ولا عزاء لشموخ القضاء!

ولا عزاء لشموخ القضاء!

17 ديسمبر 2019
+ الخط -
قبل أن أصل إلى منتصف الحلقة التجريبية من مسلسل "Bad Judge" أوقفت عرضها، لأتأكد هل أذيعت فعلاً لعموم مشاهدي قناة "NBC" كبرى القنوات التلفزيونية الأميركية العامة، أم أن عرضها اقتصر فقط على خدمة المشاهدة حسب الطلب التي تحد من عدد المشاهدين كثيراً، وبعد أن عرفت أن حلقات المسلسل بدأت تذاع على الهواء كل خميس، كان لا بد من أن أجيب على السؤال الآخر الذي ظل يشغلني منذ أول مشهد: هل أثار عرض هذا المسلسل أي احتجاجات قضائية تعترض على إهانته لشموخ القضاء؟

كنت معذوراً في سؤالي ذلك، ففي المشهد الأول من المسلسل، نرى بطلة العمل ريبيكا رايت وهي تنام بملابسها الداخلية وقد صدّرت مؤخرتها إلى الكاميرا، لنعرف عندما تستيقظ مجبرة بسبب صوت المنبه العالي، أنها تعاني من آثار الإفراط في السُّكر، لكنها تقاوم من أجل الإستيقاظ لتلحق بموعد ما، وبعد أن تخرج من منزلها وهي لم تكمل بعد ارتداء ملابسها، تركب سيارة "van" مزينة برسومات غريبة، وخلال سيرها للحاق بموعدها تكسر قواعد السير أكثر من مرة، وحين تصل إلى مقر عملها بعد سلسلة من الكوارث المرورية، تقوم بركن السيارة في مكان مخصص للمعاقين، ثم تنزل من السيارة لتكمل ارتداء ملابسها في موقف السيارات، لنكتشف بعد ذلك كله أن المبنى الذي قامت بركن سيارتها فيه، ليس إلا محكمة مقاطعة لوس أنجلوس التي تعمل قاضية فيها، وأنها تأخرت على أول قضية معروضة عليها، والتي يتصادف أنها قضية متهم فيها رجل بتهمة الجمع بين زوجتين بعد تزوير هويته.


تكتمل المسخرة عندما يتقدم خبير طبي للشهادة في القضية لترفع الجلسة للاستراحة بعد شهادته، فنكتشف في المشهد التالي أن ذلك الخبير هو عشيق القاضية، وأنه يمارس الجنس معها خلال الاستراحة في غرفة القاضية وعلى مكتبها، لكن حاجب المحكمة الذي تربطه علاقة وثيقة بالقاضية يقاطع خلوتهما المألوفة لديه، ليقول للقاضية إنها مطلوبة للذهاب فوراً ودون تأخير إلى مدرسة لحل مشكلة طفل عمره عشر سنوات، نظن في البداية أنه ابنها، ثم نكتشف أنه طفل ليس لها علاقة مباشرة به، لكنها تقوم برعايته لأنها كانت قد قامت بإدخال والديه إلى السجن، مما جعلها تشعر بالذنب نحوه، وعند عودتها إلى المحكمة لمتابعة عملها، يلومها القاضي الأكبر سناً المشرف على عملها في المحكمة، لأنها لا تركز في عملها، وتضيع وقتها في الأعمال الخيرية، وبعد أن تعود إلى قاعة المحكمة لتنظر قضية المتهم بالجمع بين زوجتين، تفاجأ بزوجتيه وهما تقدمان التماساً لمسامحته وعدم سجنه، فتقرر أن تستجيب لطلبهما لكنها تصدر حكماً بإجبار المتهم على ارتداء تي شيرت مكتوب عليه: "أنا مدان بتعدد الزوجات"، وتجبره على التسجيل لحضور دورة في "الفيمينيزم"، وأخيراً تنتهي الحلقة بها وهي تكمل يومها الطويل في البار مع الحاجب، حيث يحتفلان بالشرب في صحة نجاحها في حل مشكلة الطفل.

على مدى أسابيع تالية، تابعت حلقات العمل باهتمام، ليس لتميزه الفني، فهو عمل أقل من العادي قياساً بمسلسلات كثيرة كانت تعرض في نفس الفترة، بل لأرى إلى أي مدى ستصل جرأة صناع العمل في تقديم شخصية القاضية، وبرغم أن بداية العمل كانت جريئة، إلا أنني ظننتها ستكون أقصى ما سيصل إليه العمل، فلم أتوقع مثلا أن يقوم صناعه في حلقة تالية بتقديم مشهد تقف فيه القاضية أمام كاميرات التلفزيون مرتدية ملابسها الداخلية وهي تشير بحركات بذيئة للمصورين وتردد كلمات بذيئة معبرة عن احتقارها للإعلام، ثم تدخل إلى المحكمة لتتابع عملها بشكل عادي دون أن تكترث بطريقة تغطية الصحف والمحطات التلفزيونية لما قامت به، وحين بحثت عما إذا كان هناك ردود أفعال قضائية قامت بالاحتجاج على المسلسل وطريقته في تقديم شخصية القاضية، لم أجد أية إشارة إلى ردود أفعال قضائية غاضبة في أي ولاية أمريكية، وربما كان التحفظ الوحيد الذي وجدته على المسلسل عدة فقرات ضمن مقال يتيم نشرته صحيفة (نيويورك تايمز)، لم يكن يعترض على المسلسل بذاته، أو يتهمه بإهانة شموخ القضاء، بل كان يستعرض بشكل ساخر قيام عدد من الأعمال الفنية بتقديم كلمة Bad أو "السيئ" في عناوينها منسوبة إلى وظائف وأدوار مهمة اجتماعياً مثل المدرس والقاضي والشرطي بل وحتى الأم، لأن هوليود تعرف أن مجرد وجود كلمة (السيئ) في العنوان سيدفع المشاهد للفرجة على العمل حتى لو كان يحمل عنوان (الدجاجة السيئة)، لينهي الكاتب مقاله بتساؤل سخر عمن سيكون التالي في سلسلة أفلام السيئ؟، وهل سنرى أعمالاً تحمل عناوين "بابا الفاتيكان السيئ ـ الحاصل على جائزة نوبل السيئ ـ حامي القيم التقليدية السيئ".

في مسلسل (القاضية الجامحة) كما أفضل ترجمة عنوانه، تلعب دور القاضية الممثلة التلفزيونية كيت ويلش التي كان آخر أدوارها المميزة دور في الموسم الأول من مسلسل (Fargo) الممتع الذي تم استلهامه من الشخصيات التي أبدعها الأخوان جويل وإيثان كوين في فيلمهما الشهير الذي يحمل نفس الإسم، في حين تقف خلف الكاميرا ممثلة أخرى كانت صاحبة فكرة المسلسل وقامت بإنتاجه، هي الممثلة آن هيشي التي اشتهرت في التسعينات في أدوار مميزة مثل أفلام (فولكانو ـ ست أيام وسبع ليال ـ سايكو)، بالإضافة إلى الممثل الكوميدي الشهير ويل فاريل الذي شارك في الإنتاج أيضاً، ومع ذلك لم يستطع هذا الفريق المتميز إنقاذ العمل، فقد تم الإعلان عن إيقافه بعد ثلاث حلقات فقط من بدء عرضه هو ومسلسل كوميدي آخر من إنتاج قناة "إن بي سي".


لم يتم إيقاف المسلسل، لأن المجلس الأعلى للقضاء اعترض عليه، أو لأن قضاة المحاكم الشامخين قاموا بتعليق جلساتهم احتجاجاً على تشويه المسلسل لدورهم الجليل في خدمة العدالة، بل لأن المسلسل لقي استقبالاً باهتاً من الجمهور، ربما بسبب مبالغته في الإضحاك التي أدت إلى عكس غرضها، كما أنه تلقى ردود أفعال نقدية باهتة، لم يعترض منها على مضمون العمل ولم يعتبره مشوها للقضاء والعدالة، بل رأت أنه لم ينجح في إضحاك الجمهور بالشكل المتوقع منه، ولم ينجح حتى في تقديم مفارقات درامية تدفع المشاهدين للمتابعة، فجاء باهتا على كل المستويات، ولذلك أعلنت القناة المنتجة أنها ستكتفي بعرض العشر حلقات التي تم تصويرها بالفعل، لينتهي عرض المسلسل في أواخر يناير 2015، دون أن يتم إنتاج موسم ثاني من المسلسل، وهو ما يمثل أقصى درجات الفشل التي يمكن أن يحصل عليها مسلسل تلفزيوني، وبالطبع حدث ذلك دون أن تمتد إليه يد الرقابة بالمنع، ودون أن يعتبر القضاة أنه يهينهم أو يعيقهم عن أداء أعمالهم، ودون أن يؤثر من قريب أو بعيد على الجدل الذي لا يتوقف حول كيفية تطوير نظام العدالة الذي يعتبر كثيرون أنه يعاني من مشكلات حقيقية لم يكن من بينها تقديم قاضية بشكل جامح يهز من هيبة القضاء، لأن القضاء الذي تهتز هيبته بفعل فيلم أو مسلسل أو مقال، ليس أهلاً لتلك الهيبة من أصله.

في نفس الوقت الذي كان ذلك المسلسل الباهت يجد طريقه إلى العرض التلفزيوني الذي لم يطل، كانت دور العرض السينمائي تقدم لروادها فيلماً لطيفاً بعنوان (القاضي The Judge) من بطولة النجمين روبرت داوني جونيور والمخضرم روبرت دوفال، يحكي عن تطور العلاقة الإنسانية بين محامٍ ناجح يعمل في مدينة شيكاغو وبين والده القاضي الذي يعمل في مدينة ريفية صغيرة ويحظى باحترام أهلها، حيث يضطر الإبن للدفاع عن أبيه في جريمة قتل تم اتهامه بها واعتبرت الشرطة أنه قام بالجريمة لأنه قرر أن ينفذ العدالة بيده بعد أن أخطأ في تنفيذها كقاض، ويظهر من تتابع أحداث الفيلم أن الأب مدان فعلا بالجريمة، لكن كبر سنه الذي جعله يعاني من ضعف الذاكرة، يؤدي إلى تعقيد موقفه الجنائي، حتى تتكشف مفاجأة تقلب موازين القضية وتؤدي إلى تحول مدهش في علاقة الإبن بأبيه التي ظلت علاقة يسودها الجفاء لسنوات طويلة، وهي قصة شيقة وعادية، لكن إفلاتها من قبضة الرقابة في بلادنا يعد من المحظورات، لأنها ستمس قدسية القضاء وتتطاول على شموخه.

تصادف في الوقت ذاته أن اشتريت كتاباً ساخراً بعنوان (أمريكا: دليلك التعليمي إلى الديمقراطية الأمريكية) صدر قبل عدة سنوات، كتبه الكوميدي العظيم جون ستيوارت بالإشتراك مع فريق عمل برنامجه، ووجدت ضمن فصول الكتاب صفحة تضم عدداً من الصور العارية لرجال وسيدات، هم ببساطة قضاة المحكمة الفيدرالية العليا أرفع الهيئات القضائية الأمريكية وأكثرها شموخا وهيبة وتأثيرا في الحياة الأمريكية، وإلى جوارها صفحة تضم عددا من الأرواب السوداء التي يرتديها القضاة، وقد وُضِع فوق الصور عنوان (قم بتلبيس قضاة المحكمة العليا)، وإلى جوار الصور نُشرت فقرة تذكر القارئ أن الصور العارية للقضاة مصنوعة بالفوتو شوب، حيث تم تركيب رؤساء القضاة على أجساد عارية تم تخيل أنها مناسبة لهم، قبل أن تضيف: "وبرغم أن التعديل الأول للدستور يحمي حقك في فعل شيئ كهذا، إلا أنك لو فعلته ستكشف أن ذوقك فج ومتدن"، ولم تنته المفاجأة بالنسبة لي عند ذلك كله، فقد فوجئت على ظهر غلاف الكتاب بعبارة ترويجية من القاضية روث جيبنسبرج دعما للكتاب تسخر فيه من وجود صورتها عارية فيه قائلة: "لم يحدث أن قمت بالوقوف عارية لأي مصور من قبل".

ذكرني كل ذلك، "ومن حاجة المحزون أن يتذكرا"، بسيناريو سينمائي رائع ومُجهض، من تأليف كاتبنا السينمائي الكبير محمود أبو زيد الذي اشتهر بأفلامه الجميلة (العار ـ الكيف ـ جري الوحوش ـ الذل ـ البيضة والحجر) والتي صارت علامات سينمائية مميزة في وجدان الملايين، يحمل السيناريو اسم (مزاج الليل)، ويحكي عن حياة واحد من أبرز رجال القضاء، لديه مشكلة كبيرة وسرية، هو أنه مغرم بالسهر في الملاهي الليلية من حين لآخر، مما يضطره لأن يقوم بتغيير شخصيته بشكل مختلف كل مرة، وفي إحدى المرات يتورط في ملابسات قضية مثيرة جداً توقعه في صراع بين واجبه القانوني وواجبه الإنساني.

لست في حل من حرق بقية تفاصيل القصة المشوقة التي ظللت أستمع إليها من الأستاذ محمود في آخر لقاء لي معه، وأنا أتحسر كيف لم تر النور منذ كتبها الأستاذ محمود قبل أكثر من ربع قرن، حيث كان يفترض أن يخرجه شريك مشواره السينمائي علي عبد الخالق، ويلعب بطولته الفنان العظيم أحمد زكي، إلا أن هذا الفريق بجلالة قدره لم يوفق في إخراج الفيلم للنور بسبب اعتراض جهاز الرقابة على تناول الفيلم لشخصية القاضي الذي اعتبرته مهينا للقضاء المصري الشامخ، برغم أن الأستاذ محمود ذهب بنفسه لحضور اجتماع مع أعضاء المجلس الأعلى للقضاء، ليشرح لهم أن النتيجة النهائية التي يخرج بها المشاهد من الفيلم تصب في مصلحة شخصية القاضي وليست ضده، وبرغم أن المجلس بنفسه أبدى موافقته على السيناريو بعد اجتماعه مع محمود أبو زيد، إلا أن الرقابة واصلت تعنتها ورفضت التصريح بالفيلم، ليظل حبيس الأدراج حتى الآن، ولن أعلق على واقعة كهذه، بل سأترك لك التعليق، لأن حنجرتي متعبة قليلاً، من فرط الشمخ.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.