مفقود أو بدل فاقد!

مفقود أو بدل فاقد!

26 ديسمبر 2019
+ الخط -
جهزتني أمي صباحاً، لترسلني وعمري أقل من الرابعة، إلى المدرسة التي لم تكن مجهزة لاستقبال (طلبة الكي جي ون) مثل هذه الأيام، فتم وضعي بالصف الابتدائي الأول، مع طلبة يكبرني أصغرهم بعامين، وكانت تلك شقيقتي، وآخرين يصل فارق العمر بيننا إلى الضعف أحياناً. والدي كان ناظر تلكم المدرسة ومساعد مديرها.

لا أتذكر شيئاً أبداً بخصوص ذلك العام ورُوي لي بعدها لسنين أني كنت أذهب يوماً وأغيب يومين، وحين يسألني أهلي أجيب أن اليوم عطلة، وبذلك أنفقت ثلثي العام الدراسي في إجازات.

لم يكن والداي جادين في مسألة الدراسة، لذا لم يهتما، وكان السبب أن تتخلص والدتي من شغبي لبضعة أيام في الأسبوع خاصة وقد كنا قريبين جداً من استقبال "عوض" الذي كان عوضاً لأخي محمد المتوفى منذ سنة تقريباً، وعوضاً لابن أخ والدتي "عوض" الذي خطفه الموت سريعاً حين اعترضه وهو يقود سيارته وتسبب في حادث مميت.

عوض بعد تاريخ ولادته بنحو أربعة وعشرين عاماً أصبح ملازماً ثانياً، وفي الجيش عادة ما يستعملون مصطلح بدل فاقد واسم عوض هو ترجمة حرفية لـ"بدل فاقد".

نهاية العام الدراسي، وبعد إرغامي على الاشتراك في الامتحانات النهائية، بغرض التدرب والاستعداد لبداية حقيقية في الدراسة العام المقبل، نجحت بتقدير جيد. رغم إصرار والدي على إعادتي السنة الدراسية، كان موقف أستاذي علي رحمه الله، أقوى ودافع بشراسة عن أهليتي لدخول الصف الثاني وهو الذي يكبر والدي سناً ويحترمه أبي كثيراً.


لا أملك من ذكريات السنوات الأربع الأولى في الدراسة، الكثير، اللهم إلا علب الحليب المثلثة الشكل، التي كانت تُعطى لنا هي والتمر وأشياء أخرى في الإفطار. أتذكر في الصف الثالث السينما التي تعرض أفلاماً على جدار كبير يشاهدها حتى السكان. أذكر في تلك المرحلة "امباشي" محمد رحمه الله حين يقف "استعداداً" طيلة أداء النشيد الوطني معطياً تحية مهيبة، لا ينزل يده إلا بعد أن ينتهي النشيد.

أتذكر طابور الصباح وتوقف الحركة كاملة إبان سماع النشيد الوطني. عرفت لاحقاً أني أصبحت تلميذاً مميزاً من خلال شهادات الدراسة التي رأيتها في ملف انتقالي، كذلك عرفت كل رفاقي بالفصل من خلال صورة جماعية التقطت لنا في رحلة الربيع الموسمية، حين شاهدتها لاحقاً بعد أن كنت أتذكر قلة منهم، رغم أن الفصل مثل فصول أميركا لا يتعدى الطلبة فيه الخمسة عشرة أو العشرين.

كنت أو لدقة أكثر، كان مدرسانا في الصف الثالث حريصين على أن يتحصل أول فصله على الترتيب الأول في كل فصلي المدرسة الوحيدين، وكان السباق محتدماً بيني وبين ابنة ابن خالي التي تفوقت علي بـ(النقاط).

انتقلت لمدرسة أخرى، مع أصدقاء جدد، وفصول أكبر وأعداد طلبة أكثر. بدأت تعلم الموسيقى ولعب الكرة، في فريق منتظم، وأخذني جارنا الأستاذ عبد اللطيف أمده الله بالعمر والعافية وبارك بعمره إلى الإذاعة المدرسية لأكون مسؤولها، وأعزف كل صباح نشيد الله أكبر، الذي كان نشيداً تعبوياً من ألحان عبد الوهاب، لا علاقة له بليبيا مطلقاً رغم حماسته، وفرضه القذافي علينا كنشيد وطني ليس فيه ما يشير إلى ليبيا، ولم أكن أعرف ذلك ولا أهتم له. كنت أعزف النشيد ويصاحبني على الدرمز أستاذ لا أتذكر إن كان مصرياً أو فلسطينياً.

قبل أداء النشيد كنا نذيع أغاني وفقرات ثقافية وترفيهية، وهذا يستغرق نصف ساعة. كان لا بد من تواجد الطلبة في المدرسة قبل قرع جرس الاصطفاف، وكان علينا أن نكون في الفصول قبل حضور المدرس بخمس إلى عشر دقائق حسب بعد المسافة، نعلق فيها على الجدار الخلفي المقابل للسبورة، جرائدنا الحائطية، ليختار منها مدرس اللغة العربية ما يصلح أن يوضع على ألواح موجودة في (الكوريدورات).

كنا منظمين، يحترم الصغير الكبير ويعطف الكبير على الصغير تماماً كما كنا نقرأ ذلك على ظهر الكراسة المدرسية المجانية التي توزعها علينا المدارس إضافة لأقلام الرصاص والممحاة وبعض الأدوات اللازمة. كل ما ذكرته هو في فترة السبعينيات من القرن الماضي.

كانت أول مرة أسمع فيها اسم حفتر وأنا في الحادية عشرة من عمري، حيث غادرنا والدي إلى طبرق ليقيم هناك عدة أيام تكللت أخيراً بمقابلة حفتر في شأن خالي خالد، الضابط الذي تزوج دون موافقات الأجهزة الأمنية وقياداته والقائد العام والأعلى، والأنكى أنها كانت زيجة ثانية، والعسكر للحصول على موافقة الزوجة الأولى كانوا يذلونك، ما بالك أن كانت زوجة ثانية. عاد والدي ومعه الموافقة وأطلق سراح خالي بعد أسابيع، سجن لجريمته النكراء، رحم الله خالي المزواج بمعايير أيامها.

كان حفتر قائداً للمنطقة الدفاعية الشرقية تحت يديه وقتها على الأقل ثلاثة أرباع قوة الجيش الليبي، خاصة وقد كنا في حالة حرب متوقفة مع مصر أو لنقل حالة عداء. بعدها تم تعيين قائدين عسكريين لغزو تشاد بحيث اختط معمر القذافي خط عرض بمنتصف تشاد تقريباً، تحته جنوباً عين خليفة حفتر وشماله عبد الكبير وكلاهما رقيا إلى رتبة عقيد.

كانت تستهويني القراءة، ونذهب للمكتبة العامة فنستعير ما نريد من الكتب من "سي" حسن رحمه الله، ونمر على قهوة العربي فنشرب كاساً بارداً من الحليب باللوز، بقرشين، وان استأذنا أهلنا، لا يفوتنا المرور على سينما الزني لنحضر الحفلة الأولى بعد الوقوف طويلاً في طابور، ولأننا نملك بطاقات طلبة ابتدائي ثم إعدادي كانوا يبيعوننا التذكرة بستة قروش، نستمتع فيها بأفلام الكاو بوي، وكينت ستوود وتشارلز برونسون أو العصابات أو زورو، قبل أن يطل علينا جداراً مرتفعاً شاهقاً ليحرمنا كل هذه الأنشطة، وتتغير ملامح المكان ويتحول إلى مقر لإقامة المؤتمر الشعبي وإدارة القيادات الشعبية لاحقاً، والمكتبة إلى مقر لأمانة المؤتمر.

لم نبالِ عامها بإدخال التدريب العسكري للمدارس الثانوية بليبيا، وبدأت لا أجد صحفاً في السوق إلا الموقف العربي، الوطن العربي، أعتقد البيرق، وغيرها من صحف مرتزقة، أسستها دول عربية لتكون صوتاً لها، ومعظم الأقلام سقطت في فخ البيع للجهة الممولة، وكان لليبيا نصيبها من الأقلام والصحف، مثلها مثل العراق وسورية، وبدرجة أقل العربية السعودية، تابعت من خلالها الحرب الإعلامية والتراشق الصحافي بين اللبنانيين كمرآة لحربهم الأهلية.

كان هناك بعض المجلات الرياضية تصدرتها مجلة الصقر القطرية التي كانت تصلنا يوم الأربعاء، وتباع أعتقد بأربعين قرشاً، وكانت المجلة الأغلى سعراً، وصاحب الكشك صديقي يمسك لي نسختي، حيث قامت ليبيا بإنشاء هيئة لمراقبة الصحافة وتوزيع الصحف بحيث يصعب جداً اعتماد كشك يبيع "ثقافة"، وكميات الصحف التي تشذ عن خطوط الهيئة قليلة العدد مقارنة بصحفهم، لذا تجد بعض المرتزقة من مدراء أو رؤساء تحرير تلكم الصحف يتملكهم الحنين لعهد القذافي أو بالأحرى دولاراته. كانت هناك الجيل والعربي وقبلهما النهضة واليقظة إضافة للمختار أو الـReader Digest.

من هنا عرفنا لبنان وفسيفسائه من البطرك صفير حتى كمال جنبلاط والحسيني ورشيد كرامي والحص وعون، وعرفنا تدخل ليبيا بقوات تحت قيادة "المؤرخ" العماد السوري طلاس.

وبعدها دخلنا الثانوي وكان نصيب مدرستي أن تتخصص في مدفعية الناقلات البرمائية العسكرية وهي بي إم بي، أفشل سلاح حربي، فلا كانت بناقلة جنود ولا دبابة ولا برعت مائياً ولا برياً، وكان من يدربنا جنود قادمون من تشاد، "نخبة"، فحينها كانوا جنوداً منتصرين ورغم هذا يشعرون بمرارة الحرب ويحدثوننا عن مآسيها وهم من وصف لنا تلكم الناقلات بالسيئة، فمجرد أن يصطاد أر بي جي الجنزير تموت الناقلة ويتم اصطياد الأحد عشر فرداً الذين بداخلها.

أخبرونا عن الفظاعات التي يمارسها حفتر من حرق القرى المكونة من بيوت من قش بـ"الغراد" بعد تصفيره، بحيث بدلاً أن يرمي الغراد بزاوية ترتفع شيئاً فشيئاً ولا تكون دقيقة الإصابة، يحفرون له حفرة تساعدهم على أن يكون اتجاه الصواريخ أفقياً لتحرق القرى الآمنة الجائعة. كان حفتر يلقي بالأسرى من طائرات الهليكوبتر وما أكثرها في تلك الحقبة الرديئة السيئة.

إذاً حين لا نرى أسرى عند مليشيا حفتر والتي تمنيناها بداية أن تكون نواة جيش لا تستغرب كونها عادة قديمة متجذرة عنده. فإعدامات الورفلي التي هي ليست أبداً تصرفات فردية، بل الأوامر أيضاً للمجرم الورفلي، أي نفسية مريضة ونفس مهزوزة يمتلكها هذا الحفتر!

كانت نهاية تشاد هزيمة مدوية، شاهدت صورها في زيارة لليونان في عدد "بائت" قليلاً من مجلة المصور المصرية أكتوبر 1987، بمقالات وتحليلات أخذت أكثر من نصف العدد مرفقاً بصورة في صفحة الوسط على صفحتين وورق فاخر للأسرى الليبيين يتوسطهم حفتر، وهي الصورة المتداولة وقد جازفت بتهريبها من خلال مطار طرابلس، المنفذ الوحيد لليبيا على بعض دول العالم وقتها ونجحت.

كانت هذه السفريات بعد فصلي وأنا طالب إعدادي طب من قبل اللجان الثورية عام 1986 شهر إبريل، ولمدة عامين من كل الجامعات الليبية وحين عدت عام 1988/1989 لم توافق كلية الهندسة ثم تذرعوا بأن الثانوية العامة استنفذت فإن لم أقرأ خلال عامين كاملين يتوجب علي إعادة الامتحان بالثانوي.

كان القتلى الليبيون في حرب تشاد إضافة للمفقودين يعدون بالآلاف بخلاف الأسرى ومن وصل مريضاً في عقله. سبع سنين ونيف قضاها حفتر بتشاد يقتل ويحرق لا يرحم أسيراً ولا شيخاً ولا امرأة أو طفلاً. سبع سنين عانينا فيها المرار كما الآن وأكثر في داخل ليبيا جراء حرب طائشة ظالمة بقيادة غبية جاهلة غير مؤهلة لقيادة فصيل أو سرية من كتيبة. فقدنا فيها خيرة الشباب بين قتيل ومفقود وهارب ولاجئ، وفقدنا فيها الكرامة والأخلاق والقيم وتحولنا إلى شعب مختلف تماماً عن الشعب الذي تحدثت عنه في البداية!.

دلالات

8E38CF27-B10A-4916-A022-177616221C42
أحمد يوسف علي
مختص في نظم المعلومات ومحاضر جامعي سابق.