نهاية النفق والكتابة على القبور وتغيير ما يجب تغييره

نهاية النفق والكتابة على القبور وتغيير ما يجب تغييره

23 ديسمبر 2019
+ الخط -
ـ كان جدي حريصاً على أن أجيد تعلم اللغة العربية منذ نعومة أظافري، وعندما شاهدني أبكي يوماً بسبب قسوة أستاذ اللغة العربية عليّ، قال لي محاولاً تهدئتي ولكن بشكل واقعي: "معلهش يا ابني استحمل، وما تنساش إن سيدنا النبي بيقول: من تعلم لغة قوم أمن مكرهم".

ـ لا يصح منطقياً أن أكون قد انتهيت واحترقت ولم يعد لي أي جدوى، في الوقت الذي تكتب فيه تدوينة تقوم بالهجوم علي في سبعمائة كلمة، سبعمائة وثلاثين كلمة على وجه الدقة، يعني كان الأوقع أن تكتب سطراً واحداً تقول فيه: فلان انتهى وخلاص، أو ألا تكتب من أساسه عن شخص انتهى خلاص.

ـ كل الأطفال يصلون في مرحلة ما إلى سؤال "بابا هو أنا جيت إزاي؟"، لا أحد منهم للأسف يخطر على باله سؤال "بابا هو أنا جيت بكام؟"، إلا حين يصبح أباً.


ـ دعوني أصارحكم أنني لا أرى ضوءاً في نهاية النفق، لكنني لكي لا أكون متشائماً تماماً، أرى أن النفق سينهدم على رؤوسنا، ومن يتبقى بعد ذلك حياً منا، سيرى الضوء المنبعث من كشافات عمال الإنقاذ، إذا ظلوا أحياء، وكانوا أمناء في أداء واجبهم.

ـ نعيش في بلاد تمتلك أكبر عدد من الثوابت على مستوى العالم، يسعى الجميع للمحافظة عليها بأي ثمن، ومع ذلك فالكل يدرك أنّ البلاد معرضة للانهيار في أي لحظة.

ـ تبدأ حياتك مؤمناً بشعار "كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل"، لكنها توصلك بأسرع مما تتوقع إلى شعار "كونوا واقعيين واطلبوا الإسعاف".

ـ للأسف، لا توجد نصوص دينية تحرم قتل الإفيه ولا نصوص قانونية تعاقب عليه، ولذلك تنتشر جريمة قتل الإفيه كل يوم على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ويتورط فيها الكثيرون، بمن فيهم أولئك الذين يعتقدون أن وصف الإفيه ينطبق على ما يكتبونه من بيض ممشّش.

ـ تنتقل الأم المصرية من مرحلة الأمومة الرومانتيكية إلى الأمومة الواقعية، حين تنطق لأول مرة بعبارة "بكره تصحوا وما تلاقونيش في البيت".

ـ في مكان ما، في زمان ما، حدث أن نطق رضيع في المهد، ولم نسمع عن معجزته شيئاً، فقط لأنه حين نطق، قال لأمه: "كفاية أغاني أبوس إيديكي، صوتك بشع".

ـ كلما اتسعت الرؤية طالت الشخرة. (مع الاعتذار لمولانا النفّري ومقولته البديعة "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة).

ـ بالتأكيد سينتصر الحق على الباطل يوماً ما، ليس عندي أدنى شك في ذلك. لكن ذلك سيحدث حين ينتحر الباطل، بعد أن يصاب بنوبة اكتئاب حادة لأنه لم يعد في الحياة جديد مبهج، ولأن لعبة انتصاره على الحق لم تعد مسلية البتة، عندها فقط سيجد الحق نفسه وقد انتصر فقط لأن خصمه انسحب من المشهد، وأنصار الحق ستغمرهم الفرحة في البداية، ثم عندما يكتشفون الحقيقة المرة، ستبوخ فرحتهم وتتحول إلى حزن حقيقي، سيجعلهم يبصقون في وجه الحق وهم يقولون له: «إنت بتسمي ده انتصار يا وِسِخ». وساعتها سيكتئب الحق اكتئاباً عنيفاً حادّاً يشبه اكتئاب شخصية فهمي فراويلة في الجزء الثاني من مسلسل المال والبنون، وسيتمنى الموت مليون مرة فلا يأتيه الموت، وسيفكر الحق ملياً في الانتحار أسوة بالباطل، لكن ما سيمنعه كل مرة من الانتحار ليس مخافة الله، بل مخافة أن يقول أنصاره وخصومه عنه بعد موته: «شفت اللي حصل للحق الله يلعنه، عاش مهزوم ومات كافر".

ـ في مكان ما على هذه الأرض يوجد إنسان أصيل، لا يشغله الجري وراء مستحدثات التكنولوجيا، ولا تهزه الصرعات ولا التقاليع، ولا يعطي الأفضلية لحاسة البصر على حاسة السمع، ولا يجد حرجاً في إخلاصه القديم للجنس عبر التلفون الأرضي.

ـ من دعاء الطريقة العدمية الإيجابية: اللهم امنحني السكينة لأتقبل حقيقة أن الأشياء التي يحاول البعض جاهدين تغييرها، لن ينجحوا في تغييرها كما لم أنجح أنا ومن قبلي في تغييرها، ومع ذلك لا يجب أن أقوم بتكسير مقاديفهم بالحديث عن استحالة تغييرها، وامنحني الشجاعة لأن أشارك معهم مجدداً في محاولة تغييرها، لأن ذلك أشرف بكثير من الاستسلام الكامل لعدم تغييرها، وامنحني الحكمة لأن أتذكر دائماً أنني أضعف من أن أستطيع تغيير كل ما يجب تغييره وأتخيل أنني أجدع من تفضيل المشي مع الرايجة على تغيير ما يجب تغييره.

ـ يا ابنتي لا تثقي عموماً في الرجال، ولا تثقي خصوصاً في الرجل الذي يحذرك من الثقة في الرجال.

ـ تحديد خطورة الأخبار مسألة تحكمها وجهات نظر مختلفة نابعة من التجارب الشخصية، بدليل أنك في نفس اليوم الذي تنشر فيه الصحف أخباراً عن وجود قتلى بالمئات في المكان الفلاني أو وقوع كارثة طبيعية في البلد العلاني، أو انهيار العُملة في القارة الترتانية، ستجد في الجوار من يعتقد أن أخطر ما نشرته الصحف هو دراسة علمية تؤكد أن الجنس الفموي يسبب السرطان.

ـ سألني الصحافي المستجد بابتسامة عريضة، تعكس إقبالاً على الحياة، لا يتمتع به إلا من لم تقبل عليه الحياة بعد: «سؤال موضوعنا هو: ماذا تحب أن يُكتب على قبرك؟»، قمعت رغبتي الشريرة في السخرية من السؤال، وقررت أن أجيب على قد السؤال قائلا: "في الحقيقة لم أفكر بعد في إجابة لهذا السؤال الحتمي، لكن ربما أستعير إجابة الروائي اليوناني العظيم نيكوس كازانتزاكيس الذي قال: أحب أن يُكتب على قبري: "لا أخشى شيئاً ولا آمل شيئاً، أنا إنسان حر".

باخت حماسته وقال: "هل يمكن أن تقول شيئاً يخصك أنت ولا يكون مستعاراً من أحد"، قلت وقد اتّقدت حماستي: "أحب أن يُكتبوا على قبري عبارة (ممنوع التبول)"، فقال مدارياً خيبة أمله في الإجابة: "يعني هذه إجابة ساخرة لكن الموضوع الذي أكتبه موضوع جاد"، فقلت محاولا إنهاء المأساة التي ورّطت نفسي فيها: "طيب هل يمكن أن تخبرني بنموذج من إجابات من شاركوا في موضوعك لعلّي أستفيد منها"، ولعله وجد ذلك حلاًّ منطقياً لكي ينهي المأساة التي وضع نفسه فيها باختياري للمشاركة، فقال: "يعني مثلاً أعجبتني إجابة قالها أحد المشاركين: أحب أن يُكتب على قبري: على الأقل حاولت»، قاطعته قبل أن يسترسل: "جميل، آخر كلام، سأكتب على قبري: "على الأقل حاولت إقناعهم بعدم التبوّل على قبري".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.