العربية لغتنا الأم

العربية لغتنا الأم

31 ديسمبر 2019
+ الخط -
حضرت في بداية حياتي المهنية دورة تدريبية عن النشر في معهد غوته بالقاهرة، وبالطبع كان المدربون من الألمان وكانوا ثلاثة يتناوبون على المحاضرات، وكانت اللغة المشتركة بينهم وبيننا نحن المتدربين هي الإنكليزية؛ إذ كانوا يتحدثون معنا بالإنكليزية لكن على طريقة اللغة الألمانية في مخارج بعض الحروف، وكنت أراهم لا يشعرون بأدنى حرج وهم يتعثرون في وصف بعض الأمور من مادة التدريب بالإنكليزية، لدرجة أنني وزملائي كنا نتعجب في ما بيننا.

والأكثر من ذلك أنه عندما كان يتعثر المتحدث منهم في ما يقصد باللغة الإنكليزية، كان يستعين بزميله الجالس بيننا نحن المتدربين في ترجمة ما يقصد من الألمانية إلى الإنكليزية، واستوقفني هذا المشهد طويلًا ورحت أتساءل في نفسي ماذا لو كان المُدربون من المصريين والمتدربون من الألمان وكانت اللغة الإنكليزية هي اللغة المشتركة بينهم أيضًا، هل كانوا سينزعجون إذا تحدثوا الإنكليزية على الطريقة المصرية؟ هل سيشعرون حينها بالحرج إذا تعثر الواحد منهم في وصف ما يريد باللغة الإنكليزية؟ وهل هم يجيدون اللغة العربية (لغتهم الأم) إجادة تامة تُمكن المتعثر منهم من وصف ما يقصد فيستطيع زميله ترجمة ما يقصد؟

كانت تدور في ذهني هذه الأسئلة كلها وأنا أستمع إليهم وقت المحاضرات، إلى أن تجاذبت معهم أطراف الحديث في فترات الاستراحة حول تعلم اللغة الأجنبية وطريقتهم الألمانية عند التحدث بالإنكليزية، ضحك الثلاثة وقال أحدهم: المهم أننا نجيد اللغة الألمانية، لغتنا الأم، ونستطيع أن نصف بها دقائق الأمور. وتساءل آخر: ألم نسمع إنكليزية على الطريقة الصينية وإنكليزية على الطريقة الهندية؟! فأخبرته بأن ثمة إنكليزية على الطريقة المصرية، فضحكنا جميعًا، واتفقنا جميعًا على أن الغرض من تعلم لغة أجنبية هو التواصل مع الأجانب وتناقل المعنى المقصود من وراء الحديث وليس اختزال المجهود في محاكاة لكنة الأجانب، لأننا مهما اجتهدنا في اكتساب اللكنة فنحن أجانب بالنسبة إليهم، وإننا لا نتعلم اللغة الأجنبية لنستبدلها باللغة الأم. حمدت الله بعد انتهاء حديثنا أنني أُجيد لغتي الأم وأعتز بها وإلا كنت سأشعر أمامهم بالخزي والصغار.

تذكرت هذا الحديث عندما تعاونت ذات يوم مع زملاء من إدارة مجاورة في مشروع في العمل، وقد كانت مراسلات الزملاء معي باللغة الإنكليزية؛ لكن مع الأسف كنت لا أفهم مقصدهم في الرسائل على الرغم من إجادتي اللغة الإنكليزية، فكانت الرسائل بمثابة مجموعة متناثرة من كلمات باللغة الإنكليزية لكن لا يربطها معنى أفهم منه الغرض من تلك الرسائل، فكنت أذهب للمُرسِل لمعرفة المقصود، وسألتهم: "ما المانع في استخدام لغتنا الأم ما دام لا يوجد بيننا أجانب؟"، فكان ردهم أن مديرهم أصدر قرارًا بأن المراسلات لا بد أن تكون باللغة الإنكليزية مع العلم أن أكثرهم لا يجيدها ولا يحتاج إليها في وظيفته غير أن استخدامها يعد من عوامل تقييم مديرهم لهم بل وانطباعه عنهم، فأغاظني ما سمعت، وخاصة أن رأيي في ذلك المدير عند التحدث معه والاتفاق على التعاون في المشروع أنه يهتم بالشكل ولا يعبأ بالمضمون فهو كالبالون سرعان ما يفرغ. وما أغاظني هو درجة تفاهة وضحالة ذلك المدير التي انسحبت على قراره أن تكون مراسلات موظفيه باللغة الإنكليزية وإن كان أغلبهم لا يجيدها بحجة أن ذلك يجاري الحداثة والعالمية، فتجده لا يدري أن اللغة لا بد أن تحمل معنى، فيفرح بالحروف اللاتينية التي في الرسائل، ولا ينزعج من كونها لا تحمل معنى!
3E7A7174-FBAB-41EE-9E9B-17EE3A36DE1E
أسماء راغب نوار
كاتبة ومترجمة مصرية، عربية مسلمة، أعشق تراب مصر ولا يزال لدي أمل في نهضتها، أعتز بلساني العربي أيما اعتزاز، أتخذ من الإسلام منهجًا للحياة غير مقتصرة على تأدية العبادات، أود تطبيق العدالة بين الناس كافة، درست اللغة الإنجليزية وآدابها وأعمل مترجمة. تعرّف عن نفسها بالقول: "لقد أقمت حياتي على مبدأ أن المطلق الوحيد هو الله وما دونه قابل للأخذ والرد إلا ما أنزل على رسوله أو ورد عنه، ووجهت نفسي للانتصار للحق وليس للرأي، ورفعت عن عقلي الوصاية فاستقل رأيي".