الفساد السياسي ومستقبل الديمقراطية في السودان

الفساد السياسي ومستقبل الديمقراطية في السودان

22 ديسمبر 2019
+ الخط -
يعد العام 2019 عام الاحتجاجات الشعبيّة بلا تردد. فعلى الرغم من تعدد المسببات، إلا أنّ الاستبداد والفساد السياسي يشكلان أهم السمات المشتركة المحفّزة لانتفاضة الشعوب، تماماً كما حدث في الاحتجاجات التي اجتاحت مقاطعة هونغ كونغ جنوب الصين، ودولة تشيلي..

أما في المحيط الاقليمي، فالشعوب العربية في العراق وتونس ولبنان والجزائر لم تجد حلاً لمعضلة الفساد السياسي سوى الثورة على الأنظمة القائمة لإزاحتها والعمل على بلورة عقد اجتماعي جديد، يحقق للمواطن طموحاته في الديمقراطية والتنمية والعدالة الاجتماعية.

فالفساد السياسي بمعناه الأوسع يشمل إساءة استخدام السلطة العامة لتحقيق مكاسب خاصة، متجاوزاً التعدي على المال العام إلى ظواهر أكثر تعقيداً كالمحاباة (nepotism)، والمحسوبية (patronage)، والمحاصصة (cronyism) لذلك، فظاهرة الفساد السياسي ترتبط مباشرة بالنخب السياسية، سواء كانوا فاعلين داخل الجهاز البيروقراطي للدولة أو خارجه، تحديداً حين تقوم هذه النخب باستغلال نفوذها السياسي لتوجيه القرارات والسياسات العامة لتحقيق مصالح خاصة بهم أو بالطبقة الموالية لهم.

وبلا شك، فإنّ للفساد السياسي آثاراً بالغة على المجتمع، حيث تتقدم المصالح المحدودة بالانتماء للمجموعة، أو الطائفة، أو القبيلة، على المصلحة العليا للبلاد، مما يؤدي إلى تحيّز الدولة لفئات بعينها على حساب بقية المكونات، الأمر الذي يؤدي لإضعاف مردود النظام الديمقراطي، وانزلاق البلاد للعنف والفوضى.


الثورة السودانية لم تكن بمعزل عن هذا النسق العام، حيث انتهت انتفاضة ديسمبر/ كانون الأول 2018، إلى عزل الرئيس عمر البشير وتفكيك نظامه السياسي الذي اعتمد بشكل كبير، في استئثاره بالسلطة، على شراء الذمم وتكوين شبكة واسعة من علاقات المحسوبية والمحاباة، شملت الرئيس المخلوع، كما شملت الدوائر السياسية والاجتماعية التي تكونت حوله، داخل وخارج إطار الدولة، والتي وصلت لحد إنشاء دولة موازية (Kleptocracy) تستولي على اقتصاد البلاد وتوجه سياساته العامة بما يخدم مصالح شبكة ضيقة تشكلت من تحالف غير معلن بين قيادات الجبهة الإسلامية، والقطاع الأمني، وشريحة نافذة من رجال المال والأعمال.

وفي ظل هذا الوضع، هيمن النظام الحاكم على جهاز الخدمة المدنية، فيما عرف بسياسة التمكين، والتي أتاحت الوظائف العامة بمعيار الولاء بدلاً عن الكفاءة، الأمر الذي ترتب عليه فصل وتشريد عشرات الآلاف من الموظفين تحت مظلة الإحالة للصالح العام، في مقابل تعيين منسوبي نظام الإسلام السياسي ليسيطروا على المصالح والمؤسسات القائمة. بناء عليه، قامت سلطة الإنقاذ بتقليص صلاحيات الجهات التي تشرف وتتأكد من نزاهة عملية الاختيار.

لم تخبُ جذوة الاحتجاجات السلمية منذ وصول نظام الإنقاذ للسلطة، ولكنها تدرجت في زخمها مع انسداد أي أفق لإصلاح سياسي أو اقتصادي، لذلك فقد اختزلت الثورة السودانية كل مخزونها في عبارة واحدة فقط: "تسقط بس" -  في تعبير عن حالة يأس بالغة وفقدان للأمل في الإصلاح مع نفاد الصبر.

حاول النظام الحاكم والعديد من الأنظمة المنتفعة منه في المحيط الإقليمي، والمتخوّفة من التحول الديمقراطي تصوير الانتفاضة السودانية على أنها انتفاضة جياع، ولكن أثبت الشارع السوداني نفاذ بصيرته وإدراكه لأي درك سحيق قد هوت إليه البلاد، كنتيجة حتمية لتطاول أمد الفساد والاستبداد. وفعلاً، ومع مرور عام كامل على انطلاق الانتفاضة، والتي غطت كافة أصقاع السودان، توجت عزيمة الشعب السوداني بعزل البشير ومحاكمته وتفكيك نظامه السياسي.

لكن، لم يتهنَّ الشعب السوداني بالانتصار، فقد تسرب إليه القلق مجدداً عقب ظهور مؤشرات لإعادة انتاج الفساد السياسي مرة أخرى. فغياب الشفافية ونظم المساءلة السياسية خلال الفترة الانتقالية أتاح الفرصة للمتنفذين في "قوى الحرية والتغيير" للسيطرة على الثورة واستغلال السلطة للتغلغل في دولاب الخدمة المدنية بدعاوى تفكيك النظام السابق وإزالة التمكين.

فقد ضجت مواقع التواصل الاجتماعي عقب تسريب معلومات عن نية "قوى الحرية والتغيير" في ترشيح رئيس حزب "المؤتمر" السوداني السيد عمر الدقير، لمنصب رئيس الوزراء، الأمر الذي قابلته لجان المقاومة الشعبية بتصعيد إعلامي واسع أدى لتراجعها عن هذا المسار. وزاد من إحباط القاعدة الجماهيرية، والتي ثارت في الأساس ضد سياسة التمكين والمحاصصة والمحسوبية، تسكين عدد من المفاوضين من قيادات "قوى الحرية والتغيير" في مناصب سياسية عليا.

إلا أنّ ما زاد الطين بلة هو تسرب عدد من قياداتها لدولاب الخدمة المدنية في وظائف غير سياسية، دون التزام بالمعايير المطلوبة، والقوانين المنظمة، للتوظيف بالقطاع العام، والتي من أهمها الإعلان عن الوظائف المتاحة وفتحها للمنافسة العامة.

في معرض رد "قوى الحرية والتغيير" على التساؤلات التي برزت حول هذا الأمر، تدثرت المسببات المبذولة بالشرعية الثورية لاستئصال التمكين وشبكة علاقات القوى التي خلفها النظام السابق. ولكن، يظل السؤال قائماً: هل من الأوفق لإرساء مبادئ الديمقراطية أن يتم إزالة الفساد السياسي من الخدمة المدنية بنظم المؤسسية الحديثة أم بسياسة التمكين المضاد؟

الشاهد في الأمر أنّ القوى السياسية المعارضة لنظام البشير كانت تستبطن هذا المنحى، حيث أشار البند الثاني من ميثاق "الحرية والتغيير" إلى تشكيل حكومة انتقالية من كفاءات وطنية، دون تحديد مدى استقلاليتها من المؤسسة السياسية، والذي خلق لبساً متعمداً ما بين حكومة الكفاءات والتكنوقراط.

فتعريف التكنوقراط (Technocracy) يشير لذوي الكفاءة من خارج المؤسسة السياسية، أو بصورة أدق، يشير لاستقلاليتهم التنظيمية عن المؤسسة السياسية، وهو أمر لا يقدح بأي حال في قدراتهم السياسية والفكرية، خلاف ما تصوره قيادات "قوى الحرية والتغيير" عن قصر النظر السياسي كسمة ملازمة للتكنوقراط، الأمر الذي يبرر ضرورة وجود قيادات "الحرية والتغيير" في السلطة الانتقالية.

بل وذهبت الأحزاب لأكثر من ذلك بتقليص مساحة الحرية المتاحة للسيد رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، والذي لاقى التفافاً غير مسبوق من الشارع السوداني، حول اختيار طاقمه الوزاري، حيث فرضت عليه المؤسسة السياسية شخصيات بعينها في مزاوجة بين مفهوم الكفاءة والولاء.

لكن، من المهم الإشارة إلى أن المؤسسة السياسية السودانية تعاني من ضعف بنيوي عميق، نتيجة لتطاول الاستبداد والتضييق المتواصل على المجتمع المدني، وكذلك لعدم مواكبة هذه القوى للتطور الذي صاحب إدارة الأحزاب، وفقاً لنظم الديمقراطية الليبرالية الحديثة، ويعتبر التعتيم على مصادر تمويل الأحزاب من المعضلات الرئيسية في المساءلة السياسية.

على المنوال نفسه، فإنّ الانتماء السياسي قائم على الولاء المطلق للمجموعة، ومحاط بهالة من القداسة بحيث أنه من النادر أن نقرأ عن نقد للتنظيم السياسي من داخل المؤسسة السياسية، وإن تعالت بعض الأصوات الناقدة، فغالباً ما يعقبها فصل من الحزب أو تهميش متعمد.

مركزية إدارة الأحزاب السياسية انعكست في نظام الحكم في السودان، حيث أن المظهر الهيكلي العام لإدارة الدولة يعكس صورة مختلفة عن الواقع، أو عن النتائج المتوقعة، وهو ما يعرف في علم الاجتماع بحالة المماثلة الظاهرية (Isomorphic mimicry).

لذلك، فترويج ميثاق "الحرية والتغيير" لحكومة الكفاءات، بدون الإشارة لمدى استقلاليتها عن المؤسسة السياسية، يشير ضمنياً لرغبة القوى الموقعة على الإعلان في الهيمنة على السلطة التنفيذية، وفتح باب المحاصصة والمحسوبية للإمساك بمفاصل الدولة، وهو ذات النهج الذي أدى لانهيار المشروع الحضاري للإسلام السياسي، والذي تحول لنظام فاسد يقبع رئيسه حبيساً داخل إصلاحية أخلاقية لإدانته بتهم تتعلق بنهب المال العام.

تعاني "قوى الحرية والتغيير" من انعدام المنهجية في إجراءات التعيين في المناصب العليا، حيث استقال أحد قياداتها من لجنة الترشيحات، واصفاً عملية التعيين بالمزاد المفتوح، كما أن غياب إجراءات تعيين شفافة ونزيهة، يشكّل خطراً داهماً على عملية التحول الديمقراطي. فالثورة السودانية في مداها القريب تطالب بالحريّة والسلام والعدالة، ولكن في مداها البعيد، طرحت العديد من الاستفهامات التي تتعلق بالشفافية، والمشاركة، والمحاسبية، وجميعها تشكل الأعمدة الرئيسية للديمقراطية والحكم الراشد. ولكن، على أرض الواقع، ما تمارسه "قوى الحرية والتغيير" لا يتعدى كونه تعبئة للخمر القديمة في قنان جديدة.

حينما سئل مؤخراً الرئيس الرواندي بول كاغامي، عن سر النهضة الرواندية، أجاب قائلاً: "السر بكل بساطة في تغيير العقلية السائدة A change of a mindset"..

ما تحتاجه الثورة السودانية حقاً، ليس إعادة إنتاج النظام السابق، بل تغيير العقلية السائدة، وإشراك أهم الفاعلين السياسيين في عملية التحول الديمقراطي: الشارع السوداني.