن يستغل إعلان السادات المتكرر عن العهد الجديد الذي ستعيشه الصحافة المصرية، فبدأ يكتب آراءه بجرأة نسبية بدأت تجتذب إليه الجمهور الذي فقده، وهو ما كان السادات يتسامح معه أحياناً، لكنه بدأ يغضب منه حين أطلق مصطفى أمين على مساعده المقرب أشرف مروان لقب (الطفل المعجزة)، كما غضب السادات من تصوير علي أمين لنفسه في الأوساط الصحفية أنه صاحب علاقة خاصة بالسادات، ثم فقد السادات أعصابه حين أعلن مصطفى أمين تأييده لحزب الوفد الجديد وكتب عنه بشكل إيجابي، فطلب السادات من موسى صبري أن يأمر مصطفى أمين بكتابة سلسلة مقالات عن فضائح الوفد قبل ثورة يوليو، كتلك المقالات التي كان يكتبها في صحيفة (أخبار اليوم) قبل يوليو 1952 والتي تشنعت في الهجوم على مصطفى النحاس وزوجته زينب الوكيل وفؤاد سراج الدين، لكن مصطفى أمين "الجديد" رفض طلب السادات الذي تعامل مع ذلك الرفض بغضب عارم، ولعب موسى صبري دوراً كبيراً في تخفيف حدة الصدام بين مصطفى أمين والسادات، حتى هدأ غضب السادات من مصطفى قليلاً، لكن موسى بدأ في حذف كلمات وفقرات وسطور من مقالات مصطفى أمين، وكان ذلك يحدث أحياناً باتفاق مع مصطفى لكي لا يغضب السادات ويمنعه من الكتابة، وحين كان مصطفى يحاول التهرب من المباشرة في الكتابة، ويكتب مقالات عن الأخطاء التي يمكن أن يقوم بها رئيس شركة في إدارة شركته، كان موسى يقوم بتغيير كلمتي "رئيس شركة" إلى "مدير شركة"، حتى لا يفهم السادات أنها إسقاط عليه.

حين زاد توتر العلاقات بين مصطفى أمين والسادات، سأل السادات موسى صبري ذات مرة: "هل أخبار اليوم كلها يكتبها شخص واحد؟ إزاي مصطفى أمين يكتب الموقف السياسي وفكرة وحلقات سنة أولى حب ورسائل القراء، هل أخبار اليوم بحالها ما فيهاش محررين أبداً، ثم الموقف السياسي بيكتبه رئيس التحرير يا موسى مش كده؟"، ليقوم موسى صبري بالاتفاق مع مصطفى أمين على اختصار مسلسل قصته (سنة أولى حب) التي تهكم عليها موسى في حوار له مع رشاد كامل، ووصفها بأنها "حوالي عشرين قصة في بعض"، وبدأ موسى صبري يكتب بنفسه باب (الموقف السياسي)، ليصدر السادات بعد فترة قراراً بمنع مصطفى من الكتابة بعد أن هاجم نواب حزب مصر الحاكم الذين هرولوا إلى الحزب الوطني "الجديد" بعد أن قرر السادات تأسيسه بدلاً من حزب مصر.

أما جلال الدين الحمامصي الذي كان أستاذ موسى صبري وصاحب فضل عليه، فقد اصطدم موسى به ومنعه من الكتابة، لكنه ادعى بعد ذلك أنه لم يمنعه من الكتابة، وقال إن جلال الدين الحمامصي هو الذي امتنع عن الكتابة من تلقاء نفسه، لكنه في موضع آخر اعترف قائلاً بدوره في منع الحمامصي من الكتابة قائلاً: "كانت كل مقالاته دعوة للتيئيس وإنه ما فيش فايدة.. هنا اختلفنا وشعرت أن هناك مقالات كتبها فيها تجريح في رئيس الدولة لم أكن أوافق عليها"، وكما يروي محمد رجب في كتابه (ما لم تنشره الصحف) فإن موسى صبري قال للحمامصي إن إحدى مقالاته يلمح إلى أن الرئيس السادات لا يفهم في كل المسائل، ثم سأل موسى الحمامصي: "وهل من الضروري للرؤساء أن يفهموا في كل شيء؟"، ليتم منع مقال الحمامصي بعد ذلك حرصاً على خاطر السادات الذي كان إذا غضب من صحفي أو كاتب، يقرأ ما بين سطور مقالاته بتعسف وغضب.


في كتابه (القربة المقطوعة) روى جلال الحمامصي تفاصيل خلافه الحاد مع موسى صبري، الذي بدأ بمنع موسى نشر مقال انتقد فيه الحمامصي تصريحاً لوزير الري، بعدها كتب الحمامصي مقالاً يرثي فيه لحال زميل تحول من صحفي إلى رقيب، وكان يتوقع أن يمنع موسى المقال لكنه نشره، بل وبكى في حضرة الحمامصي عندما قابله في لقاء عاطفي، لكن بكاءه لم ينسه طبيعة دوره كرقيب نصّبته السلطة على واحد من أهم صحفها، ولذلك لم تمنعه عاطفته تجاه أستاذه من شطب كلمات وفقرات من مقالات الحمامصي الذي قال لموسى: "لو كنت تظن أنك بما تفعله تدفعني إلى الاستقالة فلن أستقيل"، لكن موسى الخبير بطبع وسلوك أستاذه قام بمنع نشر أكثر من مقال للحمامصي، فقرر الحمامصي التوقف عن الكتابة، وحين التقى به موسى قال له إنه ظل يواجه تعنيفاً بالغاً من كبار المسئولين على نشر مقالات الحمامصي، وأنه بمنعها يحمي الحمامصي، ويحمي نفسه أيضاً.

بعد فترة من الاحتجاب، اتفق موسى مع الحمامصي على العودة إلى الكتابة، لكن موسى عاد من جديد لشطب فقرات من مقالاته، ثم منع مقالات أخرى له بعد انتفاضة 18 و19 يناير 1977، حتى أنه شطب فقرات من مقالات رياضية قرر الحمامصي أن يوصل من خلال سطورها آراءه السياسية، وكانت هذه ميزة أن تضع السلطة على مقعد القيادة الصحفية خبيراً بألاعيب الكتاب، ليحمي ظهرها بشكل يفشل في فعله الرقباء غير المدربين، وحين نشر الحمامصي نصوص مقالاته الممنوعة والمحذوفة كاملة في كتابه الذي قال إنه سيفضح فيه "أبشع عملية تدخل رقابي في تاريخ الصحافة المصرية"، قال موسى صبري في إحدى حواراته الصحفية مبرراً ما فعله بأنه أمر طبيعي يحدث في كل مكان، وأن ذلك من حق رئيس التحرير الذي يحدد سياسة صحيفته، وهو ما يختلف عما كان يقوله للحمامصي، حين كان يبرر منعه لمقالاته بأنها حماية لهما من غضب المسئولين.

لا نستطيع أن نفصل كل هذه المواقف المؤسفة التي ارتكبها موسى صبري في حق أساتذته، فضلاً عن ما كان يفعله بمن هم أصغر منهما سناً وأقل خبرة، عن الدرس الذي تعلمه خلال تجربته كصحفي في عهد عبد الناصر، حين أدرك أن السلطة قادرة على أن تطيح بأكبر المواهب الصحفية دون أدنى تردد، مهما بذلت الموهبة من جهد لإرضاء رجال السلطة، فبرغم أن موسى صبري لم يكن كغيره من الصحفيين صاحب مواقف معارضة في عهد عبد الناصر، إلا أنه بمجرد وصفه للمذيعة همت مصطفى بأنها صاحبة صوت مخنث، غضب منه عبد الناصر، ليس من أجل حبه لهمت مصطفى التي أصبحت بعد ذلك مذيعة السادات المفضلة، ليصبح إنجازها المهني الأهم الباقي الذاكرة الجمعية هو تعبير "يا همت يا بنتي"، بل لأن عبد الناصر اعتبر الوصف غير لائق أخلاقياً، ولذلك أصدر أمراً بإيقاف موسى صبري عن العمل.

ظل مرتب موسى صبري مستمراً طيلة فترة إيقافه، على عكس ما كان يحدث للصحفيين المغضوب عليهم، ليتواصل ترقي موسى صبري المهني في ظل عهد عبد الناصر، حتى وصل إلى منصب رئيس تحرير صحيفة يومية هي صحيفة (الجمهورية) التي كان واحداً من عدة صحفيين شغلوا منصب رئاسة تحريرها في نفس الوقت، وهو منصب لم يكن نظام يوليو يمنحه بسهولة إلا للمشهود لهم بالإخلاص، لكن موسى صبري نسي كل ذلك في عهد السادات، حين فتح أبواب صحف (أخبار اليوم) أمام الحملات الشعواء على عبد الناصر، والتي كان أقساها ما نشره جلال الدين الحمامصي عن تهريب عبد الناصر للأموال إلى الخارج، وحين غضب السادات أو تغاضب، زعم موسى أنه لم يكن موافقاً على النشر، وهو ما لم ينسه الحمامصي له فكتب في (القربة المقطوعة) يكذب ما قاله موسى، ويذكره بتقلب مواقفه السياسية ناشراً مقتطفات مما سبق أن كتبه موسى في مديح عبد الناصر طيلة حياته إلى أن رثاه مشيداً بعبقريته وخلوده.


كانت تجربة الأذى الطفيف الذي لحق بموسى صبري كافية لتلقينه درساً لن ينساه طيلة حياته، ولذلك لم يكن يتردد في إعلان سعادته بأن قلمه مسخر لخدمة النظام الحاكم، لدرجة أنه كتب ذات مرة بالفم المليان "نعم أنا أطبل وأزمر"، لتصير تلك العبارة من بعده شعاراً معلناً لدى الغالبية الساحقة من كتاب الصحف الحكومية، ولأن موسى صبري كان يعرف هدفه جيداً، لم يكن يشعر بأي حرج من تناقض ما كان يكتبه في عهد عبد الناصر عن ما كان يكتبه في عهد السادات، فبعد أن كان يعلن فخره بأنه اشتراكي وسيظل اشتراكياً حتى آخر يوم في حياته، أصبح واحداً من أبرز الأصوات المدافعة عن الانفتاح الرأسمالي أو "انفتاح السداح مداح" كما أبدع في تسميته أحمد بهاء الدين، وبعد أن كان يهاجم كبت الحريات والرقابة على الصحف في عهد عبد الناصر، أصبح أشد عنفاً في رقابته على الكتاب من الرقباء العسكريين، وبعد أن كان يكتب مقالات تتغنى بالعروبة والوحدة العربية، صار واحداً من أشرس مهاجمي العروبة والوحدة العربية، بعد خلاف السادات مع الحكام العرب، وبعد أن كان من المدافعين عن عنتريات عبد الناصر في مواجهة إسرائيل، تلك "العنتريات التي ما قتلت ذبابة" على حد تعبير نزار قباني، تحول موسى صبري إلى واحد من أقوى المدافعين عن الصلح المنفرد مع إسرائيل، حتى لو أدى إلى الإضرار بمصالح مصر الإستراتيجية وانتقاص سيادتها على أرضها في سيناء.

حين كتب ناصر الدين النشاشيبي عن موسى صبري في كتابه المثير للجدل (حضرات الزملاء المحترمين)، تحدث عن ميل موسى إلى إرضاء زوجة الزعيم قبل إرضاء الزعيم نفسه، ولذلك "كان الفوز بكلمة ثناء من طراز برافو يا موسى أو هايل يا موسى من حرم السيد أنور السادات تأتي قبل رضا الرئيس الراحل على الخطب والمقالات السياسية التي كان موسى يكتبها لرئيس مصر".

يروي النشاشيبي أيضاً أن موسى صبري حين تولى رئاسة تحرير (الجمهورية) لجأ لمحمد حسنين هيكل لكي يحميه من بطش رئيس مجلس الإدارة كمال الحناوي، لعل تدخل هيكل يضمن له رضا عبد الناصر، لكنه حين انقلب على هيكل فيما بعد نسي دور هيكل في مساندته، كما نسي أيضاً دور مصطفى أمين وعلي أمين وجلال الدين الحمامصي في مساندته، لكنه في الوقت نفسه كما يقول النشاشيبي متهكماً، كان يحرص برغم كل هذه الانقلابات على أن "يظهر في ثوب الضحية، ضحية الظروف التي استغلت قلبه الطيب ونفسيته البريئة".

في هجومه الشرس على زميله السابق في رئاسة تحرير الجمهورية موسى صبري شنودة سكر ـ اسم موسى الكامل ـ يرى ناصر الدين النشاشيبي أن موسى أصبح نجماً ساطعاً "بفضل وصوليته وافتقاره إلى التجرد والاستقامة"، وهو ما حاول موسى أن يسقطه على نماذج صحفية كثيرة من أعدائه، حين رسم شخصية (محفوظ عجب) في روايته (دموع صاحبة الجلالة) التي تسبب التلفزيون في ذيوعها أكثر، لكن النشاشيبي يتمادى في هجومه الحاد ليرى أن موسى هو الصحفي الذي حكم السادات، وهو ما لم يكن حقيقياً على الإطلاق، فقد كان موسى صبري يدرك أن السادات كان يتعامل معه كأداة يركنها عندما يريد ليتجه إلى أدوات أخرى يستخدمها حين يريد، وأن علاقته بالسادات لم تحقق له رفعة المكانة التي تحققت لهيكل في علاقته بعبد الناصر، ليواصل بعد رحيل السادات رفع شعار (تمام يا افندم) على طول الخط، متقرباً إلى حسني مبارك بكل ما أمكنه التقرب، لكنه أثار الكثير من الزوابع التي أحرجت نظام حسني مبارك الراغب في إظهار نفسه بمظهر جديد مختلف عن سابقيه، وحين اتسع الهامش الذي منحه نظام مبارك للصحافة المعارضة، تحول موسى صبري إلى هدف مفضل لكتاب الصحف المعارضة، وعلى رأسهم الكاتب الكبير صلاح عيسى الذي هاجم موسى صبري كثيراً في بابه الأسبوعي الشهير (الأهبارية) الذي كان يكتبه بجريدة (الأهالي)، ليشتهر موسى صبري باسم جديد منحه له صلاح عيسى هو "موسى شرف المهنة"، وهو ما جعل يفقد موسى صبري أعصابه في إحدى تلك المعارك مع صحف المعارضة، معلناً تصريحه الشهير "نعم أنا أطبل وأزمر"، والذي أصبح منهج حياة وأسلوب عمل لدى جميع طبالي الأنظمة الحاكمة وزماريها، والذين لم يتغير في صفاتهم وخصائصهم بعد رحيل موسى صبري، إلا أنهم صاروا أقل براعة وأكثر انحطاطاً وأثقل ظلاً.

نكمل الإثنين القادم بإذن الله
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.