ما يبدأ بحسنين هيكل ينتهي حتماً بسمير رجب(1)

ما يبدأ بحسنين هيكل ينتهي حتماً بسمير رجب(1)

18 فبراير 2019
+ الخط -

خمس صفحات من ملف كُتّاب السلطة في مصر
هل يمكن أن يستخدم أحد الآن تعبير (صاحبة الجلالة) في كل ما يخص الصحافة المصرية إلا على سبيل التنكيت أو التغتيت؟ هل يمكن أن ينكر عاقل حقيقة الأوضاع المزرية التي وصلت إليها الصحف المصرية والتي عادت بأكملها إلى عصر تأميم الصحافة، لتصبح الصحف الخاصة هي الأخرى ـ بضم الألف أو بفتحها إن شئت ـ صحفاً حكومية تخضع للرقابة الأمنية الصارمة وتدار بالتليفون من مكاتب ضباط الأجهزة السيادية؟ ألم يكن ما جرى لوسائل الإعلام المصرية وعداً قطعه عبد الفتاح السيسي على نفسه، حين قال أمام عدد من كبار ضباط جيشه أن تكوين الأذرع الإعلامية سيأخذ بعض الوقت؟ وهل يمكن أن نقرأ المشهد الصحفي والإعلامي بأكمله بعيداً عن عبارة السيسي الشهيرة "عبد الناصر كان محظوظاً بإعلامه" التي أدرك الكثيرون متأخراً أنها لم تكن مجرد أمنية مستحيلة التحقق، بل كانت ملخص برنامج عمل ساعد كثير من الصحفيين والإعلاميين للأسف على تحقيقه، حين تطوعوا لتسهيل مهمة نظام السيسي في استعادة روح "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" التي لم تقد مصر وشعبها إلا إلى الهزيمة والانحطاط.

هل يمكن أن نفصل ما جرى ويجري لصحافة مصر الآن عن اللحظة التي قال فيها جمال عبد الناصر لصحفي وأديب بحجم وتأثير إحسان عبد القدوس، بعد أن أخرجه من السجن في يوليو 1954: "هاه يا إحسان، اتربيت ولا لسه، طيب تعال افطر معايا ما تتأخرش"، أو اللحظة التي قال فيها أنور السادات لنقيب الصحفيين علي حمدي الجمّال: "إنت الظاهر مش نافع معانا يا علي"، قبل أن يوجه له شتيمة قبيحة، أو اللحظة التي قال فيها لنقيب الصحفيين صلاح جلال على الملأ: "إنت اسمك إيه"، فرد عليه: "صلاح جلال يا افندم"، فعاد السادات بعد قليل ليقول له متهكماً: "قلت لي من شوية اسمك إيه؟"، فترد جيهان السادات بحرج: "هو حد ما يعرفش صلاح جلال يا ريس"، فينهرها قائلاً: "اسكتي انتي يا جيهان" ليواصل إهانة نقيب صحفييه على رؤوس الأشهاد، أو اللحظة التي قرر حسني مبارك فيها نكاية في كبار الصحفيين الذين لم يقصروا في نفاقه وتملقه، أن يختار صحفياً متواضع الإمكانيات مثل سمير رجب ليصبح المتحدث الرسمي لنظامه؟ ليظل البقاء على رأس المواقع الصحفية مضموناً لمن يثبت قدرته على الذهاب إلى أبعد مدى في إثبات ولائه لمن أوصله إلى موقعه، وكلما تأكدت "وطايته" وزادت شراسته، كلما كان ذلك شفيعاً عند أصحاب القرار يغفر له ضعف أو انعدام موهبته.

في اعتقادي الذي أحاول تأكيده في هذه السلسلة من المقالات، أن ما وصلت إليه الصحافة المصرية الآن من انحطاط وتدهور، كان نتيجة حتمية للطريقة التي تشكلت بها علاقة رؤساء التحرير وكبار الصحفيين مع رؤساء الدولة خلال الفترة التي أعقبت قيام ثورة يوليو 1952، والتي لا زالت حاكمة ومؤسسة للواقع المصري في شتى جوانبه، وهو ما أسعى لتأمله من خلال قراءة لأداء خمسة صحفيين من "كُتّاب السلطة" الذين شغلوا منصب رئيس التحرير في أوقات متفاوتة، كنواة لدراسة أوسع عن العلاقة بين رئيس التحرير ورئيس الجمهورية خلال العقود الستة الماضية التي تحول فيها تعبير (صاحبة الجلالة) إلى أضحوكة مثيرة للحزن والقرف.
...
الصفحة الأولى:
هيكل الذي سكن قلب عبد الناصر وأسكن السادات عرش مصر

إذا كنت تحب محمد حسنين هيكل وتنبهر بأسلوبه في الكتابة والحديث، سيغضبك كثيراً مجرد تصنيفه ضمن "كُتّاب السلطة"، ووضعه جنباً إلى جنب مع من هم أقل منه مقاماً وقدراً، وأنا أقدر شعورك تماماً، فمن منا لم يعجب بأسلوب "الأستاذ" هيكل، وبقدرته المدهشة على توظيف الوثائق والشهادات الحية لتدعيم كتاباته، ومن منا لم يتأثر ولو إلى حين ببعض كتاباته وتصريحاته "النارية"، لكن هل يعني ذلك أن ننسى حقيقة أن محمد حسنين هيكل كان النموذج المعياري الذي تشكلت على أساسه علاقة رؤساء التحرير وكبار الكُتّاب برأس السلطة السياسية عقب ثورة يوليو 1952، وهي حقيقة لا علاقة لها بمحبة أسلوبه أو كراهية مواقفه، ويمكن أن تدركها حين ترصد مشوار هيكل وتاريخه المهني؟

بالتأكيد، تميز هيكل عن غيره من الكتّاب والصحفيين الذين ارتبطوا برأس السلطة، بأنه كان أبرز من نجحوا في التحول من كاتب سلطة يعمل في خدمة الساسة وأصحاب القرار، إلى كاتب ذي سلطة تفوق أحياناً سلطة الساسة وأصحاب القرار، وذلك بفضل موهبته وذكائه وانضباطه، ومثلما يمكن أن نعتبر ذلك أهم مميزاته، فإنه يمكن لنا أن نعتبره بالمثل أهم عيوبه، لأن هيكل بفعل هذه السلطة التي اكتسبها خلال عقدي الخمسينيات والستينيات بالتحديد، أصبح مسئولاً عن خطايا وجرائم كثيرة حدثت في وقت لا يمكن أن يُنكَر فيه تأثيره على صانع القرار، وهو ما عبّر عنه جمال عبد الناصر أفضل تعبير، حين قال عن علاقته بهيكل في حوار صحفي شهير إن هناك فرقاً شاسعاً بين هيكل وبين بقية الصحفيين، فهم "دائماً يسألونني عن الأخبار الجديدة والمشروعات الجديدة أما هيكل فهو الوحيد الذي يكتب ما لم أبح به وكان مجرد خواطر داخل رأسي، وقبل أن أحدث عنه، وحده الذي يستطيع أن يوصل رسالتي إلى الناس، لأنه يسكن داخل عقلي".

لم يصل هيكل إلى هذه النتيجة من فراغ، بل عبر علاقة طويلة بدأها مع عبد الناصر، منذ التقيا معاً لأول مرة في فلسطين، وبالتحديد في 2 يونيو 1948 حسبما يروي هيكل في كتابه (بين الصحافة والسياسة)، وهو ما أثار الكاتب رشاد كامل حوله كثيراً من الملاحظات في كتابه (ثورة يوليو والصحافة)، مشككاً في صحة هذه المعلومة، لكن، أياً كان التاريخ الفعلي الذي التقى فيه الاثنان، فالمؤكد أن هيكل أصبح بعد فترة وجيزة من قيام الثورة الصحفي الأقرب إلى عقل وقلب عبد الناصر، والمؤكد أيضاً أنه ساهم برأيه ومعلوماته في اتخاذ قرارات كثيرة في فترات حرجة من تاريخ الثورة.

لم يختر عبد الناصر هيكل ليكون الصحفي الأقرب إليه، بل سعى هيكل جاهداً لينال هذه المكانة، وسط منافسة شرسة مع صحفيين مثل مصطفى أمين وحلمي سلام وإحسان عبد القدوس وغيرهم من الذين سبقوه للاقتراب من عبد الناصر، ولن نجد هنا مثالاً أبرز على ذلك السعي المحموم، مما حدث في مؤتمر باندونج عام 1955، حين كان كبار صحفيي مصر ينتظرون ما سيجود به عليهم عبد الناصر من أخبار وتصريحات، لكي ينقلوه إلى قرائهم، في حين أدرك هيكل أن الأهم وقتها ليس ما سيوصله إلى قرائه في مجلة (آخر ساعة) التي كان رئيساً لتحريرها، بل ما سيوصله إلى عبد الناصر من أخبار الوفود المشاركة في المؤتمر، ولذلك قرر أن يعمل كخلية نحل لإيصال المعلومات والأسرار إلى عقل عبد الناصر الذي كان نجمه الصاعد يحتاج إلى أن يبهر أقرانه الأكبر منه سناً وخبرة، وهو ما ساعده عليه هيكل بقوة، طبقاً لعدد من الشهادات التي يوردها صلاح منتصر حين حاول أن يجيب على سؤال (هيكل شاهد أم شريك؟) في صحيفة الأهرام بتاريخ 1 مايو 1983، مؤكداً أن جميع الشهادات تؤكد أن صورة عبد الناصر في تلك اللحظة المفصلية من تاريخه السياسي، كانت ستختلف كثيراً لولا دعم هيكل ومساندته، وهو ما يؤكده المفكر الدكتور فؤاد زكريا في كتابه المهم (كم عمر الغضب) حين يرى أن هيكل بدأ بالعطاء لعبد الناصر. وفيما بعد سددت له هذه الديون أضعافاً مضاعفة، عن طريق فتح خزائن الأسرار كلها له، وهكذا كان سلاح الأرشيف ذا حدين، يعطي أولاً ثم يأخذ بعد ذلك بلا حدود، على حد تعبير فؤاد زكريا.

لم يتوقف الأمر عند محطة باندونج، التي يرى البعض أن تعاون هيكل الوثيق مع عبد الناصر فيها كان مهماً على الصعيد الوطني، وهو ما يغفر لهيكل عندهم تحويل اهتمامه من قارئه إلى رئيس الدولة، لكن هؤلاء يتناسون أن ذلك التعاون لم يكن الاستثناء الوحيد الذي فرضته الضرورة، بل أصبح سمة ثابتة للعلاقة بين الاثنين، حيث أصبحت معلومات هيكل وأسراره التي يجمعها من مصادره المتعددة داخل وخارج مصر، مصدراً رئيسياً من مصادر اتخاذ عبد الناصر لقراراته اليومية، لتتضاعف أهمية تلك المعلومات والأسرار بعد أن زادت مكانة هيكل الصحفية، حين تم تعيينه رئيساً لتحرير صحيفة (الأهرام) التي تحولت معه لتصبح الصحيفة الأهم والأكثر نفوذاً في البلاد، ولم يكن دور هيكل مقتصراً على عظائم القرارات، بل كان مرتبطاً بصغائرها في بعض الأحيان، خذ عندك على سبيل المثال لا الحصر هذه الواقعة التي يرويها مصطفى وعلي أمين، والتي حدثت في المرحلة التي كانا لا يزالان فيها صديقين حميمين لهيكل، قبل أن يتحولا إلى عدوين لدودين، كان الأخوان أمين قد حضرا جلسة خاصة جمعت عبد الناصر مع عدد محدود من الصحفيين كان من بينهم هيكل، وفي وقت معين من الجلسة قال هيكل بحماس لعبد الناصر: "أمّا يا ريس أنا امبارح اتعشيت عشاء ملوكي عند سعد فخري عبد النور، أكلنا أكل من مكسيم ـ المطعم الفرنسي الشهير ـ في أطباق ذهب وسكاكين ذهب وشِوَك ذهب"، فانتفض عبد الناصر وذهب إلى التليفون على الفور، وهو يسأل هيكل:" اسمه إيه بتاع مكسيم ده"، لتصدر صحف اليوم التالي وهي تحمل أخبار القبض على سعد فخري عبد النور ووضعه هو وأخويه موريس ومنير تحت الحراسة، وإذا كنت ستتعامل مع هذه الواقعة بوصفها تشنيعة من الأخوين أمين، انتقاماً من موقف هيكل منهما، فيكفي أن تقرأ أي كتاب من الكتب التي روى فيها هيكل شهادته على فترة حكم عبد الناصر، لتكتشف بنفسك كم وكيف كانت معلومات هيكل مؤثرة في صياغة قرارات عبد الناصر.

في حوار أجراه الصحفي اللبناني الكبير سليم اللوزي مع هيكل سنة 1971، سأله: "هل كنت ستحقق كل هذا النجاح لو لم يكن لك ذلك المركز الممتاز عند عبد الناصر"، فأجاب هيكل قائلاً: "الذي صنع لي مركزي عند عبد الناصر شيء واحد هو قدرتي على خدمة الهدف العام الذي كان يسعى إلى تحقيقه، ليس هناك أي سبب آخر، فلم نكن أصدقاء قبل الثورة ولم أكن أقرب الناس إليه"، وهي إجابة تمثل اعترافاً صريحاً من هيكل بأنه لم يكن معنياً بالتزامه أمام قارئه، بقدر التزامه أمام رئيس الدولة، وهو منهج في الحياة الصحفية أصبح من حق من هم أقل منه موهبة ومهنية أن يفاخروا بفعله مستخدمين نفس الأسباب التي ساقها هيكل، وهي أن خدمة أهداف رئيس الدولة العامة تشكل خدمة للوطن. من المهم هنا أن نشير إلى أن إجابة هيكل التي أكدت على أنه لم يكن صاحب مكانة خاصة لدى عبد الناصر، لقت انتقاداً من بعض مجايليه الذين يؤكدون أن ذلك كان مختلفاً عما كان يعلنه هيكل في كل المحافل، حين كان عبد الناصر على رأس السلطة، وأن ما قاله لسليم اللوزي في ذلك التوقيت بالذات كان يعني به التنصل من دوره مع عبد الناصر مغازلة منه لرأس السلطة الجديد أنور السادات.

ربما كان من أشد تلك الانتقادات لهجة ووضوحاً ما كتبه الصحفي الفلسطيني المخضرم ناصر الدين النشاشيبي ـ والذي كان صديقاً لهيكل لفترة طويلة ـ حيث وجّه إليه في كتابه المثير للجدل (حضرات السادة المحترمين) أسئلة وجيهة ومهمة جاء نصها كالتالي: "من كان أكثر الناس أثراً وتأثيراً على عبد الناصر؟ من كان يستهين بالمواقف ويهزأ بالإنذارات ويضحك من التهديدات لكي يبقي على مكانه لدى عبد الناصر؟ من الذي كان يؤكد أن إسرائيل لن تحارب وأن العملية مجرد لعبة بوكر سلاحها قوة الاعصاب لا قوة الحرب؟ من الذي قرّر ونصح؟ من الذي سمّى الهزيمة نكسة وأضاع البلد في غمرة قرار مرتجل أمر بإغلاق المضايق وطلب سحب القوات الدولية؟ ألم يكن هيكل هو الذي لا ينام في الثالثة صباحاً إلا بعد مكالمة تليفونية من عبد الناصر؟ ألم يكن سفير بريطانيا ينتظر في مكتب هيكل لمدة ساعة دون شكوى مجاملة منه لهيكل؟ ألم يكن هيكل هو صاحب النفوذ الذي جعل أحمد عبود باشا أغنى رجل في مصر يتمايل أمام هيكل ليقول له "أنا يا ناس هيكلي"، وجعل السادات ينصح أحمد يونس قائلاً: "هيكل ما حدش يقدر يصطدم بيه"، وجعل الزعيم السوري فخري البارودي يقول لهيكل "احنا خدامينك سيدي هات إيدك أبوسها"، وجعل عبد الناصر لا يتحرج أن يسأل هيكل أمام الصحفيين بعد خطاباته التي كان يكتبها له مثلما كتب له كتاب (فلسفة الثورة) وغيره، ليقول له هيكل "تمام يا افندم".

بالطبع لم يجب هيكل على هذه الأسئلة، على كثرة ما أجاب عنه من أسئلة طيلة حياته الحافلة بالأضواء والضوضاء، ولو حتى من باب الاستعداد الأمين "لتحمل نصيبه من المسئولية" على حد تعبيره الشهير الذي كتبه لعبد الناصر في خطاب التنحي؟ بل على العكس تماماً، ستجده على الدوام مبررا ومبرئاً لنفسه عن كل أخطاء عهد عبد الناصر، بشكل يصل إلى حده الأقصى في كتابه الشهير (الانفجار) الذي أدلى فيه بشهادته عن هزيمة 1967، التي قام بصك التعبير الرسمي المعتمد لها فيما بعد "النكسة"، وهو ما ناقشه مطولاً الدكتور فؤاد زكريا في كتابه (كم عمر الغضب) وهو يقوم بتشريح مواقف هيكل الذي يستثني نفسه من اللوم دائماً ويصب اتهاماته على الغير، وكأنه كان طوال الوقت مشاهداً محايداً وناصحاً أميناً، لا يستمع إليه أحد، دون أن يقوم ولو لمرة بنقد ذاته ومواقفه.

عندما مات عبد الناصر وجاء أنور السادات خلفاً له، سيروي محمد حسنين هيكل لنا في كتابه الأشهر (خريف الغضب) أن اختيار السادات نائباً لعبد الناصر كان مصادفة، وأن سجل السادات كان حافلاً بالشبهات، متناسياً أنه روى من قبل أنه ساند السادات في صراعه على السلطة مع من أصبح الكثيرون يطلقون عليهم "رجال عبد الناصر"، كأن السادات وهيكل لم يكونا أيضاً من رجاله وأعوانه، وكأن هيكل لم يكن صاحب الدور الأكبر في تثبيت السادات على رأس السلطة، وهو ما لم يتذكره بعد ثلاث سنوات فقط من اندلاع "ثورة التصحيح"، حين تحول هيكل من كاتب سلطة السادات ومسانده الأول ومثبته على عرش مصر إلى أشد معارضيه شراسة، بعد سلسلة من الخلافات الشخصية والخلافات الموضوعية أيضاً.

بعد أن مات السادات، حاول هيكل أن يقنع قراءه بأنه كان يعلم أسباب القصور في شخصية السادات منذ البداية، لكنه تصور أنه سوف يتطور مع الوقت، فخيّب السادات ظنه، حسب ما قاله هيكل في كتاب (خريف الغضب) وقاله أيضاً في حوار طويل ومهم له مع الأستاذ صلاح عيسى، وهو ما استفز الدكتور فؤاد زكريا، وجعله يسأل هيكل: "ما الذي أرغمك على هذا التصور يا سيد هيكل، ألم يخطر ببالك أن الحكم والسلطة ستزيد السادات فساداً"، معتبراً أن هيكل بما قاله يهين عقل القارئ الذي لن ينسى أن هيكل سبق له وأن تفاخر بفضله في مؤازرة السادات ليصبح رئيسا لمصر، وأن هيكل قدّم لوقائع حياة السادات وجهين: وجهاً ساطعاً وبراقاً في عامي 1971 و1972 حين سانده بكل ما يملك لينفرد بحكم مصر، ووجهاً قاتماً في عام 1983 حين أصدر كتابه (خريف الغضب).

في حواره مع صلاح عيسى يقول هيكل إن السادات "كان يشعر بالفارق بين علاقتي به وعلاقتي بعبد الناصر وربما كان إحساسه بأنني لعبت دوراً في توليه السلطة، لم يكن يعطيه سعادة، فالإنسان عادة لا يسعد بأن يكون مديناً لأحد"، ثم يروي كيف أن السادات طلب منه أن يكتب عن ثورة السودان التي قام بها جعفر النميري في ذلك الوقت فقال له هيكل: "أخشى أن تفهم أن عبد الناصر كان يحدد لي ما أكتب فيه وهذا غير صحيح، وأنا أعترض على أن تحدد لي ما أكتب فيه"، لكنه يتناسى أن السادات وبعد أن حدثت فترة من القطيعة بينه وبين هيكل، طلب من هيكل أن يكتب له أحد خطاباته، فلم يمانع هيكل أو يتحفظ على الطلب، لو كان جاداً في عزمه على أن يبعد نفسه عن السادات وسياساته، بل وجدناه يستمر في تقليب إشاراته الخضراء في وجه السادات بعد خروجه من الدائرة المقربة منه، وظل يفعل ذلك برغم تزايد جفاء السادات تجاهه، حتى انقطعت السبل بينهما تماماً، بعد ترجيح السادات لكفة موسى صبري في الصراع الذي ظل مستمراً لفترة قصيرة بينه وبين هيكل على موقع الحظوة الأبرز لدى السادات.

ذات مرة، قال إحسان عبد القدوس لموسى صبري في شهادة نشرها موسى في حياة الاثنين: "طريقة هيكل هي أن يستولي على الرأس الكبير أولاً في أي مكان، فقد استولى على رأس والدتي روز اليوسف ثم استولى على رأس محمد التابعي، ثم على رأس التوأمين مصطفى وعلي أمين ثم على رأس عبد الناصر"، ولعل ذلك ما استدعى سؤالاً منطقياً طرحه الكاتب الصحفي محمود فوزي: "إذن لماذا لم يستول هيكل على رأس السادات؟"، وهو سؤال تعددت الإجابات عليه لدى شهود المرحلة ودارسيها، لكنني أتوقف عند إجابة طرحها كاتب السادات المفضل أنيس منصور في أحد حواراته حين قال: "السادات كان يرى في هيكل أنه لا يمكن أن يكون صديقاً له أو مخلصاً لأنه ببساطة شاف السادات وهو صغير بينما هيكل كان كبيراً ... لقد كان السادات يعتقد أن هيكل لا يمكن أن يخلص له مثلما أخلص لعبد الناصر الذي اصطفاه وفضّله على العالمين".

ثمة إجابة أخرى على ذلك السؤال يقدمها السادات نفسه في حوار له مع موسى صبري قال فيه: "كان هيكل أخطر مركز قوى في عبد الناصر، لأنه كان يتولى الدعاية للنظام، كان المخرج الفني، لذا أشركه عبد الناصر في كل تفصيلات الأمور، لدرجة أن هيكل اقتنع فعلا أنه شريك في الحكم"، ولأن السادات كان مثل "الفريك ما يحبش الشريك"، فقد وصل صدامه مع هيكل إلى أن يقول لهيكل يوماً ـ حسبما ينقل الكاتب حنفي المحلاوي في كتابه (السادات بين هيكل وموسى) ـ "تفتكر إن الناس في مصر هيفضلوا لفترة طويلة يقرأوا لصحفي واحد فقط، هو هيكل؟ المفروض إن ده وضع لازم يتغير فوراً، ليرد عليه هيكل قائلاً: "إذا كان كلامك ده حقيقي يا ريس، فهذا وضع أحسن مما هو حادث الآن، إن كل الصحفيين في مصر الآن يكتبون لقارئ واحد هو السادات"، وإذا صدقنا تماماً وقدّرنا جداً شجاعة هيكل التي جعلته يكاشف السادات بتلك الحقيقة المرة، إلا أنه للأسف نسي أن إجابته تلك تطرح سؤالاً مهماً كان من واجبه أن يجيب عليه، هو: "هل كان الصحفيون في عهد عبد الناصر يكتبون لقارئ غير عبد الناصر؟".

إن هذا السؤال البرئ ـ أو الساذج إن أردت أن تعتبره كذلك ـ هو لُبّ المشكلة في قراءة قصة علاقة هيكل بكل من عبد الناصر والسادات، وإذا كانت علاقة هيكل بعبد الناصر تمثل "صداقة الحظ والشرف" كما وصفها هيكل، يظل من حقنا وواجبنا أن نعرف بعد أن جرى للبلد ما جرى، هل كانت تلك الصداقة سبباً فقط في إصلاح مسار قرارات خاطئة كما شهد بذلك رجل الأعمال محمد محمد فرغلي الشهير بلقب ملك القطن في كتابه (عشت مع هؤلاء)، وهي شهادة تلقاها هيكل بامتنان شديد، مع أنها طرحت أسئلة عديدة لم يجب عليها هيكل بشكل واضح في كتابه (لمصر لا لعبد الناصر)، أسئلة عن دور هيكل في القرارات السياسية التي أدت لحدوث هزيمة يونيو، وعن مسئوليته في دعم ما جرى من كبت للحريات بشكل أصبح العديد من عقلاء الناصريين يعترفون أنه أدى إلى هدم إنجازات ثورة يوليو الاجتماعية التي "لولاها لظللنا فلاحين حفاة عراة نجري وراء عربات الرش في عزبة الباشا"، كما يحلو لمهاويس الناصريين أن يلخصوا تأثير تلك الإنجازات وأهميتها، وهو ما سيقود بدوره إلى سؤال أهم يرتبط بواقعنا التعيس الآن: لماذا ظل محمد حسنين هيكل متمسكاً بتصوير أن الأخطاء والإخفاقات التي حدثت في عهد عبد الناصر، حدثت كلها غصباً عن عبد الناصر وغصباً عنه أيضاً كناصح أمين، بعد أن تسببت فيها القوى الدولية المتآمرة على مصر والرافضة لنهضتها.

على مدار سنين طويلة، نسي محمد حسنين هيكل أن ذلك المنطق الذي استخدمه في الدفاع عن عبد الناصر، هو نفس المنطق الذي استخدمه من خلفوه في موقع (كاتب السلطة الأول) في ظل حكم جميع الحكام الذين تلوا عبد الناصر، بما فيهم أنور السادات الذي يرفض هيكل أن يعترف أنه قام ببساطة بتغليب مصلحته الشخصية، حين وقف إلى جواره ضد خصومه الذين طالما عادوه بشكل شبه معلن خلال سنوات ما بعد الهزيمة، وبما فيهم حسني مبارك الذي حاول هيكل التجاوب معه بعد خروجه من السجن، لكي يلعب دور الناصح الأمين، ليس لشخصه ومصالحه، بل "من أجل تحقيق الأهداف العامة". وبعد أن تم منعه من لعب هذا الدور الذي بدأه في مقالاته التي نشرت بعضها صحيفة (أخبار اليوم)، ثم تم وقف نشرها فجأة، أعلن هيكل في لقاء عام تم تنظيمه له بمعرض الكتاب في مطلع عام 1990 أنه متفائل بمستقبل مصر الاقتصادي، وأنه يقدر الجهد العظيم المبذول في السياسة الخارجية، وأن "أي تغيير للنظام الحالي ستكون تجربة محفوفة بالمخاطر وأن الخروج عنه ليس في صالحنا". كما أكّد أنه ليس ممنوعاً من الكتابة في عهد مبارك وكل ما هنالك أن كتاباته تسبب الحرج لأصدقائه لذلك قرر التوقف عن نشرها.

وفي حوار نشرته مجلة (المصور) بتاريخ 8 مايو 1992 أعلن هيكل قائلاً: "لن يتمكن أحد من الذين ينتقدون كتابي عن حرب الخليج إحداث وقيعة بين الرئيس مبارك وبيني"، ثم أعلن بعدها بثلاثة أعوام في حوار له مع مجلة (المصور) بتاريخ 20 يناير 1995 أنه ليس "معارضاً ولا معادياً للرئيس مبارك وإنما في حالة حوار معه"، قبل أن يتطور موقفه فيما بعد بشكل أشجع وأفضل، ويصبح صاحب أدق تعبير في وصف سلطة مبارك "التي شاخت فوق مقاعدها"، ويلعب في السنوات التالية على إطلاقه لهذا التعبير المزلزل، دوراً مهماً ومشرفاً في معارضة نظام مبارك جلب له هجوماً شرساً من خلفائه في خدمة أهداف الدولة، لكنه جلب له أيضاً احترام ومحبة الكثيرين من أبناء الأجيال التي لم تعاصر مشاركته في حكم البلاد. وبرغم كل تلك الشعبية التي جعلت التنكيل به صعباً على النظام الذي توطدت علاقة بعض أبناء هيكل الاقتصادية والمالية بعدد من كبار رجالاته وأبنائهم، لم يقدم هيكل مراجعة صادقة وشاملة للدور الذي لعبه الاستبداد السياسي في خلق مشاكل مصر التي كان يستفيض في عرضها والتحذير من عواقبها. ولذلك لم يكن غريباً ألا يشير في سيل حواراته وتصريحاته، إلى أن مبارك كان في نهاية المطاف يحكم البلاد بسياسات وإجراءات وعقلية نظام يوليو الذي شارك هيكل صديقه عبد الناصر في صنع وتثبيت معالمه وملامحه.

لم يتذكر هيكل تلك الحقيقة المهمة أيضاً حين اندفع بكل ثقله في تأييد نظام عبد الفتاح السيسي عقب إسقاط حكم جماعة الإخوان المسلمين، فعاد من جديد لهوايته في كتابة البيانات والخطابات الرئاسية، وتوصيل الأخبار والأسرار في المكالمات المنتظمة، ولم يتردد في السعي لتجميل وجه النظام الدموي بكل ما امتلكه من علاقات دولية، في وقت كان نظام السيسي يعتبر الضغط الخارجي عليه عدوه الأول والأخير، وحين خاب أمل هيكل سريعاً في حليفه الجديد، الذي لم يحقق حلمه في بعث روح صديقه القديم من قبره وتقمصها، قام بتلخيص خيبة أمله منه في عبارة بليغة قالها خلال واحد من آخر حواراته التلفزيونية: "أنت لا تستطيع أن تطبق سياسات عبد الناصر بأسلوب اسماعيل صدقي"، ليضيف إلى الأسئلة التي كان من الواجب أن يجيب عليها قبل أن يرحل عن الدنيا سؤالين مهمين وحاسمين: "هل كان أسلوب جمال عبد الناصر في إدارة البلاد والتعامل مع المعارضين مختلفاً في جوهره عن أسلوب اسماعيل صدقي حتى وإن اختلفت نوايا الاثنين وأهدافهما؟ وهل كان أسلوب محمد حسنين هيكل في العمل التطوعي المحموم في خدمة أهداف رئيس الجمهورية، بدلاً من العمل في خدمة القارئ وحده، مختلفاً في جوهره عن أسلوب خليفته سمير رجب أو أسلوب تلميذه مصطفى بكري؟".
...
غداً بإذن الله:
الصفحة الثانية: موسى صبري الذي رفع على طول الخط شعار (تمام يا افندم)

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.