خواطر مشوشة عن الإحساس بالنهاية (2/2)

خواطر مشوشة عن الإحساس بالنهاية (2/2)

30 ديسمبر 2019
+ الخط -
إذا كنت قد سمعت بالمثل الذي يقول إن "الجعان يحلم بسوق العيش"، وشقيقه الذي يرى أن "حلم القطط كله فيران"، فبالتأكيد لن تستغرب حين يقول لك كاتب إنه كان يفكر خلال الدقائق التي يرتاح فيها من نوبات القيء الناتجة من تسممه، بمقالة لم يكمل قراءتها، عن الإحساس بالنهاية وكيف يؤثر على الإنسان وسعيه للإنجاز، بالطبع لم يكن من الحكمة أن أشرك زوجتي في ما فكرت فيه في تلك اللحظات الصعبة، لأن ما بها من قلق كان يكفيها، خاصة أنني كلما تمالكت نفسي مما كنت فيه، كنت أقول لها كلاماً عاطفياً خالياً من العبث والسخرية، وهو ما أقلقها عليّ أكثر، فقد تعودت أن يكون كلامي العاطفي المصفّى مكتوباً على الورق فقط.

حين أخذ الله بيدي وقمت مما أنا فيه، ذهبت إلى عدد مجلة (ذي أتلانتيك) العريقة، الذي قرأت فيه عنوان تلك المقالة التي ألحّت عليّ خلال مرضي، والتي كتبها بين هيلي في باب (دراسة الدراسات) الذي أحرص على قراءته، لأنه يقدم من حين لآخر ملخصات لنتائج دراسات عديدة عن موضوع ما. لم يكن غريباً أن تلحّ عليّ المقالة بقوة، خاصة أن كاتبها اختار لها عنوان "لماذا النهايات صعبة إلى هذا الحد؟"، وهو عنوان متشائم أكثر من مضمونها المهم، الذي يرى أننا ندين بالكثير من إنجازاتنا في الحياة لما يصيبنا من قدرة على التركيز، حين يسيطر علينا "الإحساس بالنهاية"، هذا التعبير الذي يستدعي إلى ذاكرتي المشوشة الآن رواية جميلة للكاتب البريطاني جوليان بارنز وفيلماً أميركياً رديئاً اقتبس منها.
يشير المقال للتدليل على تأثير النهايات في رفع مستوى الإنجاز إلى دراسة نشرت عام 2014، قامت بتحليل أكثر من 3 آلاف مباراة كرة قدم احترافية في بطولات مختلفة في أوروبا وأميركا الجنوبية وكأس العالم، فوجدت أن 56 بالمائة من الأهداف سُجِّلَت في الشوط الثاني، وجاء ما يقرب من 23 بالمائة منها في آخر دقائق في المباريات، وهو ما لا يمكن إرجاعه إلى مهارة المهاجمين فقط، بل أيضاً إلى تعب المدافعين، لأن "النهايات والإرهاق يسيران جنباً إلى جنب"، وهو ما يربطه بين هيلي بدراسة أخرى عن تأثير المواعيد النهائية على عقد الصفقات، حيث وجد تحليل أُجري على العديد من تجارب المفاوضات التجارية أن 41 في المائة من الصفقات أُنجِزَت في آخر 30 ثانية من الوقت المخصص لإنهاء التفاوض، وحُلَّ معظمها في خمس ثوانٍ أو أقل، بعد أن بدا أنه لا أمل في إنجازها على الإطلاق.
تتحدث دراسات أخرى عن آليات التكيّف التي يمكن أن تساعدنا على تقبل الإحساس بالنهاية في مواضيع أقل حدة من الموت وفقدان الأحباب. هناك مثلاً دراسة عن الآليات الدفاعية التي يلجأ إليها مالكو المنازل الذين يفقدون منازلهم بسبب الحجز عليها أو اضطرارهم إلى بيعها، حيث يبدأون عند مواجهة البلاء بعد وقوعه، بالتعامل مع المنزل الذي فقدوه بوصفه مجرد "منزل"، بعد أن كانوا يتعاملون معه من قبل بوصفه "المنزل"، وعلى مستوى أقل خطورة بكثير، وجدت دراسة أخرى أن بعض عشاق المسلسلات التلفزيونية ذات الأجزاء، لا ينجحون في التعامل الواقعي مع نهايات مسلسلاتهم المفضلة، فيميلون إلى التعامل الغاضب مع أجزائها الأخيرة، ويعتبرونها فشلاً ذريعاً، كنوع من عدم قدرتهم على تقبل الإحساس بالنهاية.
في ترجمة علمية للمثل الرائع "وقوع البلاء ولا انتظاره"، ترى دراسة أجريت عن آثار فشل العلاقات العاطفية، أنه برغم كل ما تسببه نهاية العلاقات العاطفية من إحساس بالتوتر والضيق، فإنها يمكن أن تؤدي في النهاية إلى شعور أفضل ورغبة في التغيير والتطور، خصوصاً بين النساء، وهو أمر ربما كان ينطبق على المجتمع الغربي الذي أجريت فيه الدراسة، والذي أصبح يتيح فرصاً أفضل للمرأة، ولا يتعامل مع المرأة المطلقة بالوصم نفسه الذي نتعامل به معها في مجتمعاتنا التعيسة.

في السياق نفسه، يشير محرر (ذي أتلانتيك) إلى دراسة حلّلت تدوينات كتبها مرضى مصابون بأمراض قاتلة، ومساجين محكوم عليهم بالإعدام، طُلِب منهم أن يصفوا إحساسهم بقرب مواجهة الموت، ووجدت الدراسة أنهم استخدموا لغة كانت أكثر إيجابية بكثير من تدوينات كتبها أشخاص عاديون طلب منهم الطلب نفسه، ولعلي بحاجة إلى أن أذكرك بأن نتيجة كهذه لا يمكن فصلها عن العينة التي أجريت عليها الدراسة، والتي لا يمكن أن يكون من بينها أناس لم يحصلوا على حقهم في الرعاية الطبية اللازمة، أو من حُكِم عليهم بالإعدام ظلماً في محاكمات هزلية أو مسيسة.
ترى دراسة أخرى أجريت عن تأثير الموت على الممارسات الشخصية لاختصاصيي الرعاية الطبية ورعاية المسنين، أن التعرض المباشر للموت جعلهم في الغالب يميلون إلى تقدير الحياة وتفضيل العيش في اللحظة الراهنة، وتنمية حياة روحية والتفكير بشكل أعمق في الحياة واستمراريتها، وهو ما تتماس معه نتائج دراسة أخرى عن أشخاص عانوا من تجارب قريبة من الموت، فجعلتهم يشعرون بغنى روحي أكثر من ذي قبل، وقد لاحظ من قاموا بالدراسة أنه كلما كانت خطورة المناوشة التي جرت مع الموت، كان الغنى الروحي أعمق لدى من خاضوا تلك التجربة.
لست في حاجة إلى أن تذكرني بأن هناك فارقاً بين القدرة على التكيف مع فراق منزل أو نهاية مسلسل تلفزيوني أو الانفصال عن علاقة معطِّلة، وبين القدرة على التكيف مع الموت وغدره بمن نحب، ولا إلى أن تذكرني أن الحياة ليست مباراة كرة قدم يمكن أن نفوز بها في اللحظة الأخيرة، مع أنني أرى وجاهة في ما رصده أبونا صلاح جاهين من تشابهات بين حياتنا والكرة، حين كتب في إحدى رباعياته قائلاً: "أنا قلبي كورة والفراودة أكَم.. يا ما اتنطح واتشاط ويا ما اتعكم.. وأقوله كله هينتهي في المعاد.. يقول بساعتك ولا بساعة الحكم؟.. عجبي".
في النهاية، يتوقف كل شيء على منظورك الشخصي للنهاية وطريقة تفكيرك فيها، كما يذكرنا بين هيلي في ختام مقاله، ففيما يقول لنا علماء الفيزياء الفلكية إنه ما زال مبكراً جداً أن نصل إلى نهاية الكون، أو إلى النقطة التي تتوقف عندها المادة عن الوجود، فنحن نعلم أن هذا لن ينطبق علينا كبشر، لكن بمقدورنا دائماً أن نواصل التفكير في النهاية بشكل يساهم في صناعة حياتنا بشكل لا أستطيع أن أجزم ما إذا كان أفضل أو أسوأ، لأن الأمر يتوقف على قدرتك الشخصية على التعامل مع إحساسك بالنهاية، هل ستتمكن من التعايش معه وتحوله إلى قوة دافعة تنجز بها ما تشعر بأنّ من المهم إنجازه؟ ـ هذا إذا كان لنا أن نتحدث عن الإنجاز أصلاً في أوطان مجرد البقاء على قيد الحياة فيها خارج السجن يعد إنجازاً ـ أم أن الإحساس بالنهاية سيتغلب عليك ويصيبك بالذعر ويدفعك إلى اتخاذ قرارات خاطئة تطيّن حياتك أكثر مما هي عليه من طين، خاصة ونحن في النهاية مخلوقون من طين؟
بالتأكيد، لن يستطيع الإنسان مهما بلغت مهارته وحنكته وإحاطته بأحدث الدراسات العلمية، أن يسيطر على شيء في حياته بشكل كامل، فضلاً عن أن يسيطر على إحساس جارف يتملكه في لحظات الخطر والضعف، لكن من قال إن الحل هو منعه من المحاولة، وتنبيهه إلى استحالتها؟ وإذا كانت الأديان والفلسفات والآداب والفنون والعلوم قد فشلت في إقناع الإنسان بأن يكفّ عن محاولة السيطرة على ما حوله، فهل ستنجح مثل هذه الخواطر المشوشة أو ما هو أجعص منها وأكثر تماسكاً في ذلك؟
بالطبع لا، لن تنجح في ذلك، لكن لا تنسَ أنها حاولت، وإذا نجحت محاولتها تلك في أن تثير بداخلك رغبة للتفكير في طريقة ما للتعامل مع الإحساس بالنهاية، فالعبد لله يطمع منك في دعوة له بأن يكفيه الله شر المرض، ويعينه على ما يتصور أن إنجازه مهم، أما إذا أحدثت محاولته أثراً عكسياً أو زادت طينك بلّة، فأستأذنك في تأجيل الدعاء عليه إلى 2020، لأنه شاف في هذا العام ما يكفيه وزيادة.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.