عن مدرسة الطفولة

عن مدرسة الطفولة

02 نوفمبر 2019
+ الخط -


من الأوهام التي يعيش فيها الكثيرون أنهم سيصبحون سعداء وحكماء وأفضل حالًا بفضل النضج والخبرات الحياتية التي يكتسبونها مع الزمن، ولكن تبين لي أن أقصى ما يستطيع الإنسان أن يصل إليه من سعادة وحكمة مع مرور الأيام يكمن في قدرته على أن يعيش حياته أو ما تبقى منها على الأقل طفلًا حتى وإن شارف المائة!

ووجدت أن الكثير من النصائح والحكم التي تُقدم للكبار لكي يكونوا ناجحين أو سعداء في حياتهم، تعود بهم إلى مرحلة الطفولة وخصائصها، وهي المرحلة التي يعدها الكثيرون مرحلة نقصان في حياة الإنسان، ولعمري إنها لمرحلة الكمال لو كانوا يعلمون.

فقد تعلمت من الطفولة البراءة والنقاء، وألا أحمل حقدًا أو ضغينة لأحد من الناس، وفي السنة النبوية أن رجلًا بشره الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة ثلاث مرات؛ لأنه يبيت كل ليلة وهو سليم الصدر لا يحمل حقدًا أو ضغينة لأحد.



وتعلمت من الطفولة العطاء الذي لا يعرف الحدود، فالطفل يعطي كل ما بيديه ولا يفكر في المقابل ولا ينتظر الجزاء أو إظهار الامتنان من الآخرين كما يفعل الكبار، والقرآن يعلمنا أن نفعل الخير أن ننتظر الأجر من الله تعالى وحده، يقول الله عز وجل:{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} سورة الإنسان: 9.

وتعلمت من الطفولة مساعدة الآخرين والتعاطف معهم، والتعاطف مع الآخرين هو ما يُبقي الإنسان إنسانًا بعد المآسي الكثيرة التي نشاهدها يوميًا ولا نتعاطف مع أصحابها على الرغم من أنهم ضحايا وأبرياء لا ذنب لهم في الظلم البين الواقع عليهم، وفي الحديث الشريف الذي يرويه النعمان بن بشير رضي الله عنه:"مَثَلُ المُؤْمِنِينَ في تَوادِّهِمْ، وتَراحُمِهِمْ، وتَعاطُفِهِمْ مَثَلُ الجَسَدِ إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَداعَى له سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى". صحيح مسلم: 2586.

وتعلمت من الطفولة عدم التوقف عن طرح الأسئلة، فالأطفال يسمونهم الفلاسفة الصغار؛ لأنهم يسألون أسئلة فلسفية وجودية من قبيل: من أين جئت؟ ومن خلق الله؟ وأين يذهب من يموت؟

والسؤال هو مفتاح العلم، فعندما سُئل حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، بما أدركت العلم؟ قال:"بِلِسَانٍ سَؤُولٍ، وَقَلْبٍ عَقُولٍ".

وتعلمت من الطفولة التعبير عن المشاعر بعفوية، والفرح بالأشياء البسيطة، والبكاء عند الحزن، وذلك على الرغم من قولهم "إن الرجل لا يبكي"، وكذبوا فقد بكى أفضل الخلق صلى الله عليه وسلم وذرفت عيناه في أكثر من مناسبة.

وتعلمت من الطفولة أن أظل عنيدًا وصلبًا في مواجهة من يحاولون تطويعي أو كسر إرادتي أو زحزحتي عن المسار الذي ارتضيته لنفسي، والعناد عند الأطفال صفة إيجابية كما يقول خبراء التربية وليس صفة سلبية لكي ينزعج منها الآباء والأمهات، والطفل العنيد نعمة من الله عز وجل، لأن العناد يحميه من الانحرافات بجميع أنواعها.

وتعلمت من الطفولة أخذ الكفاية من كل شيء، وبخاصة الأكل والنوم وهما من المنغصات لدى الكثيرين اليوم الذين يعانون من كثرة الأكل وقلة النوم، فالطفل يأخذ كفايته من الطعام وإن حاولت إطعامه المزيد يرفض ويُشيح بوجهه عنك، ويأخذ كفايته من النوم وينام في أي زمان ومكان وعلى أي وضعية كان.

وتعلمت من الطفولة الاستمتاع باللحظة الآنية، وعدم الانشغال بالماضي ونسيان المواقف الصعبة، وعدم الانشغال بالمستقبل لأنه غيب لا يعلمه إلا الله عز وجل، يقول تعالى:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}. سورة الحديد: 22-23.

وتعلمت من الطفولة الفرح بالإنجاز حتى ولو كان صغيرًا، وذلك بعد سنوات سعيت فيها لإنجازات كبيرة على المستوى الشخصي والأسري والمجتمعي ولم تحقق لي الفرح والسعادة.

ومن الأمور التي نتعلمها نحن الكبار من فنون الإتيكيت المحافظة على المنطقة الخاصة (الحميمية) لنا وللآخرين وعدم السماح للغرباء بدخول هذه المنطقة، وهو ما يفعله الأطفال الصغار بكل براءة عندما يزيحون بأيديهم كل من يحاول دخول هذه المنطقة دون رضاهم.

مرحلة الطفولة يا سادة مدرسة عظيمة لو تعلمون، فجاهدوا أنفسكم لكي تعيشوا أطفالًا، ولا تسمحوا للحياة وتجاربها أو لمن حولكم بأن يسلبوا منكم صفات وخصائص هذه المرحلة بدعوى النضج العقلي وادعاء الخبرة والحكمة، حتى لا تفوتوا على أنفسكم فرصة الاستمتاع بمباهج الحياة التي لا يعيشها الإنسان إلا مرة واحدة، ودمتم أطفالًا وأنا معكم، وشكرًا لملهمتي ومعلمتي الصغيرة: الجوري.