والعود أحمد!

والعود أحمد!

25 ديسمبر 2019
+ الخط -

أمس الأول، مررت بأبي الفرج الأصفهاني في مقهى الفيشاوي، وحدثني طويلًا عن أمور شتى في دنيا الأدب، لكنني قرأت في وجهه امتعاضًا لم يَفُه به؛ فأردت أن أتوثق مما داخلني، وقلت: يا أبا الفرج! لله در القائل (إذا القلبُ لم يَبْد الذي في ضميره/ ففي اللحظ والألفاظ منه رسول)؛ فأغمض عينيه وقال: صدق والله!

ووصل حديثه بعدما أرخى عينيه، ثم رفعهما وأشار إلى النادل - الجرسون لا مؤاخذة - وهو يقول: المشاريب عليك يا أفندي! فأجبته أن حبًّا وكرامة، اطلب واتمنى يا عمنا. راقه أن قرأ في عيني قبولًا لشرطه، واسترسل في الحديث تاركًا نفسه على سجيتها، قال: منذ جئت وأنت تطالع هاتفك مرةً كل ربع ثانية، ويخيل إليَّ أنك تنتظر أمرًا جللًا، وأن هذه الرسالة ستنقلك من حالٍ إلى حال، أو سيبعثون في طلبك لتحلف اليمين وتستلم الوزارة!

قلت: على رسلك يا عمنا! بلاش تبالغ وتأفور، لا شيء من ذلك على الإطلاق، لكن حرمنا المصون اتصلت بي قبل ساعات، وقالت لي سأرسل لك "شورت لِست" بطلبات البيت، ومتتأخرش، هاتها وتعالَ فورًا، وسيبك بقى من - سامحني يا عمنا - أبو الفرج ولا أبو الدهب اللي هياكل دماغك ده!


قلتها ووجهي في الأرض حياءً وخجلًا وكسوفًا - وزي ما تقول قول - لكن أبا الفرج لم يغضب واكتفى بصوتٍ خرج من وجهه، وأعتمد على نباهة القارئ العزيز في تحديد مصدر الصوت، ثم قال لي: أتعلم ما الذي يُتلف أمل الشباب؟ قلت له: انصحني ونورني أبوس ضوافرك! تنهد وطرقع أصابعه غير مرة، ومط شفتيه وبلع ريقه، ثم أشار أخرى للنادل يستعجله، وبعدما أجهد أعصابي في انتظار جوابه، نظر إليَّ قائلًا: كثرة مطالعة الجوال، يا بني أنت تقتل وقتك بين وسائل التواصل الاجتماعي وبين الشواغل الفرعية، إنني لم أفتح واتساب أو فيسبوك أو تويتر مرة واحدة في حياتي!

أتتصور أنني لو فتحت حسابًا في تيك توك مثلًا، وضيعت وقتي في متابعة بنات زي لهطة القشطة، كنت هجمع مادة الأغاني؟ لقد أنفقت خمسين عامًا من عمري في تأليف كتاب الأغاني، لو أنني هرولت وراء كل متابع معقِّبًا أو موبِّخًا، ورددت على كل من يكتب لي من الشرفاء والدهماء ومن الإسكندرية إلى صنعاء، هل كان بمقدوري أن أتفرغ للتأليف؟ أتدري أنني كتبت 36 كتابًا من بينها الأغاني؟!

وطفق عمنا أبو الفرج يبكتني وينتقم من حرمنا المصون في شخصي، وتابع حديثه بتلذذ وهو يشرب "إيسبريسو ماكياتو" مع حجر تفاح درجة أولى، وانفجرت ماسورة ذكريات حياته وكفاحه في دنيا الكتابة، وكل هذا لأني طالعت الموبايل اللعين في حضرته نحو ألفي مرة في نص ساعة! قال أبو الفرج: تعرف إن الصاحب بن عباد كان مدمنًا؟! قلت: يا ساتر يا رب! إيه الكلام ده؟ معقولة؟!

وصدر الصوت نفسه من وجه أبي الفرج، وأكمل دون تمهل: طبعًا كان مدمناً، مدمن قراءة، مثلما أنت مدمن متابعة موبايلك، ومدمن خوف من المدام، وبطبقة صوت فيها الكثير من السهوكة قال: متزعلش مني! شعرت بأنه بيقلش ويرد لي صفعة المدام صاعًا بصاعين، لكن الرجل ضيفي ولازم أتحمله وأمري لله.

طبعًا ابن عباد كان مدمن زي ما قلت لك! كسر بجملته المكررة صمت الإرسال عقب جملته البايخة، وأضاف: كان إذا سافر حمل معه حمولة أربعين جملًا من الكتب، ولو أنه عايش دلوقت؛ لحمل معه أحد أجهزة كيندل - خفيف ومريح للقراءة وليس للتصفح الرخيص - (قالها وهو يضغط على كل كلمة على طريقة زكي رستم). لكنه لما سمع بكتاب الأغاني، ألغى كل تلك الحمولة، وريَّح الأربعين جملًا واكتفى بالأغاني.

وأشرقت أسارير وجه أبي الفرج مع آخر شفطة من الإيسبريسو، وقال بصوتٍ لا يخلو من نحنحة: سمعت أن عندهم كوكتيل فواكه أسطوري، إيه رأيك تطلب لنا اتنين كوكتيل فاخر، وأقص عليك طريقةً قضى بها الخلفاء وقت فراغهم وأفادوا منه، يعجب؟! فأجبته على طريقة الشيخ عرابي ودونما تردد: يعجب طبعًا جدًا!

ومع رشفات متقطعة من كوكتيل الفخفخينا المدندش، رفع أبو الفرج سبابته وهو يحكي بعضًا من قصص الخلفاء وأوقات فراغهم بين الجد والهزل، ودارت رأسي من عجيب ما سمعت، لكنني ركزت في حديثه عن كلمتين تلوكهما الألسن كثيرًا، ولهما في النفس وقع جميل؛ العود أحمد! واستسمحني أبو الفرج أن يغسل يديه من العاميات واللهجات حتى لا يضيع رونق القصة؛ فوافقته وسمعت مقالته بجوارحي كلها.

أخبرني أبو الفرج أن الرواة نقلوا له قصة تتعلق بمقولة "العود أحمد"، وذلك أن الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان - المؤسس الثاني لدولة الأمويين بعد معاوية بن أبي سفيان - نادى حاجبه يومًا وأمره أن يأتيه ببدرةٍ (صُرة) من ذهب؛ فأحضرها ووضعها بين يديه، وقال عبد الملك لجلسائه: أيكم يُنشدني صدر هذا البيت وله هذه البدرة؟ فلم يجد عنهم جوابًا لما سأل عنه.

وكان الخلفاء - قبل عبد الملك وبعده - يسألون في مجالسهم عن الأدب والشعر وغيرهما، ويتخذون من هاتيك الأحاديث تسرية وسلوى، فلما لم يجد عنهم جوابًا، أمر حاجبه أن يتفقد الناس خارج المجلس، ولينظر أيهم يحفظ البيت؛ فقال أحدهم البيت عندي، ورفض أن يبثه الحاجب، واشترط أن يقوله للخليفة مشافهة ودون وسيط.

وافق عبد الملك وقد أدرك أن هذا لا بد أن يكون صاحب حاجة، وما جوابه إلا بوابة عبور ليعرض أمره على الخليفة، وقال لحاجبه: "هذا رجل قد طال مقامه بالباب وله حاجة، والله لئن دخل علي ولم ينشدني لأعاقبنه"، ودخل الرجل وسلم، قال عبد الملك: أنشدنا صدر بيتنا! فقال الرجل: يا أمير المؤمنين! حاجتي؛ فقال: وما هي؟ قال: لي بنو عمٍ باعوا ضيعتهم بالسواد؛ فأدخلوا ضيعتي في ضيعتهم! قال عبد الملك: فإن أمير المؤمنين قد رد عليك ضيعتك؛ فأنشدنا صدر بيتنا.

وبعدما اطمأن الرجل، طفق يجيب: نعم يا أمير المؤمنين! قالت تميم إنه بيتها، قاله أوس بن حجر (جزينا بني شيبان صاعًا بصاعهم/ وعدنا بمثل البدءِ والعود أحمد)، ابتسم عبد الملك ابتسامة المُغضب ورمقه بعينه قائلًا: أخطأت! لكن الرجل لم يفوِّت الفرصة وقال: يا أمير المؤمنين! أبلعني ريقي، قال عبد الملك: قد فعلت؛ فاستطرد الرجل: قالت اليمن إنه بيتها، قاله امرؤ القيس (فإن كنتِ قد ساءتكِ مني خليقةٌ/ فعودي كما نهواكِ فالعود أحمد).

وللمرة الثانية، يقول له عبد الملك: أخطأت! فاندفع الرجل مواصلًا حديثه: يا أمير المؤمنين! قالت ربيعة إنه بيتها، قال المرقَّش (وأحسنَ فيما كان بيني وبينه/ وإن عادَ بالإحسان فالعود أحمد)؛ فقال عبد الملك: أصبت! وإنك لظريف؛ فمن أنت؟! قال: أنا زيد بن عمرو، فسأله: ممن؟ قال: من حي جانب عجرفية قيس وعنعنة تميم وكشكشة ربيعة وصأصأة اليمن وتأنيث منانة، أنا من عذرة؛ فأمر له بالبدرة.

أراد أبو الفرج أن يضيف بهاراته على الخبر مع النقد والتحليل، فغمزني في كوعي وهو يقول: أرأيت كيف كانوا يقضون أوقاتهم في مجالسهم؟ لا موبايلات ولا واتساب ووجع دماغ، ولكن لي تعقيب على البيت الأول؛ فقد نسبه زيد بن عمرٍ إلى أوس بن حجر، ليس كما قال، بل هو لمالك بن نويرة، وقد أنشد عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير فأحسن إذ يقول (بدأتم فأحسنتم فأثنيت جاهدًا/ وإن عدتم أحسنت والعود أحمد).

وأول من قال هذا المثل خداش بن حابس التميمي في أهل حبيبته واسمها الرَّباب، ولهذا قصة يطول ذكرها، ولا أريدك أن تتأخر على أم العيال، لكنها قصة طريفة سأسوقها لك في وقتٍ قريب، وفيها قال خداش "العودُ أحمدُ، والمرءُ يرشدُ، والوِردُ يُحمد"؛ فأرسلها مثلًا.

وأضاف أبو الفرج وقد تلاعبت نسائم حي الحسين ساعة العصاري بفؤاده: وقال شاعر لا أذكر اسمه - ولعلني أتذكره - في ذلك (فإن كان مني ما كرهتِ فإنني/ أعود لما تهوينَ والعود أحمد)، وقال غيره (جزينا بني شيبان قِدمًا بفعلهم/ وعدنا بمثل البدء والعود أحمد)، وقال ثالث (وأحسنَ عمرو بالذي كان بيننا/ فإن عاد بالإحسان فالعود أحمد)، وللأخطل وإن شطَّ عن الجادة قوله (فقلت لساقينا عليك فعد بنا/ إلى مثلها بالأمس فالعود أحمد)، وقريبٌ منه ابن المعتز في قوله (خليليَّ قد طاب الشراب المبرَّد/ وقد عدتُ بعد النُّسكِ والعود أحمد).

وتفتق ذهن الأصفهاني عن شواهد أخرى، وذكر قول بعضهم (فلم تجر إلا جئت في الخير سابقًا/ ولا عدت إلا أنت في العود أحمد)، وللمرقش الكبير (وأحسنَ سعدٌ في الذي كان بيننا/ فإن عاد بالإحسان فالعود أحمد). كلهم قالوها بالرفع، لكنني وقفت على رجلين وضعا عليها بصمةً مختلفة؛ الفرزدق في قوله (من الصم تكفي مرة من لعابه/ وما عاد إلا كان في العود أحمدا)، ورؤبة بن العجاج (وقد كفى من بدئه ما قد بدا/ وإن ثنَّى فالعود كان أحمدا).

وسأخبرك لاحقًا بقصة عبد الملك مع الأعرابي وجرير بن عطية والفرزدق والأخطل مجتمعين في مجلس واحد، ثم.. وقطع سهراية الأعراب وهو يشير إلى هاتفي مستدركًا: لكن يبدو أن رسالةً وصلتك، ربما تكون الزوجة المصونة؛ فانهض سالمًا واحذر غضبتها، وعد إلينا ولا تقطعنا؛ فالعود - كما علمتَ - أحمد.

دلالات