غدر الصحاب كما رآه البارودي ورواه البيومي!

غدر الصحاب كما رآه البارودي ورواه البيومي!

04 ديسمبر 2019
+ الخط -
أحياناً تشعر أن القصص والحكايات التي تقرأها في الكتب، تأتي إليك في وقت الحاجة، لتطبطب عليك أو تشاركك الحيرة والاندهاش، أو ربما تقدم لك إجابة ما، لكنها أحياناً تفعل العكس، فتزيدك حيرة وغيظاً ونكداً.

كنت حين قرأت تلك القصة أتميّز من الغيظ والقهرَة، بعد أن اكتشفت لتوّي أن ممثلاً -لا أقول ابن حرام فهو للأسف ابن حلال مصفّي، فأنا أعرف أبوه وأمه جيداً وأحبهما- قام بسرقة سيناريو فيلم سينمائي كان قد أعجبه حين عرضته عليه قبل سنوات، ثم منعتني الظروف من استكمال مشروع الفيلم، بعد أن أصبحت موضوعاً على القائمة السوداء منذ منع مسلسلي (أهل اسكندرية) في عام 2014.

صاحبنا والحق يُقال كان مبدعاً في سرقة المشروع، حيث استعان بسيناريست، كان صديقاً سابقاً، ولا أدري هل كان يعلم بأمر السيناريو الذي سبق أن كتبته أم لا، وقاما سوياً بتحويل سيناريو الفيلم المكون من مائة وعشرين مشهد، إلى مسلسل تلفزيوني طويل عريض، غيّرا فيه تفاصيل بعض الشخصيات، ومع ذلك فقد ظلت معالم السرقة واضحة للعيان لمن سبق له أن قرأ السيناريو، وقد كان من نبهني إلى تلك السرقة واحداً منهم.


ظللت محتاراً في الأيام الأولى من عرض المسلسل، هل أقوم بالكتابة عما حدث على حسابي في الفيس بوك وتويتر؟ وهل سيفعل ما أكتبه شيئاً غير إثارة الشوشرة واللغط، هذا إن وجدت من سينشر ما أكتبه في كثير من الصحف والمواقع التي لا تنشر عني إلا الشتائم والأكاذيب؟ هل أكلف محامياً برفع قضية على السارق وشريكه وشركتهما المنتجة وأنا أعلم أن السارق لم يكن سيفعل ذلك لو لم يكن متأكداً من أنني لن أتمكن من أخذ حقي منه قضائياً، في أيام لم يعد فيها أحد يحصل على حقه بما يرضي الله؟

طيب، هل أتجاهل الموضوع بأكمله خصوصاً أن ما شاهدته من حلقات كان شديد الرداءة، ليس بشهادتي فقط وهي مجروحة، بل بشهادة كثير ممن شاهدوه وعلّقوا عليه في وسائل التواصل الاجتماعي وأشاروا إلى تراجع نسبة مشاهداته مقارنة بغيره من المسلسلات، هل أكتفي بتلك الردود التي أعلنت فشل المسلسل كعقوبة أم أسجل موقفي مما جرى؟ هل أتصل بالحرامي اللعين لألعن سنسفيله في رسالة مسجلة أو مكتوبة كبديل مؤقت للعن سنسفيله على الملأ؟ ظللت أفكر في كل هذه الأسئلة لعدة أيام، وبرغم أن أغلب من استشرتهم من العقلاء أشاروا علي بتجاهل الأمر تماماً مفوضاً أمري إلى الله، لأن الشكوى لغيره لن تكون مجدية، إلا أنني لم أصل إلى قرار قاطع، وظللت ميالاً إلى التجريس والمواجهة ولو من باب فشّ الغل اللازم لاستمرار الحياة.

كان على قائمة قراءاتي الرمضانية وقتها كتاب لطيف بعنوان (طرائف ومسامرات) للدكتور محمد رجب البيومي، جمع فيه الكثير من ثمار قراءاته عبر السنين، وفجأة وقعت في إحدى صفحاته على حكاية ظننتها في البدء رسالة تهدئة موجهة لي. بطل الحكاية الشاعر الكبير محمود سامي البارودي، وقد حدثت له في الأيام الأخيرة من الثورة العرابية التي كان أحد أبرز وجوهها، بعد أن أدرك أنه سيتعرض للنفي بعد انهزام جيش عرابي في موقعة التل الكبير، فاستدعى أحد أصدقائه من أعيان مديرية الغربية، وأخبره أن في خزائنه الكثير من الذهب والأموال، وأنه يخشى من قيام الإنجليز بمصادرتها، ولذلك يريد أن يحفظها لدى صديقه أمانة، فإن وافته المنية وهو في المنفى كما كان يخشى فحلال عليه ما تركه عنده، وإن رجع منه سالماً كما كان يأمل، تكون الأمانة مناصفة بينهما.

ينقل الدكتور البيومي القصة عن راويها محمود فهمي النقراشي رئيس وزراء مصر الأسبق، الذي يقول إن البارودي بعد أن عاد بسلامة الله من منفاه بعد سبعة عشر عاماً، اتصل بصديقه لكي يرد له وديعته، فلم يكتف صديقه النذل بإنكارها، بل وبالغ في إنكارها بغلظة، لأنه كان يعلم أن البارودي عاد من المنفى مجرداً من رئاسته وسطوته، وبالطبع تأثر البارودي كثيراً بذلك النهب العلني لحقه، خاصة أن ثقته البالغة بصديقه لم تدفعه من قبل إلى توثيق تسليمه ثروته لصديقه، ربما لأنه ظن أن كونه من الأعيان وأصحاب الأموال لن يجعله يفكر في نهب ثروة صديق جار عليه الزمان.

كان محمود سامي البارودي مشهوراً منذ البداية بكرمه وبأنه لا يرد سائلاً أتاه، ولأنه قرر ألا يثير ضجة حول ما حدث له من صديقه، لكي لا يشمت فيه الأعادي والحُسّاد، فقد ظل صيت غناه يلازمه في لحظات أزمته، ولذلك كما يروي طاهر الطناحي في كتابه (حياة مطران)، حين عاد الشاعر الكبير حافظ إبراهيم من عمله في السودان محالاً إلى الاستيداع، ووقع في أزمة مالية حادة، اتجه على الفور إلى صديقه القديم البارودي الذي كان قد عاد للتو من المنفى، ولم يكن حافظ المزنوق يعلم بما جرى له، ولذلك مدحه بقصيدة مطلعها:
تعمدتَ قتلي في الهوى وتعمّدا
فما أثِمت عيني ولا لحظُهُ اعتدى



ثم قال فيها:
أتيتُ ولي نفس أطلتُ جدالها
سيقضي عليها كربها اليوم أو غدا
فإن لم تُداركها بفضلٍ فقد أتت
تودع مولاها وتستقبل الردى

فبكى البارودي بشدة حين سمع البيتين، وناشد صديقه حافظ إبراهيم أن يقوم بحذفهما من القصيدة حين ينشرها، ولم يفهم حافظ سر ذلك الطلب، إلا بعد أن قام البارودي وغاب قليلاً ثم عاد بظرف فيه أربعون جنيهاً، كانت قيمة معاشه العسكري وقتها، وشرح ظروفه لحافظ وقال له: "إنني أبكي لأنني عشت إلى زمن يقدم فيه مثلي إلى مثلك هذا المبلغ الضئيل"، وبالفعل حذف حافظ البيتين حين نشر القصيدة.

كان البارودي خلال منفاه قد شهد ألواناً من خذلان الأصدقاء وغدر الصحاب، كان من أقساها عليه تجاهلهم الكامل للحديث عنه من قريب أو من بعيد في مقالاتهم وقصائدهم، وهو ما يذكرك بعبارة مارتن لوثر كنج الشهيرة التي لخصت هذا المعنى المهم: "في النهاية لن نتذكر كلمات أعدائنا بل صمت أصدقائنا"، ولذلك تأثر البارودي جداً حين قرأ وهو في منفاه في سرنديب بعض أشعاره منشورة ضمن مقالات أدبية كتبها الأمير شكيب أرسلان ونشرها في (الأهرام)، وكان شكيب وقتها في بداية حياته الأدبية، وحز في نفسه أن يذكره شكيب أرسلان، في حين أغفله بنو قومه من المصريين وخصوصاً أصدقاء عمره والكثير ممن كان له فضل لا يُنكر عليهم، فكتب إلى شكيب أرسلان قصيدة قال فيها:
أشدتَ بشعري بادئاً ومعقباً
وأمسكتُ لم أهمس ولم أتقدمِ
وما ذاك ضناُ بالوداد على امرئٍ
حباني به لكن تهيبتُ مقدمي

فتأثر شكيب أرسلان ورد عليه بقصيدة قال فيها:
أيعجبُ من تنويه مثلي بمثله
لعَمرُ الذي قد شَقّ في شعره فمي

لم يكن البارودي يتوقع ألا يكون خذلانه في منفاه أقسى ما يمكن أن يقوم به أصدقاءه، ولم يكن يخطر على باله أن يصل الأمر إلى حد نهبه بكل بجاجة، لكنه قرر أن يفوض أمره لله ويستأنف حياته، وحين علم الشيخ محمد عبده بما جرى للبارودي على يد صديقه اللعين الذي كان صديقاً مشتركاً للاثنين، قرر أن يسافر إلى طنطا ليلتقي بالصديق النذل، دون أن يخبر البارودي بقراره.

قال الشيخ محمد عبده لذلك الصديق: "يا رجل أنت فوق الثمانين الآن، ولقاء الله قريب، وحرام عليك أن تحرم رجلاً فاضلاً من حقه، خاصة وهو يعاني مرارة الحرمان بالنسبة لسابق عهده"، ولم تكن مهمة إقناعه سهلة، لكن الشيخ محمد عبده نجح فيها إلى حد ما، حيث استطاع أن يحصل منه فقط على عشرة آلاف من الجنيهات الذهبية، وقد كان المبلغ المنهوب أكثر من ذلك بكثير، لكن ما استرده الشيخ محمد عبده كان كافياً لحل أزمة البارودي المالية.

عاد الشيخ محمد عبده من مهمته فرحاً بما استرده من مال البارودي، لكنه فوجئ بأن البارودي رفض أن يأخذها، بل ولام محمد عبده لأنه تدخل في الموضوع، وطلب منه أن يرد الأموال إلى سارقها، قائلاً له: "يجب أن تردها له لكي يكوى بها في نار جهنم حين يلقى الله، أيعتقد أنه يتفضل علي بجزء تافه من مالي فيهدأ ضميره ويستريح، لا بد أن أتركه نهباً لعذاب الضمير".

قلت لنفسي حين وصلت إلى هذا الجزء من الحكاية: "طيب هاهو البارودي يبعث إليك برسالة عبر النقراشي والدكتور محمد رجب البيومي لتوفر وقتك وتفوض أمرك إلى الله، وتترك الحرامية يهنأون بما سرقوه، وتلتفت لما هو أجدى وأبدى"، لكن الدكتور البيومي لم يتركني أهنأ كثيراً بذلك الخاطر "الممرهم" للنفس، حيث علّق على القصة قائلاً: "إن خطأ محمود سامي البارودي لا يرجع إلى رده المال وهو صاحبه، قدر ما يرجع إلى اعتقاده أن للخائن ضميراً يؤرقه ويعذبه، ولو وجِد عنده هذا الضمير ما أنكر الحق وخان الأمانة".

أعادتني كلمات الدكتور البيومي إلى صوابي، فلمت عقلي لأنه كان ينبغي أن يذكرني منذ البداية بذلك التصور الواقعي، بعد كل ما شاهدته من نذالات خلال السنين الماضية، لم يهونها علي إلا ما شاهدته من جدعنة وكرم أخلاق من كثيرين، كانت المفارقة الجميلة والمثيرة للشجن أنهم لم يكونوا من أصدقائي القدامى، لكنني لم أسرف على عقلي في اللوم، لأنه كان معذوراً حين تعلق في غمرة الكرب بقشة، وحمدت الله لأنه رزقه ورزقني بكتاب الدكتور البيومي، لينبهنا قبل أن نطيل التعلق بها وندخل بها في الغويط، وننتظر عدالة السماء وهي تنزل على ستاد باليرمو الدولي، ثم نرى في نهاية شهر رمضان صور الحفلة الصاخبة التي أقامها الحرامي الأثيم ابتهاجاً بالنجاح الساحق لمسلسله، وتوقيعه عقداً لمسلسل جديد، لا يعلم إلا الله من سيكون ضحيته، وهل سيفوض أمره لله، أم سيكون حظه في أخذ حقه أفضل من حظي وحظ محمود سامي باشا البارودي؟

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.