من ملامح الوجه الآخر لكبار كتّاب مصر (4/4)

من ملامح الوجه الآخر لكبار كتّاب مصر (4/4)

06 نوفمبر 2019
+ الخط -
تفرد عايدة الشريف في كتابها الممتع (شاهدة ربع قرن) فصلاً للشاعر الكبير صلاح عبد الصبور مدافعة عنه بحرارة ضد اتهام عدد من المثقفين له بالتطبيع وخيانة المبادئ، لأنه قام بقبول منصب ثقافي رسمي بعد زيارة أنور السادات لإسرائيل، وهو الاتهام الذي أدخله في اكتئاب حاد، ثم أودى بحياته عقب جلسة ساخنة حضرها مع عدد من أصدقائه الفنانين والمثقفين على رأسهم الفنان الكبير بهجت عثمان.

تؤكد عايدة الشريف أن أجهزة الدولة حاولت أكثر من مرة استمالة صلاح عبد الصبور إليها دون جدوى، وأنه حين وافق بعد فترة طويلة على قبول منصب حكومي يخدم فيه الثقافة لم يعتبر أن ذلك فيه ما يعيب، خاصة وقد عمل طيلة حياته في الصحافة الحكومية، وسبق أن عمل في وزارة الثقافة قبل ذلك، لذلك آلمته تلك الحملات التي تم شنها عليه في الصحافة العربية ورآها ظالمة ومجحفة، ومع إن صلاح وافق على العمل في رئاسة هيئة الكتاب، إلا أنه في الوقت نفسه رفض تلويح الحكومة له بمبايعته أميراً للشعر العربي الحديث سنة 1980، لأنه لم يكن مقتنعاً بذلك اللقب، وسبق له أن قام في عام 1966 بوقف نشر مقالات للناقد الكبير الدكتور لويس عوض في مجلة كان يشرف على تحريرها، لأن لويس عوض كتب فيها عن أحقية صلاح بإمارة الشعر العربي.

تروي عايدة الشريف بعض محطات رحلة صلاح عبد الصبور مع الشعر والحياة، وتتوقف عند تتلمذه على يد الشيخ أمين الخولي وإبراهيم ناجي ومحمود حسن إسماعيل، وتروي عن الكاتب والمترجم الدكتور عبد الغفار مكاوي أنه شاهد صلاح وهو في بداية شهرته وسط طلبة الجامعة يقف على سلم مكتبة جامعة القاهرة وحوله مريدوه وهو يقول متفاخراً وهازلاً: "أنا اللات والعُزّى معاً"، وأعجب عبد الغفار مكاوي بشعره وصادقه وأسكنه معه وامتدت بينهما الصداقة حتى وفاة صلاح، تروي أيضاً أن قصيدة صلاح الملحمية "شنق زهران" جعلت كامل الشناوي والدكتور لويس عوض على اختلافهما يبحثان عنه في المقاهي بشغف ليتبنيا موهبته، وتقول عايدة إن صلاح عبد الصبور حين ترك الأهرام ليعمل مع الدكتور عكاشة في وزارة الثقافة، أصدر محمد حسنين هيكل أمراً للعاملين في صحيفة (الأهرام) ألا تنشر لصلاح قصيدة أو مقالة أو حتى خبر عنه مهما كان، كعقاب له لقيامه بترك (الأهرام).


تنقل عايدة الشريف عن صلاح عبد الصبور أن أستاذه الشاعر العظيم محمود حسن إسماعيل كان يفزع ويتضايق حين يأتي ذكر ديوان الشعر الذي أصدره في مديح الملك فاروق، ويعتبره خطيئة قديمة لا يجب تذكرها، خاصة أن حكومة الثورة نقلته بسبب ذلك الديوان من عمله بالإذاعة إلى التدريس الذي لم يتناسب مع روحه القلقة، كان صلاح يرى أن شعر محمود حسن إسماعيل في مديح الملك فاروق كان شعراً رائعاً من الناحية الفنية، ولم يكن شعر استجداء، لأن محمود حسن إسماعيل لم ينل شيئاً من الملك كما قال لصلاح، وأن محمود حسن إسماعيل كان صادقاً في محبته لفاروق، وكان يتخيل أنه سيكون بمثابة المتنبي لسيف الدولة الحمداني، وخيّل له وعيه السياسي المحدود أن الحياة لا بد أن يكون فيها ملك وشاعر، ومع ذلك لم يحظ شخص فاروق في الديوان الذي يبلغ عدد صفحاته مائتي صفحة إلا بثلاثين صفحة فقط، لكن ذلك لم يغفر لمحمود حسن إسماعيل عند الكثيرين، تماماً كما لم يغفر لصلاح عبد الصبور رفضه معارضة السادات، مع أنه لم يحصل من منصبه في هيئة الكتاب على امتيازات مادية خاصة، بدليل أنه قبل مرضه الأخير أرسل بإلحاح إلى سلسلة (من المسرح العالمي) التي تصدر في الكويت، يطلب بإلحاح أجره عن الترجمة التي قام بها لإحدى مسرحيات أستاذه وملهمه ت. س. إليوت، لأنه لم يكن قد ادخر لزوجته وابنتيه مليماً واحداً، بسبب سخائه الشديد الذي جعله ينفق قيمة جائزة الدولة التشجيعية وقدرها خمسمائة جنيه على ثلاثة ولائم لأصدقائه.

في موضع آخر من كتابها (شاهدة ربع قرن) تتحدث عايدة الشريف عن الكتاب المصريين الذين تزوجوا من أجنبيات، وكيف لاحظت أن عدداً منهم مثل الشاعر عبد الرحمن صدقي وحسن مراد مخرج ومصور جريدة مصر الناطقة والدكتوران حسين فوزي ولويس عوض لم تقم زوجاتهم الأجنبيات بالإنجاب، ولذلك أصبحت الطيور والحيوانات الأليفة مصدراً لحنانهن، وهي ملاحظة ترى أنها تنطبق على الكاتب الكبير يحيى حقي الذي تزوج من فرنسية لكنه لم ينجب منها، وكان من واجباته مرافقة زوجته إلى مصفف الشعر على أن يتولى في هذا الوقت اصطحاب الكلب للنزهة. تروي عايدة أنها لاحظت أن كل الكتاب المتزوجين من أجنبيات كانوا مجبرين على إعداد قهوة الصباح لزوجاتهم قبل الإفطار، ما عدا الدكتور طه حسين الذي أفلت من ذلك الواجب بسبب عدم إبصاره، لكن عايدة لا تروي على لسان أحد أولئك الكتاب ما يفيد أنه كان مجبراً على صنع القهوة لزوجته، لكنها تروي أن يحيى حقي الذي كان من المغرمين بحل الكلمات المتقاطعة، كان يحرص عند زيارة عايدة لمنزله على الإشادة المتكررة بزوجته وإبداعاتها، لكن زوجته جان لم تكن تنتشي بذلك المديح، بل كانت تشيح بيديها قائلة: "لاحظي زوجي يحيى كلامه كثير".

كان يحيى حقي قد أنجب من زيجته الأولى ابنته الوحيدة نهى، وكان لزوجته أيضاً أولاد من زيجتها الأولى، وكانت طبقاً لرواية عايدة تفرض على يحيى أن يسافر شهرين على الأقل كل عام إلى فرنسا لزيارة أولادها، مما كان يكلفه الكثير الذي يضطر معه للترجمة، وفي رحلته الأخيرة معها للعلاج عام 1990 لم يكن مع الأستاذ يحيى من أموال لتغطية نفقات الرحلة، إلا ما دفعه ثمنا لتذاكر السفر، لكن الله عوضه بجائزة الملك فيصل التي وصله خبر حصوله عليها وهو مع زوجته في رحلة علاجها، فأرسل بخطاب شكر كبديل عن حضوره من فرنسا لاستلام الجائزة، وحين سألته عايدة بعد عودته من الرحلة التي طالت عما إذا كان قد أنفق مبلغ الجائزة في علاج زوجته، فقال لها إنه لم يدفع مليماً في العلاج لأن جان موظفة فرنسية قديمة، والتأمينات تشملها في أي مرحلة عمرية، وقال لها مندهشاً إن طبيب زوجته شكرهما في آخر زيارة له، على أنهم اختصوه بعلاجها.

تقول عايدة الشريف إن يحيى حقي كان حساساً للغاية عندما يذكر أحد أصوله التركية، وكان صديقه الشيخ محمود شاكر يداعبه دائماً بقوله "يا شركسي" أو يقول له "مالك أنت واللغة العربية أيها القولي" نسبة إلى مدينة قولة التي خرج منها محمد علي باشا، فيقول له يحيى إنه لا يحتمل سماع الإشارة إلى أصله الشركسي من أحد غيره ـ كنت قد عرضت في مقالة سابقة تجدها في كتابي (فتح بطن التاريخ) إلى صداقة الاثنين العميقة والتي كاد يحيى حقي يدفع ثمنها غالياً بسبب سلاطة لسان الشيخ شاكر ـ وفي معرض تأكيدها على حساسية يحيى حقي تجاه التذكير بأصوله التركية، تشير إلى موقفه الغريب من نجيب الريحاني، حين هاجمه بشدة وكتب أنه لا يليق به كشخص غير مصري الأصل أن يقدم شخصيات مصرية غير سوية في مسرحه، وهو رأي لا يقل عنه غرابة قوله لعايدة إن عباقرة العامية المصرية هم من الذين كانت لهم أصول غير مصرية، ولم تكن العامية لكنتهم الأصلية مثل بيرم التونسي وصلاح جاهين ومحمود تيمور، لأن "الألفة تميت الملاحظة" في رأيه، وهي ملاحظة أعتقد أن عايدة الشريف لم تنقلها عن يحيى حقي بدقة، ولو كانت قد نقلتها عنه بدقة، لكان مخطئاً جداً فيها، لأن بيرم التونسي وصلاح جاهين ومحمود تيمور وفؤاد حداد أيضاً كلهم ولدوا في مصر، ولم يعرفوا غيرها وطناً، ولم يتحدثوا بلهجة غير العامية المصرية، مما يجعل فكرة "الألفة تميت الملاحظة" غير منطبقة عليهم، لكن يحيى حقي قدم لنا الكثير من الفن والبهجة والجمال الذي يجعلنا نبلع له الزلط تقديراً ومحبة.


تخصص عايدة الشريف فصلا من كتابها لعالم الجغرافيا البارز الدكتور جمال حمدان صاحب كتاب (شخصية مصر) الذي اشتهر عنوانه لدى المصريين أكثر من مضمونه، وربما لو قرأه كثير ممن يشيدون به عن جهل، وقرأوا الآراء التي كتبها جمال حمدان عن المصريين وعلاقتهم بالاستبداد عبر الزمان، لتوقفوا عن الاستشهاد به ووضعوه على قوائم أعضاء الطابور الخامس من الكتاب والمثقفين. اختارت عايدة لفصل جمال حمدان عنوان "لقاء المستحيل"، نسبة إلى محاولتها اللقاء مع جمال حمدان منذ ما بعد هزيمة 67 بناءً على طلب مجلة الآداب التي أرادت تكليفه بالكتابة للمجلة، لكن كل من يعرفه قال لها إنها لن تتمكن من لقائه لأن الرجل اعتزل الحياة.

اقترح عليها بعض من عرفوا جمال حمدان أن تراسله بالبريد على عنوانه 25 شارع أمين الرافعي بالدقي، لتطلب منه المقابلة وتخبره بتكليف المجلة له بالكتابة، وتكتب مع رسالتها اسمها ورقم تليفونها، ففوجئت بمن يتصل بها من طرفه ليبلغها باعتذاره، "لأن مثله لا يكلّف بكتابة موضوع يُطلب منه، إنما كتاباته هي فيض لما يشعر به ويحس بضرورته"، وعرفت أن هناك من فشل في الوصول إليه لكي يعطيه مستحقات مادية له، فهناك من يحاول تسليمه شيكاً بمبلغ لقاء محاضرة كان قد ألقاها بالمعهد الدبلوماسي، ومن يحاول الوصول إليه لتسليمه شيكاً بقيمة ثلاثين جنيه كمكافأة له عن فصل بعنوان (عبد الناصر والإنسان العربي) تم طبعه في كتاب (عدم الانحياز والاستراتيجية) الذي وزع على جميع لجان الاتحاد الاشتراكي، وقد شعرت حين قرأت عنوان الفصل وموضوع الكتاب وطبيعته أن جمال حمدان رفض استلام المبلغ تأففاً أو ندماً.

تروي عايدة الشريف أن الدكتور عبد العزيز كامل قال لها إن جمال حمدان جار له وزميل عزيز عليه، وأنه حين عرف بقراره الاعتزال زاره ولم يكن قد أحكم إغلاق أبوابه بعد، ورجاه أن يلجأ إليه إن أراد أي خدمة من دهاليز الحكومة، وكان وجهه لحظتها يقول إنه لن يفعل، وحين طلبت عايدة من الجغرافي السوداني الأستاذ عبد الله زكريا أن يصف لها بيت جمال حمدان الذي كان قد تردد عليه أيام إشراف جمال على رسالته للماجستير، فقال لها إنه منزل متواضع كان جمال يسكن فيه من قبل ذهابه إلى بعثته الدراسية في إنجلترا، وأن بهو الشقة يحتوي على ثلاثة مقاعد، ولا يزين جدرانها إلا إعلان عن شركة خطوط إنجليزية للطيران، أما باقي الجدران فمكسوة بالكتب، وقال لها صديق آخر له إن جمال لديه أخ موظف كبير بوزارة الأوقاف وشقيق آخر أستاذ فلسفة إسلامية بجامعة ليبيا، وآخر مجند، ورابع يمتلك محلات (سنجام) قرب شارع شريف، وأنه لا يزور إلا والدته مساء الخميس من كل أسبوع.

حاولت عايدة أن تصل إلى جمال حمدان عن طريق يحيى حقي، بعد أن قرأت المقدمة التي كتبها جمال لكتاب (القاهرة) الذي ألفه ديزموند ستيوارت وترجمه يحيى حقي، فقال لها يحيى إنه ذهب لطلب تلك المقدمة من جمال خمس مرات، ولم يلقه إلا بعد إجراءات ورجاءات، حتى نجح في إقناعه في المرة السادسة، وقال لها إن جمال كان يتصور أن يحيى هو مؤلف الكتاب، ولم يكتشف أنه مترجمه إلا بعد أن قرأ نصف الكتاب، وبرغم أن يحيى كان من أشد المعجبين بجمال وكتاباته، إلا أن لقاءهما كان مقتضباً ولم يتخلله حوار مستفيض، ولذلك توقع يحيى أن تبوء محاولة عايدة في لقاء جمال بالفشل، لكنها قررت أن تحاول اقتحام عزلته، فذهبت مع صديقة لها إلى شقته وأخذا يقرعان بابه بكل قوتهما، فلم ينفتح الباب حتى بعد مرور خمسة دقائق متواصلة من الطرق على الباب.

حين كتبت عايدة الشريف هذه القصة في مقال لها بجريدة (الوطن) الكويتية، بدأ بعض أصدقائه يخبرونها تفاصيل عن أسباب عزلته، فقال لها أحد زملائه في الجامعة أن سر اعتزاله يرجع إلى مثاليته الخالصة، فقد كان لا يطيق رؤية المتزلفين، وكان يكظم غيظه من تزلفهم الذي يظهر مثاليته وكأنها صلف وغطرسة، لكن غيظه فاض على أهون سبب، بعد أن تم تكليفه بالتدريس بجامعة القاهرة فرع الخرطوم مناوبة مع زميل آخر كان قد حاضر الفصل الدراسي الأول، وحين ذهب جمال لتدريس الفصل الدراسي الثاني، اكتشف أن زميله قد حاضر مقرر الفصل الثاني وليس الأول كما اتفقا، ولم يكن تدريس المقرر الأول مستعصياً على جمال بكل ثقافته، لكنه شعر أن زميله هذا وهو من المتزلفين تلاعب به، فعاد من السودان مباشرة إلى بيته وأغلق عليه بابه، وبعد سنوات من الغياب اعتبرته الجامعة مستقيلاً، ولم تقبل بفصله، لأنهم يعرفون أن التاريخ سينصفه، لكن الدكتور عبد العزيز كامل صحح لها القصة قائلاً إن كلا الأستاذين جمال وزميله المناوب، كانا ضحية أستاذ ثالث يقول هو عن نفسه إنه لا يعرف النوم إلا إذا قام بالوقيعة بين الناس، وأنه إن لم يجد فرصة لها، فإنه يوقع بين ابنته وزوجها.

عرفت عايدة أيضاً من صديق لجمال حمدان أنه كان متزوجا قبل أن يعود إلى حياة العزوبية والوحدة، وقال لها أكثر من صديق إنه كان رساما ومصورا، وقال لها يحيى حقي إن جمال حمدان يمتلك صوتاً قوياً من طبقة التينور، ثم عرفت من صديقه المخرج التلفزيوني محمد البشير أن جمال كان ينوي احتراف الغناء، بل إنه حزن عندما عاد من البعثة في إنجلترا، ليجد أن عبد الحليم حافظ قد ظهر واشتهر، لأنه كان يطمع في اعتلاء عرش الغناء، واتضحت بعد ذلك تفاصيل أكثر عن ولعه الغنائي من خلال حوار أجراه جمال مع محرر من مجلة (الشباب) استعان ببواب العمارة لإقناع جمال بالحوار، الذي قال فيه إنه يتمنى إنجاز كتاب كان بدأ يعده عن الفن، لكن المشروع لم يتم لأسباب اقتصادية تتعلق بتكلفة الكتاب، مضيفاً: "وقد تدهشون لأنني أفكر في الكتابة عن الفن رغم أنني لا أجيد كتابة النوتة، أنا سمّيع أطرب لصوت عبد الوهاب وأم كلثوم، وأطرب لصوتي أنا أيضاً، وكنت زمان أغني أغاني عبد الوهاب في جلساتي الخاصة مع الأصدقاء، وما زلت أتابع الحركة الفنية بعد عبد الوهاب وأم كلثوم، لكن الساحة الفنية خلت تماما بعدهما، وأتعجب من الأصوات التي يسمعها الناس الآن"، كما قال في نفس الحوار "تمنيت لو علقت فوق باب شقتي لافتة تحمل عبارة (ممنوع دخول الجغرافيين)"، وبرغم نقده الشديد للصحافة وألاعيبها إلا أنه أضاف قائلاً: "لكن هذا لا يمنع من وجود قمم في الصحافة وعلى رأسهم هيكل الذي أعتبره أعظم صحافي في العالم".

كان جمال حمدان يحب أيضاً الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين، وقد روى بهاء لعايدة أنه حين مرض مرضاً شديداً، ومنع الأطباء عنه الكلام والزيارة، أخبرته زوجته ديزي أن موظفاً مخلصاً لديه يرتدي بدلة قديمة التصميم، كان يأتي يومياً في ساعة محددة للسؤال عن صحة بهاء بأدب شديد، ويرجوها إبلاغ سلامه له، وحين سألها بهاء عن اسمه، قالت له "جمال حمدان"، فشهق بهاء ولامها لأنها لم تقم بالترحيب به ولم تدخله إلى الشقة، فاعتذرت له وحين جاء جمال في اليوم التالي، أحسنت استقبال جمال ورحبت به، وحين سألته التفضل بالدخول، اعتذر وطلب منها إبلاغ سلامه للأستاذ بهاء وانصرف.

تنقل عايدة الشريف واقعة ترويها عن الأستاذ مصطفى نبيل، الذي عاد من الكويت حيث كان يعمل مع أحمد بهاء الدين في مجلة (العربي)، وكان بهاء قد طلب منه تسليم رسالتين الأولى إلى محمد حسنين هيكل، والثانية إلى جمال حمدان، وذهب مصطفى إلى بيت جمال حمدان بعد زيارة السادات إلى إسرائيل، فوجده مصطفى وقد ترك لحيته تنمو، وكان في حالة يرثى لها، وبدت على منزله علامات الفوضى، وأخذ يضرب كفاً بكف وهو يعبر عن سخطه على تلك "المبادرة التي قلبت نظريات التاريخ والجغرافيا معاً" حسب تعبيره، وهو ما جعل الدكتور جمال حمدان يتمنى أن يكون مثل لي هارفي أوزوالد الذي قتل الرئيس الأمريكي جون كينيدي، ثم يستدرك قائلاً: "ولكن كيف لي بقدرة التصويب، وحتى إذا كانت لدي هذه القدرة، فالسادات لا يجوب الشوارع بسيارته، بل يستعمل الهيلكوبتر".

حين ذهب مصطفى نبيل في اليوم التالي لتسليم هيكل رسالته، أخبره عن الحالة التي وجد عليها جمال حمدان، فما إن سمع هيكل ما قاله حتى طلب منه أن ينزلا فورا للقاء جمال حمدان، ولم يأبه لما قاله له مصطفى عن وجود طريقة معينة للتواصل المسبق مع جمال، وذهبا إلى شقة جمال وظلا أكثر من ربع ساعة يدقان جرس منزله وبابه، وطلب هيكل من أطفال الشارع أن يقذفوا الحجارة على شباك شقته، ولم ييأس حتى فتح جمال باب شقته ليجد نفسه أمام محمد حسنين هيكل، فدعاه هو ومصطفى للدخول، واستأذن منهما لكي يحلق لحيته قبل أن يجلس معهما، وقبل أن يجلس هيكل ومصطفى عاد إليهما معتذراً وقائلاً أنه ألغى فكرة الحلاقة لأنها ستستغرق وقتاً طويلاً، وحين طلب منه هيكل أن يخرجا إلى مكان في الهواء الطلق، اعتذر جمال لأنه مريض، فألح هيكل بأن هذا أدعى للخروج من المنزل والذهاب إلى طبيب، فتشبث جمال بعدم الخروج، وبدأ هيكل في توجيه سيل من الأسئلة إلى جمال حمدان عن رأيه في المصريين بعد إبرام معاهدة كامب ديفيد، فقال له جمال إنه فكر كثيراً فوجد أن "المصريين ربما عاشوا السنوات الأخيرة بين نارين، نار العرب الذين لا يمدون لهم يد المساعدة، ونار إسرائيل التي لم ينتصروا عليها فوقعوا في أسر الأخيرة".

بعدها، بدأ جمال حمدان في توجيه الأسئلة لهيكل عن أسباب تركه لوضعه في (الأهرام) وبدا من خلال أسئلته أنه كان يحترم هيكل بشكل كبير، وطبقاً لما رواه مصطفى نبيل لعايدة، فقد استاء هيكل من حالة جمال المتواضعة ماديا التي رآها بنفسه، فقال لمصطفى إنه يفكر في سؤال جمال عما إذا كان يقبل كتابة كتاب عن مصر لدار نشر أمريكية كلفت هيكل بكتابة كتاب، فنصحه مصطفى أن لا يفعل "لأن جمال موسوس أن تكون المخابرات الأمريكية تترصده"، فأحجم هيكل عن ذلك العرض، ليعود جمال حمدان إلى عزلته التي استمرت حتى مصرعه بعد حريق بشقته، أشعل حمى نظريات المؤامرة المرتبطة به، وأطلق حملات الاحتفاء والإشادة به، التي شارك فيها بعض زملائه من الجغرافيين الذين كانوا يقللون من شأن كتبه، ويعتبرونه إنساناً يكتب من منزله دون تحقيق، طبقاً لما نقلته عايدة عن أحدهم، فإذا بهم بعد وفاته يشيدون باستشعاره عن بعد لتضاريس مصر دون أن يعتمد على أحدث ما وصلت إليه التكنولوجيا، لأنه رآها وسمعها بعين العالم وضميره اليقظ، وإذا بالصحافة ومن بعدها الإذاعة والتلفزيون تستيقظ وتؤكد على أن حل مشاكل مصر يكمن في دراسة كتب جمال حمدان، فتتذكر عايدة مقولة لجمال حمدان في حواره الأخير قال فيها "المجتمع المصري غريب في تناقضاته، فهو لا يعترف بعبقرية أحد إلا بعد وفاته، فتظهر أفضاله، ويتم الحديث عنه والاعتراف بفضله"، وهي مقولة تنطبق للأسف على أغلب الكتاب والأدباء والمفكرين الذين كتبت عنهم عايدة الشريف في كتابها الممتع.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.