اشتموني... ولكن أحبوا "صباطي"

اشتموني... ولكن أحبوا "صباطي"

06 نوفمبر 2019
+ الخط -
مع انطلاق الثورة في لبنان، تكاثرت الفيديوهات التي تُظهِر وجوهاً يعلوها الندم والأسى، ويعتذر أصحابها عما بدر عنهم من عبارات غير مسؤولة تشتم المسؤولين الفاسدين وأمراء الطوائف وتفضحهم، في هذه الفيديوهات يتفنن المعتذرون في إيجاد حجج للتملص مما تفوهت به ألسنتهم في لحظة إغواء شيطاني.

قبل ذلك كنا قد شاهدنا فيديوهات مماثلة من إدلب حيث اعتذر مواطن عن إقدامه على إحراق صورة الرئيس التركي، واعتذر آخر عن إساءته لأحد قادة الفصائل المسلحة، وقبله اعتذر شاعر عراقي من أحد رجال الدين، وقبله اعتذر مواطن من "صباط" السيد حسن في لبنان بعد ما فاض به الفقر والمعاناة. وتطول القائمة ولا يبدو أنها ستنتهي قريباً، فالمعاناة مستمرة والقمع مستمر، مواطن يغلبه الحماس وهو في حضرة الحرية فيطلق العنان لأوجاعه وقهره لينطقا، ثم يصطدم بالواقع، ويقع بين يدي جلاوزة المجرمين والدكتاتوريين أو شبيحتهم فلا يجد مناصاً من إعلان ردته وكفره بما كان قد نطق.

يعلم الشاتم أن اعتذاره كاذب، ويعلم المشتوم أن الاعتذار كاذب، ونعلم نحن أيضاً أنه كاذب. وفي منظومة الكذب الشمولية هذه لا يجد شبيحة المجرمين حرجاً من الظهور علناً أو سماع أصواتهم وهم يلقنون الضحية اعتذارها، كما حصل مع شاب لبناني مؤخراً.


هذا الاعتذار يرتبط نوعاً ما بحالة إقطاعية يتعامل فيها السيد مع الرعية، فهو البيك والمالك والمتصرف بأمر الجميع، يحرص دائماً على صورته الأبوية ولذلك يتوجب على من سولت له الحرية الخطأ أن يعتذر، كما يعتذر الطفل من أبيه وأمه عندما يتعلم إطلاق الشتائم.


ولأن الناس مقامات فلا يجوز للعبد المملوك أن يعتذر من السيد مباشرة ولا أن يبوس يديه ولا أن يقبل رأسه أو ذقنه، عليه أن يعتذر من شيء منحط مثله، فيكون الاعتذار من "صباط: السيد، وفي دولنا "الصباطية" عليك أن تعيش بفضل "صباط" جيش السيد الذي يوفر لك الأمن والسلام والمستقبل واللقمة لأولادك، وعندما تخطئ عليك الاعتذار من صباطه أيضاً. ولكن الأجمل من ذلك كله هو هذا التوافق الجماعي في الدول كلها على أن الصباط هو خير من يمثل السيد أو القائد أو الدكتاتور.

ورغم مأساوية الصورة، فإن من يتاح لهم الاعتذار من الصباط هم محظوظون بالمقارنة مع غيرهم، ففي سورية مثلاً، الدولة التي لم يترك فيها الرفاق مكاناً للبيك الإقطاعي، لم نتمتع برفاهية كهذه ولم يمنّ علينا القائد بمكرمة صباطه، كان الشاتم يختفي ببساطة دون أن تتاح له فرصة الاعتذار أصلاً.

أمر آخر يتفق فيه الصباطيون وهو أنهم جميعاً من أصحاب القلوب الكبيرة المسامحة الغافرة التي لا تنظر لنا إلا بعين الرحمة لأننا لا نعلم ماذا نفعل، ومن بشار الأسد إلى حسن نصر الله يؤكدون جميعهم في خطاباتهم وكلماتهم المتلفزة على أنهم يسامحون من يشتمهم، وابتسامة الرضى المصطنعة على وجوههم تكاد تسد علينا الرؤية حتى لا نرى أيديهم الملوثة بالدماء!

النقطة الأهم في هذه القضية، هي ماذا عن الضحية؟ ذاك الذي تعرض للإذلال العلني والإهانة والإرغام على تبديل أقواله ليصبح محطّ سخرية وانتقاص.

لا شك أن الشعور بالانكسار والخزي ليس أمراً سهلاً، وقد يتعاظم ويودي بحياة صاحبه خاصة عندما يكون علنياً، وخشية الوصول إلى هذا المصير علينا أن نؤكد لمن قاده حظه العاثر لموقف الاعتذار "الطوعي" هذا، أن اعتذاره لن يغير من إعجابنا بشجاعته، والكلمات الباردة التي تم تلقينه إياها لا تعنينا بشيء. ما يعينا هو ذاك الصراخ الصادق الذي انفجرت به حنجرته ليعري الفاسدين والمجرمين، إن كلماته التي أطلقها لن يمحوها أي اعتذار. وعليه أن لا يتحرّج من الاعتذار أصلاً، إذا كان في نجاة!

يشبه الأمر ما كان يفعله مُقدّم برنامج "الشرطة في خدمة الشعب" في التلفزيون السوري الرسمي سابقاً، إذ كان يسأل المجرمَ دائماً: أين صرفت المسروقات؟ فتكون الإجابة موحدة مع جميع المجرمين: على الملذات الشخصية. ويختتم المقابلة بسؤال: ندمان يا ابني؟ فيجيب المجرم أيضاً إجابة موحدة: ندمان يا سيدي، بعد أن يضع كل علامات الأسى والمسكنة في وجهه. وقد أصبحت هذه الإجابات لاحقاً مجالاً للتندر والطرفة عند السوريين عامة.

وفي إحدى المقابلات كان المجرم أخبث من المتوقع، فقال وهو يبتسم: صرفت المسروقات على الملذات الشخصية. وفي الإجابة على السؤال الأخير، قال وهو يفرقع ضحكة مستفزة لم يستطع المونتاج إخفاءها: أي والله ندمان يا سيدي.

وهكذا على كل من يقع بين يدي شبيحة المجرمين أن يفعل ذلك، عليه أن يؤكد أنه ندمان، ندمان جداً مع ابتسامة ساخرة، فلا شيء يذل الطاغية أكثر من ابتسامة تسخر بجبروته!