تونس: الصناديق الاجتماعية بين العجز المالي والبنك الدولي

تونس: الصناديق الاجتماعية بين العجز المالي والبنك الدولي

25 ديسمبر 2019
+ الخط -
تاريخياً شهدت البلاد التونسية نظاماً للإحاطة الاجتماعية في بداية عهد الحماية الفرنسية سنة 1998، مع اكتشاف العديد من المناجم ذات الإنتاج العالي، خاصة في مواد الفوسفات والحديد والزنك، مما استدعى تأمين حماية ورعاية اجتماعيتين للكادر الفرنسي الذي نزل بكل ثقله لاستغلال تلك المناجم، خاصة في جهة قفصة والكاف وجندوبة والقصرين.

لاحقاً، امتدّ استغلال السلطة الفرنسية إلى مناطق أخرى، حيث ظلت الرعاية الاجتماعية شغلاً شاغلاً للعمال بعد أن انتفع من ريعها الكادر الفرنسي، وأصبح من الضرورة أن ينتفع بها العامل التونسي، خاصة مع ظهور بعض التكتلات والتجمعات شبه العمالية في بداية العشرينيات قادها المناضل محمد علي الحامي، تطالب بتأمين حياة العامل التونسي الذي يشق غمار المغامرة في عمق الجبال لتوفير مادة الفوسفات لصالح الشركات الفرنسية، التي تستثري على حسابه في مقابل بعض الفرنكات التي لا تفي بحاجاته اليومية.


بعد الاستقلال لم تشذ الدولة التونسية عن باقي الدول الأفريقية ذات الطابع الفرنكفوني، إذ اعتمدت بداية من 1960 على النظام المزدوج للرعاية والحيطة الاجتماعية، استناداً إلى القانون عدد 30 المؤرخ في 14 ديسمبر/ كانون الأول 1960، الذي خص أعوان وموظفي وإطارات الدولة بصندوق رعاية اجتماعية أطلق عليه الصندوق القومي للتضامن والحيطة الاجتماعية.

مع انطلاق العمل بهذين النظامين لم يشهدا في بداياتهما مشاكل تذكر رغم تعقد الإجراءات المعمول بها، ويعود الفضل في ذلك إلى أن عدد المضمونين اجتماعياً في كلا الصندوقين قليل جداً، إضافة إلى أن الأجور منخفضة ونسبة الاقتطاع لصالح المضمون كانت صغيرة، مما يسهل احتسابها.

ومع توسع الدولة في إجبار قطاعات أخرى ذات مردودية، وظهور شركات خاصة وتنامي عدد موظفي وعمال الدولة والقطاع الخاص، أصبح من الضروري النظر باهتمام إلى تلك التغيرات الاجتماعية والاقتصادية وأثرها على الصندوقين المذكورين، لتزيد الأزمة العالمية التي شهدتها السبعينيات من إعادة الدفع نحو قراءات أخرى للمشهد بعيداً عن بعض القراءات الجامدة التي ترى في أن الرعاية الاجتماعية للدولة أمر لا مناص منه، في حين أن الأمر قد يدعونا إلى البحث في أسباب انهيارها سواء في تونس أو في فرنسا بالذات.

بعد الثورة أصبحت هذه الصناديق الاجتماعية عاجزة تماماً، بسبب ما خلفته الديون التي عليها في العهد السابق من دمار كلي، سواء على الهيكل الاجتماعي الذي يمثل الدولة، أو حتى على المضمونين اجتماعياً، مما اضطر الحكومات المتعاقبة إلى الالتجاء إلى حلول ترقيعية لا تنهي الأزمة جذريا بل ترتقها إلى حين، ثم تبرز مساوئ تلك الحلول مجدداً ويتجه الأمر إلى ابتداع حلول أخرى، لتبقى صفة المؤقت تلاحقها.

من هذه الحلول التي التجأت إليها السلطة هي التّرفيع من سن التقاعد بالنسبة للعمال والموظفين في مرحلة أولى من سن الستين إلى سن الثانية والستين، وذلك حتى تخفض أقصى ما يمكن من عدد الفئة السلبية (المتقاعدين)، لكن التخفيض من الفئة الناشطة نتج عنه تضخم في الأجور، لم تعد الدولة قادرة على استيعابه، لتجد نفسها تحت ضغوط البنك الدولي، تطبّق آلية التقاعد الاختياري المبكر الذي تمنح بموجبه للعامل أو الموظف الحق في مغادرة عمله قبل سن السابعة والخمسين نظير مبلغ مالي محترم تعويضاً عن عمله لثلاث سنوات متتالية.

هذا الحل لم يؤت أكله أيضاً، مما استدعى الاقتطاع من أجور الفئة الناشطة والمقدرة بحوالي 660 ألفاً في الوظيفة العمومية، ما قدره 01%، بعنوان مساهمات في إعادة التوازن لصناديق الرعاية الاجتماعية، بداية من يناير/ كانون الثاني 2018، حيث أصبح هذا الإجراء المؤلم حملاً آخر ثقيلاً على الفئة الناشطة، التي بطبعها تعاني الشظف الاجتماعي والاقتصادي بسبب ارتفاع أسعار المواد الأساسية وتضاعفها مرات عديدة.

والغريب في الأمر أن الوضع المتردي للصناديق الاجتماعية في تونس ودخولها مستنقع العجز الكلي في الإيفاء بتعهداتها تجاه منظوريها تعيشه الآن الصناديق الاجتماعية في فرنسا، وبنفس القدر من الخطورة، حتى إن النقابات العمالية الفرنسية رفضت تماماً بعض الإجراءات المؤلمة التي من المفترض أن يلتجأ إليها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لإنعاش الصناديق، وتحصنت هذه النقابات بالاحتجاجات والإضرابات المتواصلة منذ مدة ليست بقصيرة.

ومما زاد في تعكير الوضع التونسي الإملاءات المستمرّة للبنك الدولي على الحكومات التونسية، المتمثلة في تجميد الأجور والترفيع في نسب المساهمات والتخفيض من عدد العمال والموظفين والترفيع في نسب الأسعار، كل هذه الإملاءات نتج عنها اتساع الهوة بين طبقات المجتمع التونسي، حيث كانت في الماضي الطبقة الوسطى هي المسيطرة، وكان الفقر لا يتعدى نسبه 15% في أقصى الحالات، ولكن مثل تلك الإجراءات المؤلمة وسعت الهوة بين الطبقة الغنية والتي لا تتعدى أعدادها أصابع اليدين، وظهور عائلات استفادت من انتعاش التهريب والتهرب الجبائي، وبين طبقة كانت وسطى فأصبحت فقيرة، بل مفقّرة كتعبير أكثر واقعية.

خلاصة القول: إن النظام الرعائي المستمد من التجربة الفرنسية قد أثبت بمرور الوقت أنه لا يفي بحاجة الفئة الناشطة في تونس، بل أكثر من ذلك قد عمق صعوباتها ومشاكلها، لتصبح التجربة الرعائية "الأنغلوساكسونية" بأساسها الاختياري في الاقتطاع فكرة يمكن دراستها والتعمق فيها، بل وطرحها كتجربة على أرض الواقع، لعلها تنقذ الصناديق الرعائية التونسية من أزماتها المستمرة والتي لا يبدو أنها ستنتهي على المدى القريب.