لبنان... والحاكم بأمره

لبنان... والحاكم بأمره

03 نوفمبر 2019
+ الخط -
أكثر ما صار يلفت في لبنان في هذه الأيام على وجه التحقيق، واقع المظاهرات السلمية المناهضة للحكومة وللعهد. وللنواب اللبنانيين الذين، وللأسف، لم تدبّ فيهم النخوة بعد في الإعلان عن استقالاتهم جميعاً وبدون أي اشتراطات مسبقة، وكل هذا بالطبع تحت رغبة الشارع الذي أفصح عن مطالبه الكثيرة، والتي لم يعد ممكناً بحال السكوت عنها على طول الفترة المبعدة من حكم جائر أضرّ بالشعب اللبناني الذي انتفض أخيراً بعد أن كان وما زال محكوماً بالحديد والنار من قبل زعامات وأحزاب ومليشيات تحكم في ظل الطوائف المتعددة البغيضة وشعاراتها المثيرة للجدل، والتي سارت بلبنان إلى نهاية لم يكن يتوقعها أحد، وأعلنها اللبنانيون الذين يفترشون الشوارع، صراحة وبكل ثقة في النفس، ومنذ نحو أسبوعين عن مطالبهم الجوهرية والمحقة، وبتجديد الإعلان عن استقالات كل المسؤولين "كلّن يعني كلّن"، والقصد من ذلك إسقاط الجميع من رأس الحكومة، مروراً برئيس مجلس الوزراء، وبرئيس مجلس النواب، وبالنواب والقيادات الحاكمة والإدارات التنفيذية التي تسيطر على إدارة الحكم في لبنان المنتفض، بدءاً من العماد ميشال عون رئيس الدولة، وسعد الحريري رئيس الحكومة، الذي تقدم باستقالته، ونبيه بري زعيم حركة أمل، وانتهاءً بقطبها الأعظم ورأس الأفعى حسن نصر الله، زعيم حزب الله اللبناني، الذي يتبع لملالي إيران وعلي خامنئي.

المطالب بالنسبة للبنانيين أصبحت واضحة، والصورة كذلك، وهذا ما غمرتنا به محطات التلفزة اللبنانية مشكورة التي وقفت مطولاً مع الحدث، ونقلت ما يحدث في الشارع اللبناني، وعن قرب على الملأ، على الرغم من كل الضغوط التي تحيق بها، إلاّ أنّه للأسف، ورغم الحراك السلمي الذي شهده العالم، وبرغم المعاناة والفقر والجوع الذي ينخر بإخوتنا اللبنانيين، وتحملهم الفقر المدقع والعوز والبطالة وتردّي الأوضاع المعيشية، إلا أنهم ظلّوا متشبثين بمواقفهم، وبقائهم في الشارع لتحقيق مطالبهم المشروعة..


الصورة وإن كانت واضحة، ولا جدال فيها، إلاّ أنَّ القائمين على السلطة ما زالوا يحتفظون بكراسيهم، ولم تدبّ فيهم النخوة بأي من قياداته الرئيسة بحفظ ماء وجهه على الأقل بالإسراع بتقديم استقالاتهم، باستثناء حزب القوات اللبنانية الذي يترأسه سمير جعجع وحدهم من كان ردّهم مع بدايات الحراك الشعبي بالإيجاب باستقالة أربعة من وزرائه، وكل هذا لم يرض السيد حسن نصر الله، رأس الأفعى، الذي يُطالب، وبكل خسّة ووقاحة بمحاسبة كل من يترك مهامه، ومن يترك المطلوب أن يحاكم!

والسؤال: لماذا لا تتم محاكمة نصر الله أولاً؟
إذاً لا بد من محاكمة تليق به، لا سيما أنه هو من قاد لبنان والحكومة اللبنانية إلى فراغ حكومي، وتعطيل قرارات مجلس النواب في أكثر من مرّة، وتجميد قرارات الحكومة، وهو وحده من شكل دولة داخل الدولة، وبيده وحده قرار الحرب والسلم!

إلى متى يظل حسن نصر الله ونبيه بري، وكل رموز الدولة اللبنانية الفاسدة طلقاء بدون محاسبة؟ والأنكى من هذا وذاك أنهم صاروا يخوّفون الناس في حال بقائهم في الشارع، بإرسال رجالهم المرتزقة إلى ساحات التظاهر السلمية بالتعدي عليهم بالضرب المبرّح، وإحراق خيمهم، وإبعادهم عن ساحات التظاهر لإنهاء مسيرة الحراك السلمي، وبذريعة إنقاذ لبنان من أمثال هؤلاء وغيرهم!

ورغم انتفاضة الشعب في وجه الزعماء والسلطة وفسادهم، شاهدنا أنّ بعض الشباب يدافع بكل وقاحة بعدم التطاول على حسن نصر الله ونبيه برّي.

المشهد نفسه تكرر مراراً على أكثر من شاشة، وفي أكثر من منطقة، حيث كان واضحاً تعمّد بعضهم الاندساس بين المتظاهرين والقفز للحديث أمام الكاميرات أو افتعال اشكالات مع المحتجين المنادين بشعارات ضدّ نصر الله وبرّي، في محاولة مكشوفة لإعادة التموضع حول الزعماء وإلغاء كلّ مفاعيل التظاهر، وهو ما حصل أيضاً عبر شاشة "إم تي في"، حين قام أحد الأشخاص بالتهجّم على إحدى المتظاهرات التي كانت تتحدث إلى مراسلة القناة وتنادي بإسقاط كل الزعامات السياسية من مختلف الطوائف والأحزاب.

وليس دفع هذه المجموعات نحو ساحات التظاهر بهدف ترهيب المحتجين وتعويم فكرة التمسّك بقداسة الزعيم، سوى هدف لإعادة فرز وتدمير التظاهرات وإرجاع لبنان إلى ما قبل يوم 17 تشرين الأول، حين كان حزب الله وحلفاؤه في السلطة مرتاحين للمشهد، إذ لم يكن هناك ما يؤرقهم أو يقضّ مضاجعهم. لكن التكاتف المدهش الذي أظهره الشعب في وجههم، لا بدّ أنه أفقدهم صوابهم، خصوصاً بعدما سقطت الفزّاعة التي يقوم عليها الحزب ويحكم قبضته من خلالها، فضلاً عن انتقاد زعيمي الثنائية حزب الله وحركة أمل.

وفي خطابه المعلن أشار رئيس الجمهورية إلى أن تشكيل الحكومات في لبنان عادةً ما يخضع للعديد من الاعتبارات السياسية والتوازنات. وقد تكون هذه التوازنات هي من أهم أسباب الفشل المتكرر وعدم الوصول إلى الخواتيم السعيدة في العديد من المشاريع.

فلبنان اليوم على أبواب حكومة جديدة، والاعتبار الوحيد المطلوب هذه المرة هو أن تلبي طموحات اللبنانيين، وتنال ثقتهم أولاً ثم ثقة ممثليهم في البرلمان، وأن تتمكن من تحقيق ما عجزت عنه الحكومة السابقة، بأن تعيد للشعب اللبناني ثقته بدولته. ولذلك يجب أن يتم اختيار الوزراء والوزيرات وفق الكفاءة والخبرة وليس وفق الولاءات السياسية أو استرضاءً للزعامات؛ فلبنان عند مفترق خطير خصوصاً من الناحية الاقتصادية. وهو بأمسّ الحاجة إلى حكومة منسجمة قادرة على الإنتاج وتحدي الشارع.

إنّ كل ما يرغب به المتظاهرون هو إكمال مشوارهم، بتلبية مطالبهم بعيداً عن تدخّل زعران "الميليشيات" التي تعدّت على المتظاهرين، وأدمتهم وتطاولت عليهم، لأنهم هم المتضررون الفعليون من كل ما يجري اليوم على الساحات اللبنانية في مختلف مدنه، وكما هو الحال في سورية والعراق واليمن ولبنان على أن تظل تابعة للحاكم بأمره، وهذا ما يحدث اليوم في لبنان الحر..

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.