أن تعيش بين قرنين

أن تعيش بين قرنين

05 ديسمبر 2019
+ الخط -
"حتى العشق بارد، لأنه تحول عند الكثير إلى حافز يخضع للمتناقضات في حياة إنسان هذا الزمان، ولأنه عشق معلب نفتحه في الليل إذا ما ترددت الأصداء المتناقضة في داخل النفس وخارجها، ونقفل عليه في النهار لنجري وراء الوراء، ذلك الذي يحدد مستوى معيشتنا ونسبة الترف في استخداماتنا المالية، بينما يزداد في كل يوم تفريغ الوجدان من العواطف الصادقة، وتجف العقول من فكرة الخير والشر".. حين قرأت هذه الكلمات ابتسمت، وتابعت ابتسامتي العريضة، وأنا في طريقي اتجاه مطبخي الصغير، وبدأت لذة إعداد فنجان قهوة، لم يكن ضرورياً، لكن احتراماً وإجلالاً لعادة كنت أقوم بها حين قراءة الجرائد، وافتقدتها حين تصفح فيسبوك.

وها أنا الآن؛ تحتويني غرفتي وقصاصة وورقة ختمت باسم، عبد الله عبد الرحمن الجفري، ذلك المبدع الذي طالما أتحفتني زاويته "نقطة حوار" في جريدة الحياة، في زمن كان للحرف قيمته، وللقارئ اختياراته الألقة، وللخبر قيمته الصادقة والفريدة، وأعود بالذاكرة عشرين عاماً وأكثر، حيث كانت القراءة إدماناً شبيها بإدمان وسائل التواصل اليوم، إدماناً عشته مع من عاصر تلك الفترة بحب وشغف، كانت الجرائد وحدها، وبعض المجلات التي احتوت رغباتنا، قادرة على أن تمنحنا لحظات من الهدوء والسكينة الروحية التي ما زلنا نبحث عليها الآن، لكن دون فائدة.


أغلق تلك الورقة، وأنهي فنجان قهوتي المرة، لأواجه نفسي ولأول مرة بأنها عايشت قرنين،- الربع الأخير من القرن العشرين، والعقود الأولى والثانية من القرن الحادي والعشرين-، بكل ما تحمله تلك المعايشة من مرار وجمال وعمق وسطحية، ولدت في العام الذي توفيت فيه أم كلثوم، و عاصرت العديد من المجازر اللاإنسانية بحق الفلسطينيين، وحتى الآن أذكر بكاء أمي وحدادها وبكائي معها، عام 1982 حين وقعت مذبحة صبرا وشاتيلا، والتي تألم لأجلها الكثيرون من العرب، وعايشوها عبر المذياع، وعايشتها مع أسرتي ولم أكن أتجاوز الثامنة من عمري.

ونفس الحزن عشناه مع كارثة تشرنوبيل 1986 التي شهدها العالم، في يوم السبت الـ 26 من إبريل عام 1986 تحديداً، ثم تابعت ومعي الملايين حرب الخليج 1990 وهي حرب شنتها قوات التحالف المكونة من 34 دولة بقيادة الولايات المتحدة الأميركية لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي، واجتمعت العائلة أمام التلفاز لتشاهد وبذهول منقطع النظير أحداث 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، ثم استيقظت مذعورة فجر يوم عيد الأضحى في 30 ديسمبر/كانون الأول 2006 لأشاهد حدث إعدام صدام حسين، وعاصرت، وما زلت أحداث الحرب السورية الموجعة منذ عام 2011، ولا أدري كيف استطعت أن أقاوم صدمة تلك الأحداث حتى الآن؛ لكنني وبصدق أدرك أن النفس البشرية جبارة، وأن ما تستطيع تحمله من خيبات وانكسارات، وصدمات يفوق كل توقعات العلماء.

أن تعيش عمرك بين قرنين، وأن تعايش كل تناقضات تلك الفترة، وأن تكون منصفاً في قرارة نفسك، وتعترف أن القراءة كانت منجية لك، وكانت الداعم الحقيقي، والثابت لك حين يغيب الأصدقاء، أو لنقل حين تلوي مرارة الأحداث عنق اللقاء بهم، وأن تكون على بعد نظرة عن أحرف مجلات وجرائد تتقاسم مع أصدقائك ثمنها، فقط، لتنعش يومك بالحروف، في زمن جميل انتهى، أن تعيش بين قرنين، وتجد نفسك الآن أمام وسائل متاحة، لكنها عقيمة الأثر، ربما هو الاجترار المعرفي، وربما لنكون أكثر إنصافاً هي النفس التي تراكمت فوق رأسها تلك الأحداث والمعلومات فحرمتها لذة الحاضر، وربما ما نحتاجه العميق الأصيل وإن كان قليلاً في المعرفة، بدلاً من العشوائية المعرفية والكثرة الفارغة التي بدت واضحة بين قرنين. والتي تجعلك تشعر بانتمائك للقرن الأول، وتملؤك بمشاعر اللامنتمي لهذا القرن الصاخب.
8208D0E6-2CD2-427A-A70D-51834F423856
يسرى وجيه السعيد

حاصلة على دكتوراه في فلسفة العلم من جامعة دمشق. ومدرسة سابقة، في قسم الفلسفة بجامعة حلب.