موت مؤجل

موت مؤجل

17 فبراير 2019
+ الخط -
"أخوك عايش أزاي حتى هذه اللحظة، خذ أخاك وارجع إلى البيت فوراً، فقد يموت وأنت في الشارع وقبل أن تصل إلى منزله".. كلمات قذف بها الطبيب في وجهي وبلا مقدماتـ وكأنه ضربني بمطرقة ثقيلة على رأسي، أو زرع خنجراً مسموماً في صدري.

ظننت للوهلة الأولى أنه يوجه هذه الكلمات القاسية إلى شخص آخر، وأنني دخلت عليه في غرفته في وقت خطأ، أو أن الطبيب يتفحص أشعة شخص آخر، لا أشعة أخي التي أجراها له قبل قليل، لكن نظرت حولي فلم أجد سواي والطبيب في الغرفة خافتة الضوء والتي تشتم منها رائحة المرض والأدوية وأحياناً الموت.

ولأن الطبيب وجد الدهشة قد علت وجهي، فقد أعاد على الكلمات القاسية وهو يتفحّص صورة أشعة ثانية ناولها له مساعده في التو؛ كان يحدق في الأشعة بشدة من وراء نظارته الطبية السميكة، وسألني، وكل علامات الغضب تجمعت على وجه: "الراجل ده عايش ازاي، كيف يمارس حياته الطبيعية، إنه من الحالات النادرة التي مرت عليّ".

الصدمة بدأت تتملّكني وتسيطر على كل جزء في جسدي، خاصة أنني لمحت اسم أخي على صور الأشعة الثانية التي ناولها المساعد للطبيب، لم أستطع نطق حتى نصف كلمة؛ كل ما كان يدور في ذهني هو محاولة إقناع نفسي أن الطبيب يتحدّث مع شخص آخر، وأن التحاليل لا تخصنا، لكن كيف ذلك وأنا لوحدي في الغرفة.

وقبل أن أفتح فمي بكلمة، واصل الطبيب قذائفه قائلاً في غضب: "أخوك مصاب بفشل كلوي مزمن، هو يعيش منذ فترة طويلة بلا كليتين لأنه ببساطة تم تدميرهما، المفروض طبياً أن يكون قد مات منذ فترة طويلة، كيف سكتم عليه طوال هذه المدة؛ كيف يمارس حياته وهو بهذا المستوى الصحي المتدهور؟".


وقبل أن أجيب عن هذه الأسئلة الصاروخية، دخل عليه مساعده للمرة الثالثة وسلمه أشعة ثالثة يرفعها إلى أعلى ويتفحصها، كالعادة، بتأنٍّ شديد، ليقول بعدها في أسى وقد مطّ شفتيه: "نفس نتيجة الأشعتين السابقتين. الكليتان مدمرتان بالكامل، لا أمل بهما ولو واحد في المليون، أخوك انتهى، فاهم، خذه بسرعة وعد به إلى المنزل فقد يموت هنا أو في الطريق، استغل الوقت المتبقي في العودة إلى المنزل".

الذهول لا يزال يتملّكني، لم أستطع النطق بكلمة، حتى لو كانت مجرد الاعتراض على تشخيص الطبيب، أو الصراخ في وجهة الذي ما زلت أذكر ملامحه حتى اللحظة رغم مرور ما يقارب عشرين عاماً على الواقعة، أو انتزاع بارقة أمل، ولو كاذبة، منه بأنه يمكن أن يعالج أخي ليعيش ولو بضعة أيام.

الشلل عقد لساني ومسح كل الكلمات من ذاكرتي، كاد يغمى عليّ من هول المفاجأة، لكن تمالكت نفسي بسرعة حتى أفكر في ترتيبات الساعات المقبلة، وفي كيفية عدم وصول هذه الصدمة إلى أخي بالحدة التي نقلها إليّ الطبيب، بل وأعطيه أملاً، ولو مؤقتاً، في العلاج والشفاء إذا علم بجزء مما دار بيني وبين الطبيب في الداخل.

"يا إلهي.. ما هذا الكابوس المزعج والمفاجئ"، كل ما أعرفه أن أخي لف على أطباء كثر خلال الفترة الماضية، وكان تشخيصهم له يتراوح ما بين تعب في الرئة وآلام في القفص الصدري بسبب التدخين، أو ألم مؤقت في المعدة بسبب عسر هضم، وأحياناً أنيميا، لم يذكر له أحد من قبل قصة الفشل الكلوي.

ما زلت في غرفة الطبيب جالساً لا أستطيع الوقوف على قدمي، لساني لا يتحرك وغير قادر على الاستمرار في مناقشة الطبيب ومجادلته، أو حتى إبلاغه أن تشخيص صور الأشعة الثلاث خطأ وتحليله غير دقيق، لم أستطع أن أفعل.

بالكاد استجمعت قواي، وتحركت ببطء شديد، وكأن زجاجاً أو مسامير مزروعة أسفل قدمي، تحاملت على نفسي، بدأت أتحرك وكأن قدميّ مشلولتان، سرت خطوات كاتماً الحزن وعلامات الاستفهام الكثيرة التي تدور داخلي، ماذا أقول لأمي، لأولاد أخي، لأخوته في القرية، لأخته الصغيرة التي تعشقه وتقلده في كل سلوكياته، ماذا أفعل: هل سيتم دفن أخي في القاهرة بجوار أولاده، أم يتم دفنه في مقابر الأسرة بصعيد مصر؟ ماذا لو مات في الطريق كما قال الطبيب، كيف أتصرف.. يا إلهي، ما كل هذه الكوارث التي حطت على رأسي في لحظة واحدة وبلا مقدمات.

أخيراً.. خرجت من غرفة الطبيب المشهور الأستاذ بمستشفى قصر العيني، حاولت أن أرسم بسمة مصطنعة على وجهي أقابل بها أخي الجالس في صالة العيادة والمتلهف للاطمئنان على حالته الصحية، حاولت أن أجد له مبرراً في تأخري داخل غرفة الطبيب، سارعت نحوه، احتضنته بقوة وكأنني لم أره منذ سنوات أو كأنني أودعه في المطار في رحلة طويلة، وعلى الرغم من كتمان دموعي، إلا أنه لاحظ ما بداخلي من حزن وألم.

سألني بكلمات حنونة وهو يتفحّص وجهي: مالك، ماذا قال لك الطبيب؟
بسرعة، قلت له: "كل خير ..الطبيب طمأنني عليك، مشاكل بسيطة في الرئة بسبب التدخين".

وبسرعة أيضاً واصلت كلامي حتى لا يلاحظ أي شيء غريب علي، قائلاً له وأنا أحاول رسم بسمة مصطنعة مزيفة على وجهي: "ألم أحذرك مرات عديدة من خطر التدخين، وطالبتك سنوات بالإقلاع عن هذه العادة الخطيرة، شفت النتيجة".

كلمات خرجت مني بعفوية وقلتها بسرعة خاطفة حتى لا يشعر بشيء، فقال بصوت منخفض به ندم: "والله عندك حق، إذا كانت المشكلة في التدخين سأقلع عنه من اليوم".
"لكن لماذا كل هذه الأشعة الكثيرة التي طلبها الطبيب.. لقد أشعرني مساعده وهو يجري التحليل وراء التحليل أنني في أزمة صحية عنيفة.. شعرت بأنني أموت اليوم أو غداً".
طرح سؤاله علي ونحن ما زلنا أمام باب العيادة، فقلت له "لا أبداً.. بعد الشر، ربنا يعطيك الصحة والعافية.. مشكلة بسيطة".

قلتها وأنا أحاول أن أبعد عيني عن عينيه الباحثين عن إجابة لملامح وجهي وأسئلتي الدفينة، أو يحاول أن يقرأ ما بهما من حزن، وربما أبعد عينيّ عنه خوفاً من المواجهة أو أن يفتضح أمري.

لم ننتظر "الأسانسير" حتى نهبط معاً، لا وقت عندي للإجابة عن أسئلة أخرى فرعية، فالرعب بات يسيطر عليّ، خاصة أن كلام الطبيب لا يزال يرن في أذني، خلال ثوانٍ كنا في الشارع، وبسرعة لوّحت بيدي لأقرب تاكسي، وفِي لحظة كنا بداخله.

أين سنتجه يا أستاذ؟
قالها سائق التاكسي وهو ينظر في المرآة وكأنه يكتشفنا لأول مرة أو يحاول أن يتعرف إلينا شأن كل السائقين.

وقبل أن أجيب السائق، سألني أخي: "هل نسيت سيارتك.. لقد أتينا بها للطبيب.. إنها مركونة هناك، أنت نسيت كعادتك"، وأشار إلى السيارة التي لا تبعد عنا سوى أمتار قليلة.

هنا ارتبكت أمام السؤالين، لأنني كنت أفكر في سؤال ثالث هو: أين سنذهب الآن، هل سنذهب إلى بيت أخي حتى يموت وسط أولاده ويجلس وسط أسرته الصغيرة في اللحظات الأخيرة من عمره، أم إلى بيت الأسرة الكبيرة في القرية التي ولد وترعرع بها وتبعد نحو 300 كم من العاصمة القاهرة حتى يعيش الساعات المتبقية وسط الأهل والحقول التي يحبها منذ صغره، أم إلى بيتي الذي لا يبعد عن عيادة الطبيب سوى كيلو متر واحد حتى يستريح؟

فجأة صرخت في سائق التاكسي قائلاً: "على مستشفى قصر العيني يا أسطى".
في الطريق إلى المستشفى سألني أخي: لماذا نذهب إلى المستشفى، ألم يطمئنك الطبيب وقال إن ما بي حاجة بسيطة؟

"أكيد".. قلتها وأنا أنظر بعيداً عنه حتى أخفي ملامح وجهي الحزينة والمرتبكة، وواصلت الكلام: "الطبيب طلب منا أن نذهب لطبيب زميل له في قصر العيني حتى نطمئنّ أكثر على صحتك".

وبينما نقترب من المستشفى، طلبت من السائق التوجه إلى وحدة غسيل الكلى حيث وجهتنا الجديدة، وفي الطابق الرابع للوحدة التقيت لوحدي بالطبيب وسردت له ما قاله لي زميله وزودته بصور الأشعة التي بحوزتي.

وبسرعة كانت إجابة الطبيب: "الحالة صعبة والموقف خطير، لكن يجب ألا نفقد الأمل في الله.. صحيح أن زميلي قال إن الأمل في العلاج صفر، لكن لنأخذ بالأسباب، الأمل في ربنا كبير واليأس خيانة، قالها وهو يطلب مني استدعاء أخي وبسرعة، وما هي إلا ثوانٍ وطلب مني الخروج لأنه سيتم التعامل مع الحالة من عمل تحاليل إضافية ثم غسيل للكليتين على الفور.

ساعات طويلة تمر ولا أحد يطمئنني وأنا أقف في ممر المستشفى، وكلما سمعت صوتاً قادماً نحوي أو قدماً تلامس الأرض ظننت أنه جاء ليبلغني بالخبر الفاجعة.. خبر الوفاة.

أخيراً، في الصباح، خرج الطبيب ليبلغني أن المريض راح في غيبوبة بسبب صعوبة غسيل الكلى وطول مدته في أول مرة، لقد استمر الغسيل نحو 12 ساعة، وسيستمر بهذا المعدل أياماً إلى أن يقل إلى النصف لمدة شهور عدة، وهذا كله يتوقف على تطورات الحالة، هكذا قال لي ووجهه شاحب من الإرهاق.

وتمر الأيام ويتجدد لدينا الأمل، وبين الأمل والأمل تأتي لحظات يأس قاسية على الأسرة، خاصة أمه السبعينية التي ما برحت الدمعة في عينيها منذ أن عرفت بالخبر المشؤوم، وبعد 6 شهور من الغسيل المتواصل للكليتين زاد لدينا الأمل، وزاد أكثر عندما أبلغ الطبيب الأسرة أن أخي يمكنه أن يعيش سنوات بشرط عمل غسيل للكلي 3 مرات أسبوعياً.

بعد مرور 13 سنة كاملة مررت أنا وأخي على الشارع الذي تقع فيه عيادة الطبيب الذي أبلغني بالخبر الفاجعة، سألني أخي ووجه يبتسم كالعادة: "قل لي بصراحة، ماذا قال لك الطبيب عندما كنا عنده أول مرة، ولماذا خرجت من عنده حزيناً مرتبكاً ووجهك شديد الصفار؟".

قلت له: "بصراحة وبدون زعل.. قال لي خذ أخاك وعد بسرعة إلى المنزل، لأنه سيموت خلال ساعات".. ساعتها ضحكنا كثيراً وكأننا لم نضحك من قلوبنا من قبل.

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".