عندما يلعب الزهر

عندما يلعب الزهر

14 فبراير 2019
+ الخط -
كثيرًا ما أقرأ لمتنبي العصر، محمد مهدي الجواهري، وأطوف معه عوالم ماتعة، ونعود معًا إلى زمن الشعر العربي الرصين. ويحدث أن تزاحمك الهموم بين حين وآخر، وتبحث عن حل لها في "سلقط في ملقط"؛ فتعييك السبل وتذعن لقضاء الله وقدره، وما أروع قول الجواهري: (تجري على رسلها الدنيا ويتبعها/ قول بتعليل مجراها ومعتقد).

وساعة تطرق الأحزان بابك؛ فأنت إما أن تتسلح بقوة يمدّك بها إيمانك بالله، أو تطلق ساقيك للاكتئاب والذبول، لكن تدبر الحكمة مما تكابده، واختر ما يعود عليك بالخير، والله لا يعجل بعجلة أحدنا. أحيانًا ترى في نفسك هونًا شديدًا وضعفًا عن مجاراة الأحداث، وساعة تجيل طرفك في دنيا الناس ترى عجبًا؛ فالدنيا لمن ثابر وصابر، وفي أخبارهم عبرة لمن يريد التغلب على نوائب الدهر.

الجميع يرجو أن يلعب الزهر، ولي صديق يدير مشروع "دي جي"، وأخذ على نفسه عهدًا أن يفتتح كل حفلاته بأغنية أستاذ الطرب الأصيل أحمد شيبة "آه لو لعبت يا زهر"، وبالمناسبة فإن لقب الفنان "شيبة" لا علاقة له بقريتي "شيبة النكارية" و"شيبة القش" في محافظة الشرقية. المهم أن لعب الزهر مطلب شعبي، ولكن الزهر ليس على هوانا، ويتعين علينا أن نأخذ أنفسنا بالصبر والجلد.


واسمح لي أن نفتح بطن التاريخ - مع كامل الاحترام لأستاذنا بلال فضل - ونعاين كيف تعامل بعضهم مع الهموم وضيق الظروف، وهل أسلمه ذلك للاكتئاب القاتل؟ أم أنه تعرّض لمسحة خفيفة من الاكتئاب؟ ومن دون إطالة في غير طائل، نصل معًا إلى شاهد عيان ينقل لنا خبرًا حصريًا من مدينة السلام (بغداد)، إنه أبو علي الصوفي، وكان له صاحب يبيت في الحدائق العامة تارة، وفي محطات الوقود أخرى، وثالثة في كوستا كافيه وكاريبو كافيه ورابعة في سيارته الصغيرة.

المهم أن الصوفي سمع صاحبه "يبرطم" بكلام لم ينتبه له، وطلب منه أن يعيده مرة أخرى، وبعد إلحاح قال الرجل لأبي علي الصوفي: أنشد بيتين من الشعر أظنهما يعبّران عن حالتي النفسية والاجتماعية؛ فقال الصوفي:أسمعنيهما! فأنشد الرجل قائلًا: (ألا موتٌ يُباعُ فأشتريهِ/ فهذا العيشُ ما لا خيرَ فيه/ ألا رَحِمَ المهيمنُ نفسَ حرٍ/ تصدَّق بالوفاةِ على أخيه). كلام في غاية الخطورة، ولك أن تتصور أن الرجل يتمنى أن يتصدق عليه أحدهم بالوفاة، ولا يكون ذلك إلا إذا عضّه الدهر عضًّا شديدًا لا يحتمله بشر (ولا بني آدميين! على رأي الأستاذ حزلقوم).

وصول الرجل لمرحلة تمنّي الموت يعني دخوله في اكتئاب حادّ، وربما ينقلب إلى اكتئاب مزمن ويُفضي به إلى الانتحار. لكن الله لطيف بعباده، وما بين غمضة عينٍ وانتباهتها يغيِّرُ الله من حالٍ إلى حال. انفضَّ الناس عن الرجل - وكأنه كلبٌ أجرب - ولم يتصل به أحدهم، وظنوا أن فقره مُعدٍ قياسًا على أن الحماسة تعدي، وتركوه يدور في طاحونة الشقاء وحيدًا، وقد أجمعوا أنه هالك لا محالة. في هذه الأثناء، كان الصوفي قد سافر في إعارة عمل إلى بعض البلاد، وفور عودته إلى العراق اجتهد أن يصل إلى الرجل دون جدوى.

وفي بعض الأيام، دخل الصوفي البصرة فرأى الكهارب والزينات، وقد انطلقت الشماريخ والصواريخ إيذانًا باحتفالات أضواء المدينة، ولم يفهم الصوفي مبعث هذه المهرجانات فسأل من حوله؛ فأجاب بعضهم: فلان الفلاني! عقبال أملتك، رجل الدولة ووزير أحمد بن بويه! وما إن سمع الصوفي الاسم، حتى سقط فكّه السفلي إلى الأرض دهشةً؛ فهذا صاحبه الذي تمنى الموت قبل سنوات.

التمس الصوفي الوصول إلى رجل الدولة، وجلس بين الوفد وطلب الإنشاد؛ فلما أُذِن له قال: (ألا قل للوزيرِ بلا احتشامٍ/ مقالَ مذكِّرٍ ما قد نسيهِ/ أتذكُرُ إذ تقولُ لضيقِ عيشٍ/ ألا موتٌ يُباعُ فأشتريهِ)؛ فلما سمعها الوزير ضحك وقال للصوفي: نعم! أذكر ذلك ولا أنساه، لكن الزهر لعب، وأنا اليوم أبو محمد الحسن بن المهلبي الوزير، والدنيا حبة فوق وحبة تحت.

دلالات