انطباعات خاصة جداً

انطباعات خاصة جداً

04 ديسمبر 2019
+ الخط -
كان حبّي للسفر والترحال، ومنذ نعومة أظفاري، لا تحدّه حدود أو تقف في وجهه أيّ مصاعب أو تحديات، بل إنّني كنت أحب خوض غماره برغبة عارمة مهما كانت العوارض التي تقف أمامه خطيرة وميؤوساً منها!

كنت أحب المغامرة والركض عكس السير على الرغم من أنني لم أكن مضطراً لذلك، وكنت، والحمد لله، أعيش في بحبوحة مادية جيدة، وأشغل عملاً يدر عليّ دخلاً يرضيني ويجنبني الكثير من المخاطر، أو الوقوع في المحظور، وألجأ في أحايين كثيرة إلى السفر بعيداً عن أهلي وأسرتي وأطفالي، باحثاً عن هوية خاصة بي أتوّج بها أحلامي وطموحي وشغفي للسفر والترحال، ومنذ أن وعيت ذلك وهذا ما كان يثير فيَّ الكثير من الرغبات والتحديات والإصرار لأجل الوصول إلى هدف ورغبة، شاقاً بذلك طريقاً طالما حلمت أن أصل إليه وأركب موجه، وبالفعل وصلت إلى ما أريد ولم يكن تحقيق الحلم بهذه البساطة، وهو ما لم يكن ليتحقق لولا المتابعة والجدية والسعي الحثيث لأجل الوصول إلى سلم البداية، وتلقف صعود درجاته درجة تلو الأخرى بعد عناء وجهد طويلين، وهذا ما فسح المجال أمامي في التنقل والسفر من مكان إلى آخر بحثاً عن رغبة. وسبق لي أن سافرت إلى العديد من الدول، عربية وأوروبية، وغيرها بقصد السياحة والعمل.

وإن كان الهدف من السفر، في بداية مرحلة الشباب، حب الاطلاع وتصوير حكايات المدن وحال أهلها ومعيشتهم، إلّا أنها ظلّت هامشية، ويلزمها الوقت والمال. ولم يكن السفر بالنسبة لي يوماً الكسب وجمع المال، بقدر ما هو رغبة ومعرفة واطلاع! فالرغبة، بحد ذاتها، لها مفهومها لدى كل واحد منا، والمعرفة أيضاً تصبّ في قالب معرفي، وهو الاطلاع على ثقافات العالم الآخر، وكيف يعيش سكانه، وهذه المقاييس ليست بالطبع وحدها كافية.


السفر له مفاتيحه وإيجابياته، وإن كانت سلبياته كثيرة، ولإيجابياته كذلك، ويمكن أن تدفع بك إلى أن تعيش بذاك العالم العاجي. السفر هو مدرسة الحياة.

نعم، هو الحياة على الرغم من الصعاب الكثيرة، وهواجسه وسلبياته التي ما تنفكّ تطرح مزيداً من التساؤلات، ما يدفع بنا إلى أن ندير ظهرنا إلى هذه الجزئية من رغبة الإنسان في الاطلاع والمعرفة، والوقوف على حاجات الناس. ثقافاتهم، عاداتهم، تقاليدهم، معتقداتهم، لغاتهم، وطبائعهم.

فالحاجة تدفع بك أيضاً إلى اتخاذ السفر مفتاحاً حتى يتم تأسيس قاعدة عريضة قوامها المعرفة والاستزادة من مخبأة الآخرين. والدروس التي تعلمناها، وما زلنا نتعلمها بصورةٍ يومية، وتضيف إلى معرفتنا جديداً، فيها الكثير من الحكمة وحب الآخر، وفتحت أمامنا طريقاً سالكة، والدخول إلى قلوب الناس ومعرفة أسرارهم وحسن نواياهم من خبثه، ورؤيتهم إلى عالم يغلب عليه طابع الاقتتال والتجنّي!

السفر صار حاجة ضرورية ليس من أجل الكسب فقط وإنما لتعميق دورنا، والبحث عن مسمّى حياة.

.....

نتساءل وبكل صراحة، عن ماهية سرّ الحزن الذي ينتابنا، نحن المغتربين، وتظهره دموعنا الخجلى دون تدخل مسبق من قبلنا؟! سؤال لطالما يتبادر إلى الذهن، وهو ما يفجّر فينا كل ما هو جميل ومؤنس، إلّا أنَّ طابع الحزن يظل يسيطر على كل ذلك! إنّه الحزن، بدموعه وبذكرياته وأحلامه!

نفحات الحزن كبيرة وقاسية، ولا يمكن بحال التخلّص منها، لأنها مزروعة في جوانحنا، وفي كل نبضة في أحشائنا.. إلى هؤلاء: إلى أرضنا الذبيحة المغتصبة، وإلى أهلنا، أبنائنا، وزملاء طفولة وصداقة وأحبّة، وكل ما يمت إليهم.. وحتى إلى ذاك الحجر الغشيم الذي هو الآخر يشعر بهذا الحنين، والحزن الذي تجذّر فينا، نقول، ونتساءل:

ما هو الحل حيال هذا الحزن الذي يشغل بالنا، ونقف عاجزين عمّا يواجهنا من مشكلات؟! وقد يكون الحزن جميلاً.. لم لا، ما دام أنّه يتلاقى مع فراق وطن، وأهل وأحبّة؟! حزن لذلك الفراق الذي نعود إليه في كل لحظة، وفي كل حين، ونستذكر معه الأفراح والأحزان والحرمان، والحال الذي ضاع معه كثير من الأماني والأوجاع.. وحتى الوطن!!

يقول كثيرون، لماذا نجد الحزن يسيطر على كتاباتكم؟
نقول: لا نعلم ما هو السرّ وراء كل ذلك الحزن الدفين الذي تظهره دموعنا، وتبطنه قلوبنا، وتغلّفه بالصبر والانتظار، وفي حقيقته يتفجّر شوقاً للأهل والوطن والأحبّة. فالحزن مغروسةٌ أدواته في داخل كل منا، ولا يمكن له أن يفارقنا، وإن حاولنا أن نقف منه موقف الحاسم الحازم، إلّا أنّه يُصرّ دائماً على البوح عن مكنوناتنا، وكل ما هو حزين وبغيض في حياتنا!

فكل كلمة ينطقها الغير، أو أغنية نسمعها قد تكون قريبة من قلوبنا، وسماعها يشير إلى الكثير من المواقف المحزنة، فهذا هو سرّ آخر من أسرار الحزن الدفين الذي يسيطر على عقولنا، وعلى عواطفنا، لا سيما وأننا ننتمي إلى فصيلة البشر، نتأمل ونشعر بالآخرين، ولا يمكن للإنسان أن يعيش منزوياً بعيداً عن المجتمع، وبصورةٍ خاصة مجتمعه الذي نشأ وترعرع وعاش فيه طفولته وشبابه، فهل بهذه يمكن للإنسان أن ينسى كل ما يتعلّق بالأرض، والحياة والناس والطبيعة. بالتأكيد لا..


فالأهل يعيشون الأمل، لا ينظرون إلى الأمس أبداً، فرحين بما هو جديد عسى أن يكون الفرج قريباً بلم الشمل، والحياة فيها بعيداً عن الضجر، والاحتكام للعقل، وهذا ما نأمل أن يتحقق لبلدنا وأهلنا هناك.

.....

سمعت من بعض المواطنين العرب الأميركان، والذي صار له ما يزيد عن الـ خمسة عشر عاماً، متزوجاً في بلاد العم سام من أخت عربية، أنَّ مشكلة الطلاق لدى أخوتنا العرب في الولايات المتحدة أخذت تتفاقم وتستشري بصورةٍ مرعبة، واتخاذ القرار في هذه المسألة الحساسة فيه الكثير من الاستسهال، بالنسبة لهم، و لا يمكن أن تفرّق، وللأسف، بين وجود أطفال من عدمه!

الصديق الذي نقل إليّ مشكلته، يوجد الكثير غيره، سبق وأن وقع في نفس المأساة.. تصوروا أنَّ الحماة، والدة الزوجة، وبدلاً من أن يكون وجودها محضر خير، كما يُقال في عرفنا العربي، نجدها هي من تساعد في تأجيج المعضلة وتأليبها، واختلاق الكثير من المبررات حتى تصل إلى درجة لا يمكن معها حلّها، بل وتتفاقم إلى أن تصل إلى درجة حاسمة، وهي الركض وبسرعة بإنهاء بإجراءات الطلاق، برغم وجود أطفال بعمر الورود.

بالتأكيد، دور العم، والد الزوجة، المحترمة، لا يقدم ولا يؤخر ما دام أنَّ الزوجة، الحماة، صاحبة القرار في هذه المسألة، وليس من حق الزوج التدخل بتاتاً، وإن كلفهم ذلك دفع مبالغ كثيرة.

هذه المشكلة، وكما قلنا، واجهها صديقنا الشاب، المغلوب على أمره بحيرة واستغراب كبيرين، ولا يعرف إلى من يلجأ بعد أن أوصدت أمامه كافة اﻷبواب، فالحل الأسلم هو اللجوء لدور المحاكم، وإنهاء هذه المشكلة التي ما زالت معلّقة، ومنذ نحو أربع سنوات، والمشكلة العظمى أنه لم يُسمح له برؤية أطفاله، أو اللقاء بهم طوال الفترة التي قضاها بعيداً عن زوجته وأولاده.

ولدى سؤال الصديق صاحب المشكلة، قال: تصوّر أنَّ كل ما في الأمر أنني وزوجتي كنا نعيش في جو أسري يغلب عليه طابع المحبّة والتعاون والاحترام، إلّا أنّه، ولمجرد أنني اضطررت إلى أن آخذ من حسابها الخاص مبلغاً زهيداً من المال، فهذا لم يرقَ لوالدتها، وواجهني والدها بوابل من الكلمات النابية لم أتحملها مما اضطرني إلى مغادرة بيتي، ولأكثر من تسعين يوماً، وبعد عودة المياه إلى مجاريها، عادت المشكلة لتطفو على السطح من جديد، وها أنذا اليوم، ما زلت أعاني البعد عن أطفالي، فلذة كبدي، وبيتي، وهذا لم يكفهم بل إن زوجتي ألحّت على بيع سيارتي الخاصة، رغم أنها مسجلة باسمي الشخصي، وبمعرفة أخيها المحامي الذي دبّر كل شيء، وهذا الدافع كلّه من أجل حبّهم للمال، برغم ثرائهم الفاحش، على حساب الأطفال الذين حرمنا منهم، وموقف حماتي التي هي من خطط لذلك، ونترك الانتقام لله وحده القادر الوحيد على إنصافي.

.....

شاهدت أنَّ البعض من الأميركيين، سواء أكانوا من البيض أو الزنوج، وفي حال حاول أحدهم أن يتقدم لشراء غرض ما، أو يقوم بفعل معين في موقع العمل الذي تعمل فيه، تراه يحاول استدراجك إلى نقطة معينة، خاصة إذا لم تكن قادراً على إيصال الفكرة إليه، بصورةٍ متكاملة.

فإذا أراد أن يطلب منك غرضاً ما، أو نوعاً معيناً، وعلم بأنك غير قادر على استيعاب ما يريده لأنك غير متمكن من اللغة، فهو يبادر على تفسير طلبه، وبتركيز، ولا يكتفي بذلك، بل هو من يدلك عليه، ويحاول أن يمّيز بين ما يريده ويبحث عنه، وبين ما تحاول أن تقدمه أنت له، وفي النهاية يشير لك على طلبه، وبكل تواضع، والهدف أن تتعلم وتتجاوز خطأك.

هذه الصورة تكررت معي، وفي أكثر من مكان، وإذا أردت زيارة أحد محال التسوّق الشهيرة في الولايات المتحدة، ومثالها: "وول مارت"، و"كي مرت"، و"وول غرين"، و"ويندكسي"، و"هوم ديبو"، وغيرها من المحال الراقية والضخمة جداً، وحتى المحال التجارية الصغيرة الحجم، فإنَّ التعاطي مع هؤلاء العاملين فيها فيه الكثير من الرقي والاحترام والود، وإذا حاولت أن تسأل أحدهم عن طلبك، ولمجرد الإشارة، فلإنّه يترك ما بيده ويستجيب لك، وبكل تواضع.

فالعمل له احترامه وقدسيته، ومواعيده الدقيقة. والمواطن الأميركي يظل فيه من الشهامة العربية التي نتغنى بها نحن العرب أنفسنا، وإن كان ذلك في حدود ضيّقة جداً، وهذا، لا يمكن أن يُقاس بعالمنا العربي، وغالبية أهله، الذين ما زالوا يحفظون هذا الود، وإن غلبت عليهم مفاهيم جديدة لم تعد لها قيمة أو معنى في معتقدهم ومفهومهم.
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.