عن القلق والأونطة الوطنية ومستقبل بابا نويل

عن القلق والأونطة الوطنية ومستقبل بابا نويل

16 ديسمبر 2019
+ الخط -
ـ قبل أيام أصبت بتسمم حاد، بعد أن أكلت كبدة و"سلطة سيزر" خالية من العيش المحمص طلباً للأصح، وقد جاءتني الضربة من حيث لم أتوقع، حيث يقول الدكتور إن سبب التسمم غالباً هو المايونيز الموجود في ثنايا صوص السلطة اللعين، وقد وافقته الرأي، لأنني صحبت الكبدة عمراً طويلاً ولم تخذلني أبداً. كانت أمي شفاها الله وعافاها كريمة معي، حين أخذت أشكو إليها ألمي وما ألمّ بي، فلم تذكرني بأنها طلبت مني قبل ذلك أن أعيش عيشة أهلي، وأتوقف عن ضلالة بدعة "الصوص" و"الدريسينج"، لأننا قومٌ "نُحيِّق" السلطات ولا "نُصِيُّصها". على أية حال، أحمد الله على ستره وكرمه، وقد عاهدته بعد أن كادت روحي تطلع، أو هكذا شُبِّه لي، على أن أنبذ كافة أنواع "الصوص" و"الدريسينج" ما حييت، وأن ألتزم بتحييق السلطة بالخل والليمون وزيت الزيتون والملح والفلفل والكمون، ومع أنني لم أكن أبداً من أنصار مبدأ "من فات قديمه تاه"، إلا أنني فيما يخص الأكل وعاداته، سأصبح من أنصار مبدأ "من لم يعش عيشة أهله مات".

ـ لا يوجد مستقبل حقيقي لبابا نويل في بلادنا كشخص وكفكرة، لأن أي طفل ولد ونشأ في الظروف التي نعيشها، لن يصدق أن رجلاً سميناً بذقن بيضاء يمكن أن يعطيه هدية مجاناً، فقد علمته التجارب المريرة أن كل هدية لا بد أن يكون لها ثمن.

ـ السادة المسئولين عن صرف ملايين الجنيهات لإنتاج أعمال وطنية في الفترة القادمة بعد تجربة فيلم (الممر): برجاء الانتباه إلى أن الأونطة الوطنية تصلح كمقبلات، لكن التاريخ يعلمنا أن الشعوب لا يمكن أن تعيش فقط على المقبلات، خصوصاً حين تكون مفتعلة وزاعقة ومنزوعة البركة.


ـ ستجد كثيرين تعرفهم يرغي الواحد منهم بالساعات على شبكة الإنترنت عن إنهيار الفن الجيد وسيطرة الفن الردئ، بينما ينتظر في نفس الوقت إنتهاء جهازه من تحميل فيلم جيد أو اسطوانة متميزة، كمساهمة فعالة منه في إنهيار الفن الجيد وسيطرة الفن الردئ.

ـ الذين تعودوا أن يكون لمواقفهم ثمن، من الطبيعي ألا يصدقوا أن غيرهم يدفع ثمن مواقفه.

ـ لا يهمني أن يعيش الناس في فيدراليات أو كونفيدراليات أو حتى في دويلات صغيرة، المهم أن يعيشوا أحرارا كراما لكي لا تكون لديهم أزمات يقوم حكامهم بتصديرها إلى الخارج بمحاربة جيرانهم.

ـ احتقار السياسة يقلص الفوارق المهمة والواجبة بين الثائر والإرهابي.

ـ عندما يصلني رد فعل شديد السخط على سطور كتبتها، أتذكر السنين التي كنت أشعر فيها بسخط عارم على أشياء كثيرة وأشخاص كثيرين، فأتمنى لمن يسخط على كتابتي وشخصي، أن يكون محظوظاً لتتقلص قائمة الأشياء التي تشعره بالسخط، وتتسع في المقابل قائمة الأشياء التي تدفعه للسخرية الخالية من السخط.

ـ إذا رأيتم الكاتب يعتاد التصوير المقترن بالبوزات المختلفة، فحذِّروه فإن لم يستجب فاحذروه.

ـ ستسألني: هل عليّ أن أقلق؟ وسأجيبك: دع القلق وإبدأ الحياة، وربما لو قابلتني بعد ساعتين سأقول لك العكس تماما: دع الحياة وابدأ القلق، وغالباً سينتهي اليوم بنصيحة لك بأن تدع القلق وتدع الأمل أيضاً، وأرجوك لا تعتقد أن في ذلك ارتباك أو تناقض، ولا تظن أنني شخصية هوائية بغزالة، بل الحكاية وما فيها أن الواقع في أيام ملتبسة مثل هذه تتغير معطياته ليس فقط بين عشية وضحاها، بل بين ساعة وقفاها، لذلك لا تقلق إذا طلبت منك أن تقلق بعد أن قلت لك ألا تقلق، ولا تنس أنني وأنت وهم وهذان وهاتين وهؤلاء ودوكهمه وبلادنا بأكملها في مسيس الحاجة إلى ما كنا نظنه هراءً تروجه كتب التنمية الذاتية، واتضح أنه حق لا مراء فيه، أعني الثبات الإنفعالي الذي أصبحنا نحتاجه في هذه السنين، أكثر مما يحتاجه الجراحون المبتدئون وحراس المرمى ومسدّدو ضربات الجزاء وطلبة الثانوية العامة وحديثو العهد بالزواج والطلاق والإنجاب وفراق الأحباب.

ـ شكرت الظروف التي دفعتني لأخذ صورة معه لأتذكره بها كلما اشتقت إليه، لكن صورتي معه ذكّرتني بكثير من الذين أحببتهم ولم ألتقط معهم صوراً للذكرى، كنت ممن يقللون من أهمية التصوير للذكرى، لكنني أصبحت أعرف قيمتها مع الزمن، أنظر إلى صورتي معه وأذكر أول مرة رأيته فيها، وكيف دخل قلبي على الفور، وكيف كنت أتفاءل به بشكل كاد يقارب الخرافة، وكيف قضيت بصحبته أوقاتاً أطول من التي قضيتها مع كثيرين عرفتهم قبله، وأتذكر لحظة النهاية المفاجئة التي جاءت بسبب خطأ في تقديري للمسافات، ثم أتذكر أخيراً كل محاولاتي الفاشلة لتعويضه، أو حتى الحصول على ما يقاربه في الشبه، أتحدث عن "مَجّي" المفضل الذي رافقني طيلة السنوات الخمس الماضية، ولقي حتفه على أرضية المطبخ في لحظة غفلة، ولم أجد ما أفعله تعبيراً عن وفائي له سوى كتابة هذه السطور، والاحتفاظ بمقبضه وصورتي معه.

ـ الكراهية ليست عيباً على الدوام، دونك الشاعر العظيم ييتس وهو يشرح لك هذا المعنى في كلمات قليلة أتصور أنك ستجد ضالتك فيها: "درست الكراهية بدأب كبير.. تلك عاطفةٌ تحت إمرتي.. نوعٌ من مكنسة تٌطهّر الحس.. من كل ماهو ليس عقلا ولا معنى". ولأن الكراهية بالكراهية تُذكر، يرد على البال ما قاله نجيب سرور في مقطع من أمياته المريرة: "يا شهدي يابني.. هاوصيك وصية تشيلها جوه نن العين.. ولو سألوك عن أبوك قولهم مات مصري ابن مصري و(..) أم اللي ما له عينين.. يا شهدي ياابني.. اكره واكره واكره بس حب النيل"، بالطبع لست مضطراً لأن تحب النيل أو غيره من الأنهار، فالفكرة التي يطرحها نجيب سرور هنا هو أن من حقك أن تكره وتكره وتكره، ثم تختار من تحبه، لأن الحب ليس بالأمر، وبالتالي الفكرة التي يتوحد فيها ييتس ونجيب هنا على تباعدهما، هو أن الكراهية عاطفة مهمة، من الممكن أن يتم توجيهها ببراعة تجاه أشياء محددة في الحياة، لتصبح طاقة لتطهير النفس ووسيلة لإعلان موقف من الحياة ووساخاتها والبشر وقذاراتهم.

ـ ثمة تعبير لا أنساه للمفكر الراحل الدكتور عبد الوهاب المسيري قاله في حوار أجراه معه الزميل الراحل محمود صالح عام 1999، حين سأله كيف يمكن أن يلخص تجربة السنين الطويلة التي قضاها في إعداد موسوعته الضخمة عن (اليهود واليهودية والصهيونية)، فقال: "قضيت عمري كله لأثبت أن الصهيوني بشر يمكن أن يُجرح أو يسيل دمه". للأسف لم يفهم البعض تلك العبارة المهمة، التي كان الدكتور المسيري يعني بها أنه حاول كثيراً نزع الهالة الأسطورية عن الصهاينة، ليثبت أنهم في نهاية المطاف بشر مثلنا، يمكن أن يتعرضوا للهزيمة طبقاً لقوانين الصراع التي تسري على البشر جميعاً، وأننا لسنا بحاجة إلى أن نسبغ عليهم صفات أسطورية لتصوير خطرهم.

طيب، ستسألني ما علاقة هذا الكلام بسفاسف الأمور؟ وأنت محق في سؤالك لكنك لست محقاً في تعجّلك، فلو صبرت قليلاً لقلت لك أنني أتذكر عبارة المسيري كثيراً خلال السنوات الماضية، كلما أخذت الغطس اليومي الذي يأخذه أي مواطن عربي في خرارة حياتنا، سواءً في شقها الواقعي أو في شقها الافتراضي، حيث تتلبسني بعدها حكمة رجل ستيني يتأمل حياته بمزيج من السخرية واللوعة ليقول لنفسه: "قضيت عمري كله لأثبت لمن أهتم بأمرهم أن يتذكروا أن الحياة قصيرة، وأن عليهم أن يختاروا لها المعارك الأهم التي تليق بقصر الحياة، لكنني فشلت في ذلك، فيا ألف حسرة على ما ضاع من عمري القصير".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.