محاولات مبعثرة في التنظير الغنائي (2)

محاولات مبعثرة في التنظير الغنائي (2)

09 ديسمبر 2019
+ الخط -
التنظيرة الثالثة: نحو تعامل منضبط مع الهزائم العاطفية
لم يكن غريباً ألا تحظى تلك الأغنية الجميلة بكل ما تستحقه من نجاح وشهرة، لأنها تقدم شكلاً مختلفاً للتعامل مع الهزائم العاطفية، لم نتعود عليه في الشائع من غنائنا العربي.

الموقف الذي تعالجه الأغنية ليس جديداً بالمرة، وسبق لشاعرها مأمون الشناوي أن تعامل معه في الكثير من أغنياته: عاشق أبلغته حبيبته ليلة الفراق أنها ستتركه، ليس فقط لأنها مسافرة، بل لأنها سترتبط بغيره. لكن مأمون الشناوي هنا يتعامل مع الموقف بشكل مختلف، فيحاول أن يكون منضبطاً في تقبل الهزيمة، ربما لأنه يعرف أنه يتعامل مع مطرب وملحن يحب التجديد والاختلاف ويكره البكائيات اللزجة، ومحمد فوزي بدوره أدرك المعنى الجديد الذي حاول مأمون أن يوصله فبدأ أغنيته بمقدمة موسيقية مدتها حوالي خمس عشرة ثانية، واختار أن تكون موسيقاها أيضاً منضبطة تحاول إظهار التجلد، لكنها لا تخفي حزنها بشكل كامل، وبعد انتهائها يدخل صوت محمد فوزي في الموضوع، وقد فارقه فرحه المألوف، لكنه في الوقت نفسه لا يحاول دفع صوته للتعبير الإضافي عن الحزن، فما فيه يكفيه.

"راح توحشيني لو تحرميني من نور جمالك.. ابقي ابعتي لي وطمنيني إزايّ حالك".

منذ البداية، ندرك أن العاشق يعلم أن الموضوع انتهى خلاص، وأن آخر ما يمكن أن يحصل عليه من الحبيبة جوابات قد ترسلها لتطمئنه على حالها، لكن قلب العاشق "عِلق" ومُعلّق بحبيبته مهما اخشوشن وتجلّد، ولذلك نجده يُلحق "راح توحشيني" بقوله "لو تحرميني"، لأن "لو" لا تفتح عمل الشيطان وحده، بل تفتح أيضاً باب التراجع عن قرار الرحيل، وترسل استغاثة مبطّنة، تدعو الحبيبة إلى ألا تجعل حبيبها مضطراً لافتقاد نور جمالها إلى الأبد، لكن مأمون وفوزي يعرفان أن المسألة "خلصانة"، ولذلك لا يلجئان لما هو أكثر من "لو" لفتح باب الاستئناف والنقض، ولأن فوزي يعرف أن الاكتفاء بدخلته المنضبطة التي تقترب من درجة القبول بالأمر الواقع، لن تكون مؤثرة على مستمعه الميال للشحتفة في مواقف كهذه، فهو يعقب دخلته على الفور بآهة قصيرة مكيرة، يلحمها بتكرار مهم للحقيقة الأبرز في الأغنية: "راح توحشيني".


يسود بعدها صمت خاطف، يسرد بعده مأمون وفوزي بعضاً من تفاصيل الهزيمة، وعلى رأسها تفصيلة زمانية مهمة نعرف منها أن الحبيبة "مسافرة بكرة وفايتة ذكرى.. نارها في قلبي"، ثم تفصيلة جغرافية أكثر درامية نعرف منها أن العاشق يغني لهاجرته وهي إلى جواره، "وحياة عينيكي مشتاق إليكي وانتي جنبي"، فندرك أنها لم ترحل بعد تماماً مثلما رحلت حبيبة حسين السيد ومحمد عبد الوهاب في "يا مسافر وحدك"، وربما يجعلنا ذلك نفهم سر انضباط الدخلة المرتبط برغبة الحبيب في إخفاء ملامح الانهيار، لكنه يفقد انضباطه للحظة حين يقول لها "ليه تشبكيني وتعذبيني"، لكنه يقطم رغبته الأكيدة في فتح باب العتاب المفضي إلى باب الحساب، ليعود بعدها إلى حزنه المنضبط المختلط بشعرة من الأمل: "راح توحشيني لو تحرميني من نور جمالك.. ابقي ابعتي لي وطمنيني إزايّ حالك.. آآآه راح توحشيني".

في تجسيد صوتي بديع للقطع الزمني الذي نراه في السينما التي أحبها محمد فوزي وتألق فيها كما لم يتألق أحد مثله من مطربينا، يستعين فوزي بالعود في المقدمة التشويقية التي تسبق الكوبليه التالي، الذي نعيش فيه فصلاً آخر من فصول القصة الحزينة، يقول لنا بعده بصوت أصبحت مهمته على التجلد والصمود أصعب: "راحت وفاتتني.. وكان غرامها خيال.. وفي لحظة نسيتني"، فنفهم أن العاشق انتقل من المرحلة التي تلقى فيها صدمة خبر الهزيمة، إلى المرحلة التي يحاول فيها التعامل مع الهزيمة بواقعية، ولذلك فهو يقر أولاً برحيلها وابتعادها، ثم يستخدم تعبيراً مراوغاً لتلخيص غرامها، فلا تفهم إذا كنت لم تجرب هزائم الحب، هل يقصد أن غرامها كان خيالياً في جمالها، أم أنه كان مجرد خيال وانتهى، لكنك لو كنت للأسف قد جربت هزائم الحب، لأدركت أنه يقصد المعنيين معاً، ويقصد معانٍ أخرى كثيرة لم يكتشفها بعد، ولا يقصد أي معنى في نفس الوقت، وأن كل تلك المعاني ليست سوى محاولات للهروب من الحقيقة المرة التي لم يعد يملك غيرها: "وفي لحظة نسيتني".

لكن لماذا "راحت وفاتته"؟ في العادة لا تنشغل أغانينا بالإجابة عن هذا السؤال، لما يقتضيه من تقليب في المواجع، قد يدفع الشاكي إلى مواجهة نفسه بحقيقة دوره في ذلك الرحيل، لذلك نراها تكتفي بإدانة الهجر مع مزيج غير متجانس بين الحنين إلى الهاجر ولعن سنسفيله، لكن مأمون الشناوي لا يفعل ذلك، بل يقرر الاشتباك مع أهم أسباب الهجر في تاريخ العشق: المال.

"والمال يذل الجمال"، عبارة مقتضبة لكنها مشحونة بالتفاصيل المتروكة لخيال المستمع، يلحقها مأمون وفوزي على الفور بحقيقة "وفي لحظة نسيتني"، لنفهم أن الهجر لم يكن بسبب خطأ ارتكبه المحبوب، وإلا لما كانت حبيبته قد حرصت على توديعه قبل الفراق بنفسها، دون أن تستخدم مرسالاً ورقياً أو بشرياً. يصلنا ذلك المعنى المؤلم كاملاً، حتى لو لم نكن قد شاهدنا فيلم (صاحبة الملاليم) الذي تظهر فيه الأغنية، بل إن وصول ذلك المعنى إلينا سيكون أوقع وأقوى حين نفصل الأغنية عن سياقها الدرامي، خصوصاً إذا كنا قد جربنا من قبل كيف يفتك المال بالحب؟


لكن اقتطاع الأغنية من فيلمها، قد يدفعنا إلى الإيغال في تساؤلات تحمل الأمور أكثر مما تحتمل: لماذا قال مأمون الشناوي إن "المال يذل الجمال"؟ هل منعه الكبرياء من أن يقول "والمال يذل الرجال"؟ في ترجمة غنائية لمقولة جده أبي العتاهية "أذل الحرص أغناق الرجال"، هل كانت العبارة مكتوبة هكذا في الأصل: "والمال يذل الرجال"، ثم غيرها فوزي لكي لا يقلّب المواجع على جمهوره من الرجال؟

لكن استعادتنا لأحداث الفيلم، أو مشاهدتنا له، ستذكرنا بأن سهام الباحثة عن الثروة هي التي ضحت بحبها لسمير المفلس، لذلك اعتبر مأمون وفوزي قرارها ذلك ذلاً لجمالها تتحمل هي مسئوليته، ليوجه العاشق بعدها رسالة مباشرة إلى قلبه، لا يخجل فيها من الاستعانة بإكليشيهات المأثورات الشعبية: "يا قلبي صبرك مين راح يجيرك.. تبقى في إيدك تقسم لغيرك"، في إشارة واضحة إلى أن على القلب أن يتعامل مع الموقف بنفس الخفة التي استخدمتها الحبيبة، فإذا كانت هي "وفي لحظة نسيتني"، فليس علي إلا أن أذكر نفسي بأنها "تبقى في إيدك تقسم لغيرك".

يؤكد فوزي على هذا المعنى مباشرة بانتقاله المفاجئ من الموسيقى الحزينة المنضبطة إلى موسيقى راقصة شبه منفلتة، يعلن بها العاشق نهاية عهد "مين راح يجيرك"، ويبدأ في إدراك اللحظة الفارقة ومواجهة حقائق الحياة: "العين بصيرة والإيد قصيرة.. مش طايلة مال.. وحياة سعيدة وأنا ع الحديدة.. شيئ من المحال"، حقائق قاسية يذكر فوزي العاشق بها ولكن على خلفية موسيقى راقصة، لعلها تساعد العاشق على تمرير مرارة هذه الحقائق على نفسه، وتدفعه لأن يتراقص عليها كما تراقص سمير في الفيلم بعد أن هجرته سهام، دون أن يدفع ذلك العاشق إلى خداع نفسها وتشجيعها على الهروب من مواجهة الحقيقة الأبرز التي ستنتهي بها الأغنية، وتتركك بصحبتها: "كل اللي حيلتي.. حبي وحيرتي".

هذه إذن هي رسالة مأمون الشناوي وفوزي لك: تستطيع أن تتجنب الانهيار في لحظة الهزيمة العاطفية، وتجبر نفسك على التجلد وعدم التضعضع لريب الدهر، تستطيع أن تتراقص بخفة وأنت تذكر نفسك بأوضاعها المزرية، تستطيع أن تدرك دور رأس المال في الفتك بالحب وإذلال الجمال، سيشكل لك ذلك الكثير من العزاء، وسيعينك على احتمال الأسى، لكنك في نهاية المطاف لن تستطيع الهروب من حقيقة أن كل ما يمتلكه العاشق سيئ الحظ هو حبه وحيرته، وعليه أن يقنع نفسه أنهما يكفيانه وزيادة، لكي يتجاوز الهزيمة بشكل منضبط.

.....

رابط لمشاهدة الأغنية يصلح قبل قراءة المقال وبعده:

https://www.youtube.com/watch?v=MoKkvnXrpnQ

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.