هزليات السياسة الأسدية (4)

هزليات السياسة الأسدية (4)

09 ديسمبر 2019
+ الخط -
استطاع أبو الجود أن يثير فضولنا نحن الحاضرين في جلسة الإمتاع والمؤانسة بمدينة إسطنبول. أدهشنا بحكايته مع ضابط الأمن الذي كان ينوي وضعه في الدولاب وضربه بالعصي والسياط، ولكن الضابط اكتشفَ أن "أبو الجود" يحفظ خطابة طويلة عن الحركة التصحيحية مكتظة بعبارات المديح لحافييظ الأسد، فأعجب به، وطلب منه أن يملي عليه ما يحفظ، ثم عفا عنه، ولو لم يكن ذلكم الضابط بخيلاً وجشعاً لأعطاه مكافأة مالية، لأنه أنقذه من أزمة كتابة خطابة لإلقائها على الرفاق المناضلين في اليوم التالي.

قال كمال: أنا بعترفْ إنه أبو الجودْ عَنْدُه خبرة حياتية أحسن من خبرتي، وأغنى. كنت عَمْ راهنْ على إنه العلاكْ المصدّي اللي بيقولوه الخطباءْ في مواسمْ الزعبرة تبع ثورة آذار وميلاد البعث والحركة التصحيحية إذا حمي المَزَادْ ما بينباعْ بفرنك سوري، قام أبو الجود أثبتْ لي العكسْ لما حكى لنا كيفْ إنه استفادْ من الخطابة، وخَلَّا الضابطْ الحقيرْ يعفي عنه!
قال أبو جهاد: والله يا أستاذْ كمال أنا بعرفك ذكي ولماحْ، وما بيجوزْ تضيِّعْ معلميتَكْ في واحد عَلَّاك متلْ أبو الجودْ. أخي أنا بدي إسألك سؤال، وبطلب منك تجاوبني بصراحة.

قال كمال: تفضل.


قال أبو جهاد: لولا إنه أبو الجود منحوسْ، ولولا إنه تْعَلَّمْ سواقة السيارة، ولولا إنه هالضابط حرامي وطَمَّاع وكان عم يدور على شوفير "خروق" قاعدْ بلا شغلْ وما حدا عم يرضى يشغله، ولولا إنه هالشوفير الخروقْ اللي اسمه أبو الجودْ كان بيرضى يشتغلْ بأجرْ قليلْ، ولولا إنه أبو الجود سَرَقْ من غلة السيارة تبعْ الضابطْ، ولولا إنه الضابط استدعاه ليعمل له فلقة بالدولابْ، ولولا إنه تزامنِتْ دعوتُه مع ذكرى الحركة تبعْ حافييظْ، ولولا تكونْ الخطابة اللي بده يلقيها تاني يوم ع الرفاقْ معصلجة معه.. من وين كان صار للعلاكْ المصدي اللي بيحفظُه أبو الجودْ قيمة؟ بعدين أبو الجود ما بذلْ أي جهد ليتعلم الخطابات.. إذا ما عندك مانع أنا بحكي لك شلونْ تعلمها.

قال أبو محمد: كلام أبو جهاد صحيح. بس أنا بالفعل بحب أعرفْ شلونْ أبو الجود حفظ كل هالحكي؟

قال أبو جهاد: يا سيدي في سنة من السنين كنا نسهرْ ونلعبْ بورقْ الشَدّة في بيتْ صديقنا أبو عبدو في الحارة القبلية في معرتمصرين. وكان أبو الجود متابعْ مسلسلْ ليالي الحلمية اللي بيطلعْ في التلفزيونْ السوري بعد نشرة الأخبارْ. وصادفْ عرضْ المسلسل بهديكة السنة مع احتفالات الحركة التصحيحية. وأبو الجود كان يلعبْ بالورقْ ويخلي إدنه متعلقة بالتلفزيون منشان يشوف الحلقة لما تطلعْ. وكانت تمر ساعتين أو تلاتة وتبقى الخطابات شغالة ومستمرة، وكل الخطابات بتشبه بعضها البعض. بعدين أبو الجود صارْ يخلط بين لعبْ الشدة والخطاباتْ.

قال أبو زاهر: أفّ! شلون بقى هاي؟

قال أبو جهاد: كان يقول حطوا خمساوية الديناري أيها الإخوة المواطنون. بدي أَطَرْنِبْ بالجويزة يا أحفاد خالد بن الوليد، مع مين ختيارْ الكبة أيها الرفاق المناضلون الملتفون حول قائد المسيرة؟.. ويلتفت كل شوي ويقول: لسه ما طلع المسلسل؟!

ضحك الأستاذ كمال وقال: شوفوا هالمفارقة، الشباب اللي ما بيشتروا الخطابات بقشرة بصلة تعلموها وحفظوها خلالْ لعبْ الشدة، ومن دون ما تكون لازمة إلهم، والسياسيين المخضرمين اللي حياتهم ومصالحهم قائمة ع الخطاباتْ ما بيعرفوا يكتبوا خطابة.

قال أبو الجود: نحن كمانْ كانت حياتنا واقفة ع الخطاباتْ. خليني إحكي لكم القصة لحتى تتأكدوا من صحة الكلام. مرة من المراتْ، كنتْ قاعدْ بين إيدينْ الستّْ أمّ الجودْ، وعم إتلقى البهدلة اليومية، وعاملْ حالي عَمْ إتفرجْ عَ التلفزيونْ. وفجأة حسيت بالرجولة، وقلت لحالي إنه لازم أحطّْ حَدّْ لهالمرأة القوية المتسلطة. طَفِيْتْ التلفزيون ووقفتْ، وحطيتْ إصبعي على فمي بالطولْ، وقلت لها: هس. اسكتي أم الجود. ولا كلمة. وطبقت إيدي وقلت لها: اخرسي. والله إذا بتحكي كلمة تانية لحتى أليحكْ بالبوكسْ. خافت. سكتت. وأنا حسيت بحالي إني صرت قوي. وصحت للولاد: تعال ولاك محمود، وإنته ولاك عبدو، ومجيد، وخالد، وإبراهيم، ومصطفى، وموسى، ونايف، تعوا إنتوا وليك مريم، وسمية، وفوزية، ونادرة.. ولما اجتمعوا حوالي لقيت إنهم أكتر من الجماهير الكادحة اللي بتجتمع في المهرجانات الخطابية. وبَلَّشْتْ إخطبْ فيهم: أيها الإخوة المواطنون، أيها الرفاق المناضلون، يا أحفادَ خالد بن الوليد وطارق بن زياد وعقبة ابن نافع، أيها الزاحفون غداً على كثبان الجليل وبطاح الكرمل، أيها الصامدون في وجه المؤامرات التي تقودها الصهيونية العالمية والإمبريالية والرجعية المحلية على قطرنا الصامد، إن هذا يوم تاريخي..

ضحك أبو زاهر: ما بقي غير إنك تحيي بطل التشرينين، تشرين التحرير وتشرين التصحيح حافييظ.

قال أبو الجود: لا تغلط يا أبو زاهرْ. الخطباء في العادة ما بيجيبوا سيرة القائدْ المغوارْ حافييظ الأسدْ غير في وقت الزنقة.. الواحدْ منهم بتعترسْ معه العبارة، وبيبلش يقرب الورقة من عيونه، وبيحط النضارات، ولحتى ما حدا يضحك عليه بيقول: إننا نحتفل في هذا اليوم بذكرى الحركة التصحيحية المجيدة التي فجرها بطل التشرينين، بطل الصمود والتصدي، باني سورية الحديثة، حافييظ.. وعالفور بتنطلق الأكف بالتصفيق والحناجر بالهتاف، هون بقى اللي كان عم يخطب بيلاقي وقت كافي لحتى يعرف الكلمة اللي عترست معه أيش هيي.

قال أبو محمد: ما عرفنا أيش صار بالخطابة تبعك؟

قال أبو الجود: بنتي فوزية الله يخليها كانت تشتغلْ بتنجيدْ اللحفْ، وأوقاتْ بتساعدْ زوجة عبد القادر آغا بشغلْ البيتْ، وبتعطيها زوجة الآغا مصاري.. أثناء الخطابة كانت فوزية عم تنقل بصرها بيني وبين والدتْها، وعِرْفِتْ إني أنا آكل هوا ومو عرفانْ كيف بدي إطلع من هالمشكلة، فَقَرَّبِتْ مني ودَحْشِتْ لي رزمة مصاري في إيدي، من دون ما حدا يحس عليها.. وأنا لما صاروا المصاري بإيدي بطلتْ إخْطُبْ، لأنُّه الخطابة ما بتلزمْ غير لما بيكونْ الإنسانْ مْفَلِّسْ..

وقلت لأم الجود: تفضلي حبيبة قلبي. هاي مصاري، روحي اشتري برغل وعدس وحنطة، وعبي أسطوانة الغاز وخدي البنت ع الدكتور.. وإنتوا يا ولاد: بدي إياكم تعيشوا بهالنعمة وما تذلوا نفسكم لحدا.
وتركتهم وطلعت من البيت، وأنا عم إتلفت وراي!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...