عمّتي حصَّة

عمّتي حصَّة

18 فبراير 2019
+ الخط -
فقدت عمّتي حصّة زوجها جابر، ابن الأربعة والثلاثين ربيعاً، وأُلقي على كاهلها تحمّل تبعات تربية أسرتها الفقيرة التي تتألف من ثلاثة أولاد ومثلهم من البنات، وكلهم صغار السنّ لا يتجاوز عمر جازية، البنت البكر، الرابعة عشرة، وكانوا فقيري الحال، ويقيمون في دار وحيدة آيلة للسقوط مبنية من اللُّبن الغشيم.. وكانت تحاول والدتهم جاهدةً، تأمين ما أمكن من حاجات البيت لسدّ الحاجة والعوز والفاقة مما يعانون.

وفي أغلب الأحيان يضطرون للّجوء إلى الجيران، أو إلى أقاربهم القريبين من سكنهم، وهم ليسوا بأحسن منهم حالاً، إلى اقتراض رغيف الخبز، أو البهار الضروري لإضافته إلى الطعام، الذي دائماً ما يؤكل بدونه، ولطالما كان من البطاطا الرخيصة الثمن، والبندورة، مضافاً إليه قطع البصل اليابس مع الزيت وقليل من الملح!

أبناؤها الذكور الثلاثة أكبرهم حامد، وعمره لا يتجاوز السبع سنوات، وأصغرهم فارس ابن العامين ونيّف، والأخ الأوسط نايف الذي يُعاني من مرض مزمن لم يتجاوز بعد الخمس سنوات. وترك لهم والدهم، المزارع البسيط، عشرة دونمات من الأرض الزراعية، بالكاد تسدّ الرمق مما تنتجه من وارداتها، من قمح وذرة صفراء وبعض الخضروات، فضلاً عن امتلاكه عدداً من الأغنام يُستفاد من حليبها في إطعام أطفالهم الصغار، وما يزيد عن ذلك يُباع بثمن زهيد لشراء ما يحتاجون إليه من طحين ولوازم البيت الكثيرة.

وفي ليلة شتائية باردة، أُعلن نبأ وفاة والدهم الذي يعمل في فلاحة الأرض ويشرف على سقايتها. وانتشر خبر الوفاة كانتشار النار في الهشيم، وتلقى أهله ومعارفه وأقاربه في القرية التي يقيم فيها خبر الوفاة، كما عَلم به أصدقاؤه وأخوه الذي يقيم في المدينة، وهو الذي ترك القرية منذ فترة مبعدة على ضوء خلاف حصل بينه وبين أحد أقاربه قبل نحو ثلاثين عاماً.

وكانت الصدمة قوية بالنسبة لأخيه ولم يكن يتوقعها، ما أقعدته أرضاً، وأخذ يجهشُ بالبكاء بشدّة متأثراً عليه ولا سيما أنه الأخ البكر، وكان يتصف بمواصفات حميدة، وأهمّها الوفاء والكرم والطيبة. وبرغم الفقر الذي كان يعيشه وأسرته، كثيراً ما كان يحاول جادّاً كسر طوق العلاقة التي تربطه بأسرته، مع إلحاح زوجته في السفر بعيداً، والعمل في أي عمل كان لقاء سداد ما يترتب عليه من ديون مستحقة الدفع، إضافة إلى تأمين المبلغ الذي يمكن أن يساعد في معالجة نايف، الابن الثاني من مرضه.

إلحاح عمّتي حصَّة لم يلقَ أذناً صاغية، ففضّل زوجها البقاء في أرضه والتشبّث بها، رغم الحاجة الملحّة إلى المال في مساعدتهم على تأمين مستقبل أطفالهم الصغار، وبناء غرفة ثانية مناسبة، ودفع الأقساط المدرسية لابنهم حامد، وبناتهم جازية وزاهرة وشمس اللاتي يستعددن لدخول المدرسة بعد توقف استمرّ سنوات، وبصورةٍ خاصة جازية، التي توقفت عند سن تعليم معينة لم تستطع معها إكمال دراستها، ورغم صغر سنّها كانت تعمل بالأجرة عند أهالي القرية المكتفين مادّياً ممن بحوزتهم مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية، ويحتاجون إلى أيد عاملة في فترة التحضير ما قبل الزراعة، وفي موسم حصاد القمح، وقطاف القطن بعد نضجهما، وهذا ما يستدعي البحث عن أيد عاملة رخيصة، لسدّ النقص الذي تحتاج إليه المساحات الشاسعة لأمثال جازية وغيرها من البنات الصغيرات في سنّ اليفاع، ما يدفع الأهالي الذين لا يكفيهم دخلهم، سواء من الأراضي ذات الحيازات الصغيرة التي يملكونها، أو من تلك التي يقومون على استئجارها من أجل سد الثغرة من العاملات الصغيرات الباحثات عن عمل، وهذا ما يدفعهن إلى التسرب من الصفوف المدرسية الأولى، بأعداد كثيرة، والالتفات إلى العمل في الزراعة طوال فترة القيظ، واللحاق بالمدرسة بعد الانتهاء من الأعمال التي تقوم بها، وهذه الحالة كان لها بالغ الأثر على الفتيات الصغيرات السنّ وأهاليهن من ذوي العوز والفاقة.

وكانت جازية، تحاول إشغال وقتها في العمل بسبب الفقر المدقع الذي تعاني منه، ولا سيما أنها كبرى إخوتها، وتليها في الترتيب شقيقتها زاهرة وشمس، وكلتاهما تحاولان تجسيد الدور الذي تؤديه جازية بالبحث المستمر عن العمل الذي يشكل صورة مفرحة بالنسبة لها.. وإن كانت الأخوات الثلاث يضطررن إلى اللحاق به مع ساعات الصباح الأولى، ولا يعدن إلى البيت إلّا مع غروب الشمس، في حين أن البنات الأخريات اللاتي في عمرهن يقضين جلَّ وقتهن في بيوتهن، ويقمن بأعمال خاصة بهن بعيداً عن العمل الزراعي والجهد الذي يُبذل فيه، فضلاً عن التعب والإرهاق الذي أكثر ما يعانين منه، وهذا ما يؤكد التفاوت الطبقي بين أسرة وأخرى.
فالأسر الغنية تُبقي على بناتها داخل المنزل وتقوم على توفير كل ما يلزمهن من متطلباتهن الخاصة، بينما جازية وأمثالها يظل حظها مقتصراً على اللجوء إلى العمل حتى تتمكن من مساعدة أهلها مادّياً في معيشتهم، وما يفيض لديها تقوم بشراء ما تحتاج إليه من لوازم خاصّة بها.

وظلّت عمّتي حصَّة، تقوم على رعي الأغنام، بمساعدة ابنها حامد طوال اليوم، وفي المساء يعود مع أمه إلى بيته، وتقوم أخواته البنات بحلبها، ليصار إلى بيع ما يتوافر لديهم إلى الباعة أصحاب المحالّ التجارية في المدينة، التي تبعد نحو ثلاثين كيلومتراً عن القرية التي يقيمون فيها، حيث يتم إرسال اللبن وبعض قطع الجبن إليهم بواسطة باصات النقل الخاصة العاملة في القرية. وبعد أسبوع يُصار إلى جمع غلّة ما سبق أن أرسل، ليتم بعده قبض ثمنه، وهو على الأغلب لا يتجاوز ألفي ليرة سورية، وهذا المبلغ الزهيد تقوم عمّتي حصّة بالعمل على تأمينه لدى حميها الذي يقيم في المدينة، وهو الذي يقوم بين فترة وأخرى بمساعدتهم، وبحسب إمكاناته المادّية، فضلاً عن أنه يقوم بزيارتهم بين فترة وأخرى للاطمئنان إليهم.

عمّتي حصَّة، وعلى الرغم من جبروتها، وهمّتها العالية، وخبرتها في الحياة فإنها تُصنّف من النساء القلائل، اللاتي تواصل العمل ليل - نهار لأجل خدمة أبنائها الصغار وبناتها، بعدما فقدت زوجها الفلاح البسيط، الذي لم يكن قادراً على إعانة أسرته وخدمتها بالشكل المناسب، وطالما عانى من إصابة في رأسه، وشكى منها باستمرار نتيجة تعرّضه لحادث سير مروّع وهو في عمر الورود!

وبعد مضيّ سنوات على وفاة زوجها استطاعت، برغم مرضها المزمن، أن تُحافظ على أبنائها، وأن توفّر لهم العمل المناسب، وأن تصل بهم إلى الطريق الصحيح.. فكانوا مثالاً في الأخلاق والاحترام.

كانت عمّتي حصّة مثال المرأة التي يُفاخَرُ بها بين نساء القرية، ولم تفكر يوماً في الزواج بأحد، رغم أنَّ الكثير من الرجال المعروفين، ومن ذوي الحظوة، حاولوا التودّد إليها بهدف الاقتران بها، إلا أنها رفضت، وفضلت على ذلك تربية أبنائها وبناتها الست والعيش معهم بودّ، واستمرت في تحمّل عبء أسرتها، وبنائها على أسس سليمة، البناء الذي يُرضي ضميرها، فعملت على تزويج ابنها حامد من ابنة عمّه نجود التي لم تلتحق بالمدرسة قبل تخرّجه في الجامعة بثلاثة أعوام، كما أنها قامت بتزويج بناتها الثلاث، وبقي ولداها فارس، ونايف الذي تجاوز المرض، وشفي منه بصورةٍ نهائية، ولم تخلص هي الأخرى من حياة مريرة رافقتها وهي في ريعان شبابها، بعد وفاة زوجها، وهذا ما يعني أنها كانت بمثابة الأم والأخت والموجه لهما.

وبعد أن أطمأنت إليهما، وكل واحد منهما أخذ دوره في الحياة، وأضافت عدداً من الغرف الحديثة البناء إلى مسكنها، حيث تقيم، واستقر حال أبنائها بالعمل في أرضهم الزراعية، وفي ما تنتجه من خيراتها، ورضوا بما أجزل الله عليهم من عطاء، وأنهيت معها حياة عمّتي حصّة، فأدركها الأجل المحتوم بوفاتها، وهي على فراشها بعد مُكابدتها المرض سنوات، فكانت مثالاً يُحتذى في التضحية والبذل والعطاء.

دلالات

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.