رجل في التاسعة!

رجل في التاسعة!

31 ديسمبر 2019
+ الخط -
بعيداً جداً عن زينة العام الجديد المترفة بألوان السماحة المصطنعة والمحبة المعلبة والسعادة المزيفة.. حد الغثيان، وعلى عتبة أخرى لا تبعد ذات البعد.. تقف إدلب.

هي كالعام الجديد تماماً تستقبل أرقامها الجديدة بإحصاءاتٍ مختلفة ربما، وقد وحدت ألوانها بلونين فقط: لون الدم.. ولون الدمار، الأحمر والرمادي.

تمددت سجادة من النايلون مطبوع عليها بالأزرق الملفت للنظر -الداعي للإقياء- علامة إحدى منظمات الإغاثة الدولية، تمددت على الأرض الموحلة الباردة.. جلس عليها رجل لم يكمل سنواته التسع بعد.

- تسع سنوات.. وتقول عنه رجل؟ .. سألني أحدهم؟
- نعم.. أجبته واعيا ما أقول.

هو على الأقل (أرجل) مني.. ومنك بالتأكيد، وجهه الأبيض كشبحٍ في البرد قد خلا منذ زمن من أي تعبير قد يرتسم على وجوهنا التي ما زالت تحتفظ بشيء من الطفولة، يداه تشققتا من جفاف الصقيع.. رجلاه الهزيلتان يكسوهما بنطال مخطط من الواضح تماما أنه لا يتبع (موضتنا) من حيث المقاس والتفصيلة.. حتى أن خطوطه غزتها لطخات الطين الرمادي الذي علق فيها منذ دمار بيته في تلك القرية الصغيرة المنسية على بعد ساعات من مكانه هذا الذي وصل إليه ماشياً بصندلٍ يكشف عورة أصابعه الزرقاء الباردة.. شعره الأسود كليلٍ تتخلله غيوم رمادية علقت به وتمسّكت بشره قميء كأنه شيب مبكر.. عيناه اللتان خلتا من الحلم.. شفتاه اللتان أنهكتا الحروف.. صمتتا، ظهره الذي انحنى من حمل العمر.


العمر؟
جلس على حافة (حصيرته) يفكر في هذه الكلمة، ما هو العمر.. وكيف يقاس وكيف يُعاش؟ منذ أيام قليلة قبل أن يفتت صاروخ روسي سقف بيته وبيت العديد من أهالي قريته.. وقبل أن يترك أمه الشهيدة تحت سقف البيت الذي تحول إلى غبار رمادي، قالت له أمه قبل أيام: ستبلغ التاسعة يا ولدي بعد أسابيع قليلة. وابتسمت..

كانت آخر مرة يراها تبتسم، ولم يتسنّ له أن يسألها كيف قاست عمره! نظر إلى نفسه جالساً.. كثير من أبناء قريته أطول.. وهم أيضا في عمر التاسعة؟

وزنده كان كزند والده مليئا بتقرحات جروحٍ أو ندبات جراء عثرات أثناء المسير، وجهه وإن خلا من الخطوط التي ترتسم على وجه أبيه شبيه به لدرجه تثير الدهشة.. نفس التعب.. نفس الملل.. واللا أمل.

كيف لي أن أصدق أن عمري 9 سنوات.. ولكن أمي لا تكذب.. قالت لي مرة ستكون قوياً كخالك.. وبالفعل ها أنا قد سرت كل هذه المسافة من دون أن أشتكي كباقي الأطفال، بل أكثر من ذلك كنت أسند دائما العجوز أبو محمود الذي يقولون عنه أنه بعمر الثمانين!

كان أبو محمود يتحدث دائما عن طفولته السعيدة في بيت أبويه في القرية.. نفس القرية ونفس البيت الذي دفن فيه كل أبنائه وأبنائهم، كان يتحدث كثيراً وبقصص حفظناها حتى مللنا عن السعادة آنذاك، ولكنه أيضا لم يعرّف السعادة!

ما هي السعادة يا أمي؟
سأل أمه الراحلة يوما فأجابته بأنها شعور لذيذ كأول لقمة من رغيفٍ طازجٍ ساخنٍ في ليلة شتاء، ولكنه نسي طعم الرغيف هذا.. هل يعني أنه نسي السعادة! وهل تنساه السعادة إذا نسي طعمها؟

هل السعادة أغلى من الخبز في قريتهم؟
لم يكن أبوه بخيلاً كان يجلب الخبز لهم كلما استطاع.. والزعتر أيضا والبندورة، ولكنه لم يشتر يوماً لهم سعادة ولو قليلاً، إذاً هي غالية.. أجاب نفسه.

قال خالي مرة قبل أن يأخذوه عندما كنت صغيرا أن ذكرياته الدافئة هي ما تجعله حيا حتى الآن. لكن خاله لم يعد.. هل أضاع ذكرياته؟ وهل ما زال حياً حيث هو؟

ما هي الذكريات يا بابا؟
سأل أباه الذي تمدد تحت شجيرة عارية بجانبه ونام من التعب.. لم يجبه. لماذا لا أملك ذكريات مع أنني حي، أم أنني نسيتها هي الأخرى؟ كيف تصنع هذه الذكريات ومن يصنعها؟

رأيت ملصقاً لإحدى المنظمات يعد بثياب جديدة وحذاء ملون للجميع، كان على الملصق طفل بعمره أو أصغر قليلاً.. يضحك، كان الحذاء جميلاً جداً لدرجة أني حفظت شكله أكثر من وجه الطفل.. وحلمت به مرات وأنا خارجٌ من قريتنا هارباً من الدمار، عله يدفئ قدمي اللتين أصبحتا كالزجاج القديم، كإبريق جدتي التي كانت تخاف عليه كثيراً وتقول إنه من عرسها، وقد كسر بالنهاية.. أخاف أن تكسر قدماي فأبي متعب ولا أريده أن يحملني.. وأبو محمود يعتمد علي في المسير كثيراً ويدعو لي كل دقائق، يدعو لي بالسعادة.. نفس السعادة التي لا أعرف أين تباع.

سمعت مرة أن الأطفال في قرى غير قريتنا بعيداً جداً يلعبون بألعابٍ من شتى الأشكال والأنواع، لم أصدق حتى أنها موجودة. ولكنني بقيت أتساءل: أين يجدون الوقت للعب؟ ألم يخافوا من الصواريخ المتساقطة في كل وقت ومكان؟ أم أن أهلهم كانوا أقل حيطة من أمي المرحومة! أمي تحبني أكثر منهم لأنها تخاف علي، ثم إن تلك الألعاب من نسج خيال الراوي فقط، لا توجد ألعاب كهذه.

قالوا لنا لن نعبر الحدود، فالقوانين لا تسمح بذلك، وأن البيوت هناك غالية جداً، أكان بيتنا رخيصًا حتى لم يصمد أمام الصاروخ؟ أم أن البيوت هناك مصنوعة من مواد لا أعرفها ولا تخاف الصواريخ؟... ولماذا هي غالية؟.. كان أبي يقول: وضعت كل مالي في بناء البيت، إذا فهو غالٍ.

من وراء الحدود!
أليسوا بشراً مثلنا.. أليس عندهم صواريخٌ وبراميلٌ وذكريات؟ ألا يعرفوا أننا ننام على حصير بلاستيكي حتى يأتوا إلى الحدود ليساعدونا على عبورها ويغيروا القوانين؟ صمت طويلا.. واستمع إلى قرقعة معدته الفارغة منذ وقت، كان لا يشعر بالجوع كما لا يشعر بالخوف ولكنه يشعر بالحنين إلى بيته.. وأمه.

ماما.. لم يسمح لي أبي أن أراك بعد موتك.. قال أنك أصبحت أشلاء، كل من مات في قريتي أصبح أشلاء، أنا آسف يا ماما لم أودعك مع أنني منذ عرفت الموت وأنا أعرف أنه يحوّل المرء إلى أشلاء.. وهل يموت المرء من دون أن يصبح أشلاء؟

هل من الممكن أن أموت قطعة واحدة؟ كيف؟ استيقظ والده واعتدل في جلسته فسأله: بابا.. إذا مت وصرت أشلاء هل ستودعني؟

وضع الأب كفيه على وجهه وأصدر صوتاً عميقاً كأنه من قعر واد، واهتز فاهتزت معه أغصان الشجيرة التي أسند ظهره عليها. آسف يا بابا لم أرد أن أضايقك، ضمه والده ضمة أزهر قلبه بها كانت طويلة وجميلة ودافئة كرغيف خبزٍ ساخنٍ في ليلة شتاء.

ابتسم الرجل ذو السنوات التسع وابتعد عن أبيه مهرولا باتجاه أبو محمود، قال له: لقد استجاب الله دعاءك يا حجي.. لقد تذوقت طعم السعادة.

على الطرف الآخر من هذا العالم.. يتراقصون فرحين وهم يشعلون أضواء عيد الميلاد بنهم حيواني للشهوة المترفة، أضحوا بلا سعادة دافئة كرغيف الخبز.. وبلا ذكريات تجعلهم أحياء.. أصبح الذل مسكنهم والعهر نبيذ سهرتهم. فلا يسألني أحد منكم بعد.. كيف يكون الرجال.
E594284C-6860-435C-8F32-5DF10890CBB1
محمد وسيم عباس

مصور سوري... أعمل بمجال الإعلام المرئي في تركيا، وبصدد توثيق قصص أبرز شهداء الثورة السورية.

مدونات أخرى