بنفسج سنة أولى رواية!

بنفسج سنة أولى رواية!

17 نوفمبر 2019
+ الخط -
انزوى في ركن نصف مظلم، وقد بدت على محياه تعابير متناقضة، يضحك نصف وجهه ويبكي الآخر، نادى على الجرسون وطلب منه نصف كوب من الشاي ونصف فنجان من القهوة! وقف الشاب أمامه مبهوتًا، وهمس له بأدبٍ جم: إيه اللي بتقوله حضرتك؟ أنا مسمعتش الطلب ده لا هنا ولا في أي مكان! ثم تنحنح الشاب وقال بلسان يغلبه الخجل: حضرتك ضارب حاجة؟ شادد "جوان" مثلًا! أنا مش فاهمك يا محترم.

وقبل أن يرد، كنت قد تدخلت لاحتواء الموقف، وسلمت عليه بحرارة وأنا أنظر إلى الشاب، قلت له بلهجة الواثق: قهوة سادة لأستاذنا، وواحد سحلب بالمكسرات. انسحب الشاب ثم عاد بعد قليل وقد رسم على ملامحه علائم الحيرة، وزغر بعينه لصاحبنا وهو يقدم له القهوة السادة، وتعمد مط كلماته وبنبرة خشنة: القهوة يااا أستاذنا!

استفهمت من الرجل عن طلبه الغريب، وما قصة نصف كوب شاي مع نصف فنجان قهوة! وقلت مازحًا: هو ساندوتش سكلانس حضرتك؟! فصدرت عنه أصوات من أنفه، وارتكز بكوعيه على الطاولة وضرب براحتيه ثم شبَّك أصابعه وأرخى ذقنه فوقها، ثم قال: لقد رأيت العجب العجاب! وأشار بيده إلى بناية مجاورة وهو يواصل حديثه: كنت هنا قبل قليل، وقد استضافوا روائية كتبت عملها الأول، لكنها تتكلم كأنما تنازل لها بيتر هاندكه عن نوبل للأدب هذا العام!

لا تتوهم أن طلبي الغريب من الجرسون جاء سدى، لقد أردت التأكد من تركيز الناس وتفاعلهم مع المتناقضات، هذا الشاب عندي أثبت عقلًا من صاحبتنا تلك، وسأثبت لك ذلك. في مطلع حديثها، عرفت عن نفسها بالدكتورة، وبالحاسة النقدية فكان لزامًا أن نفهم: هي دكتورة في أي مجال؟ وما التخصص الذي ناقشت خلاله رسالة الدكتوراه؟ لكنها قفزت على هذه النقطة سريعًا، لم تقل لنا إنها حصلت على الدكتوراه في "التخطيط الاستراتيجي"، وهذا يدخل في إطار موضة الشهادات ما بعد الجامعية، لكن لنترك هذه الآن.


في سياق التعريف، علمنا أنها تخرجت في كلية الحقوق، ومن الحقوق إلى حقل الصحافة، وهذا ديدن كثيرين ممن لمعوا لاحقًا في بلاط صاحبة الجلالة، وأكدوا موهبتهم الصحافية عبر سنوات من العمل الصحافي. لم تقف عند هذا الحد، بل أكدت أنها كاتبة وروائية وناقدة، وتعنيني جدًا الكلمة الأخيرة (ناقدة)، واستطردت في حديثها لتقول إنها قرأت أعمال الروائي القطري جمال فايز في عشرة أيام، وفي اليوم الموالي كتبت دراسة نقدية نشرت بالصحف.

هنا تقف على دخولها عالم النقد -ولو من وراء حجاب- وأنها تلم ولو إلمامة عجلى على أساسيات النقد، لكن حديثها بعد ذلك حمل من المتناقضات ما لا يُحصى ولا يعد؛ فقالت إنها اختارت عنوان روايتها الوحيدة -حتى تاريخ كتابة هذا المقال- من برنامج تلفزيوني وبالصدفة البحتة، إذ كانت تتابع برنامجًا زراعيًا وأعجبها الحديث عن البنفسج؛ فخلعت على روايتها عنوانًا يتضمن البنفسج.

لو وقفنا هنا قليلًا لوجدنا تناقضًا صارخًا؛ فإن كتاب الروايات والأعمال الأدبية يتعمدون شحن العنوان بدلالات رمزية، ويدخل العنوان ضمن ما يشير إليه النقاد بـ"عتبات النص"؛ فالعنوان العتبة الأولى من عتبات النص، ويتعين على المبدع أن يسخر قدرًا كبيرًا من وقته الإبداعي لانتقاء العنوان الموائم والمعبر عن عمله، وألا يتركه نُهبة للمصادفة أو كيفما اتفق.

وفي هذه النقطة يحسن الاستطراد، فإن نجيب محفوظ في رواية "الطريق" -مثلًا- لم يترك شيًا للصدفة، ولم يقيد الطريق بأي مقيدٍ دلالي، بل شحن العنوان بكثافات رمزية لا حصر لها، وترك للقارئ أن يختار لنفسه من التأويلات ما يتسق مع فهمه الخاص للنص الروائي، بينما أخفق حسام الدين مصطفى عندما أخرج الرواية للسينما سنة 1962، وذلك أنه ربط الطريق بـ"الأسفلت"؛ فظهرت صورة لطريق سريع يشير إلى رحلة صابر الرحيمي -بطل الرواية- بحثًا عن المستقبل والهوية ممثلةً في أبيه، بينما تفادى هذه الإشكالية أشرف فهمي في إخراجه للرواية عينها سنة 1986 في فيلم بعنوان "وصمة عار".

وانظر إلى محفوظ في هذه الرواية، تجده يعبر عن مقر جريدة "أبو الهول" بفيلا من دور واحد، وهو تضاد مكاني مقصود مع فندق "القاهرة" المكون من أربعة طوابق، ثم يأخذنا في تضاد زمني بين فيلا الجريدة بلونها الأبيض، ما يشي بحداثتها زمنيًا مقابل اللون الكالح للفندق إشارة إلى قدمه الزمني؛ فالفندق جزء من الماضي في حين أن الجريدة جزء من الحداثة والتأثيرات التي أعقبت الحملة الفرنسية على مصر.

يعكس لون الجريدة في النفس راحة نفسية بعكس ما يوحي به المظهر الكئيب للفندق، وثالث الدلالات الرمزية في هذه المفارقة يتجلى في الموقع؛ فتقع الجريدة في ميدان التحرير، بكل ما للتحرير من دلالات، أما الفندق فمكانه شارع "الفسقية"، ما يوحي بالفسق الذي ارتبط في أذهان العوام بالفنادق. كل هذه الدلالات يصعب بأي حال أن تخلقها صدفة، بل إنها جاءت وفق تخطيط استرانتيجي تمتع به محفوظ نوبل، وغاب عن الدكتورة الحاصلة على دكتوراه التخطيط الاستراتيجي.

تابعت أستاذنا بهزة رأس تستحثه أن يواصل، ولم أرد أن أعقب بكلمة تُخرجه عن تدفق حديثه، ورأيته يفض اشتباك أصابعه ويتناول فنجان قهوته السادة، وبعد أن رشف منه رشفات أجرين ريقه، مال برأسه قليلًا إلى اليمين ونظر إليَّ قائلًا: غلبت أقول لا تصنعوا أصنامًا! كفايانا أصنام! كل من هب ودب يتعمل له تمثال، وهو طويلب رواية أو نقد، لم تعركه التجارب الكتابية وتخضد شوكة جهله الإبداعي والنقدي، لكن الناس تنسى سريعًا، وتهلل لمن طلع على الخشبة مهما كان فارغًا وتافهًا.

وبعد آخر رشفة، قال وبحسّ تهكمي: لن أخبرك أن العمل مكتوب باللهجة، وأن عاميته غلبت الفصحى فيه، ولن أقول لك إن الروائي السوداني المخضرم أمير تاج السر يرفض الكتابة بالعامية، ولا يرى بأسًا في تطعيم الرواية ببعض الكلمات العامية أو اللهجة، بشرط ألا يكون العمل كله 90% لهجة مضروبة في خلاطٍ مع 10% فصحى! لكن أحدهم سألها: لماذا طغت اللهجة على الفصحى؟!

وبينما يبتلع الأستاذ ريقه، وددت أن أجامله وأشجعه على متابعة القصة، فقلت له: ده سؤال في محله! رد عليّ بنبرة السخرية ذاتها: سؤال في محله، "وحالوا يا حالوا... رمضان كريم يا حالوا"، ثم تابع: ليست الفكرة في السؤال، بل إن الكارثة حملتها الإجابة؛ فإن إجابة السيدة الروائية -صاحبة الرواية الوحيدة حتى الآن- والناقدة كذلك كانت بأن في وسعها أن تكتب خمس روايات وبالفصحى العميقة، لكنها -شوف إزاي- لا تحب الفذلكة والاستعراض!

أضحت الفصحى السليمة فذلكة واستعراض، والنجومية أن تكتب بلغة أوكا وأورتيجا وأسلوب المهرجانات، ولو أنها قالت إن الفئة المستهدفة بالدرجة الأولى لروايتها هم فئة محلية لكانت إجابة مقبولة نوعًا ما، والسؤال: أين اللغة الصحافية السلسلة؟ ومن قال إن الصحافة تميل إلى الفذلكة أو الاستعراض حتى نهجر لغتها ونتشبث بالعامية؟! وإمعانًا في التدليل على عمقها اللغوي، قالت الروائية: إن روايتي المقبلة تتحدث عن الهجرة (غير المشروعة)، وضغطت على الكلمات وهي تقول ليست الهجرة (الغير مشروعة)؛ لأن الناس تخطئ وتقول الغير مشروعة.

وأصدر الأستاذ صوتًا من أنفه -الصوت نفسه صدر غير مرة خلال الحديث- ثم رمقني بنظراته من تحت النظارة الطبية -قعر الكوباية- وهو يقول: أتريد أغرب من ذلك بل أغرب من الخيال؟ قلت: هات! كلي آذان مصغية؛ فقال: ذيلت الروائية الناقدة حديثها عن اللغة بعد الفذلكة والاستعراض بجملة (مفيش مرأة بتحب النقد) قبل أن تستدرك وتضيف (ولا راجل)! انفعل الأستاذ وهو يقول: من شويه قالت إنها ناقدة، وكتبت دراسة نقدية، ثم الآن تقول إنها -لكونها امرأة- لا تحب النقد! فهل يعقل أن نجد لاعب كرة قدم يُقدَّم للناس على أنه مُنظِّر وأيقونة في عالم المستطيل الأخضر؛ ليخرج على جمهوره قائلًا: أنا لا أحب كرة القدم!

كلام الرجل منطقي، كيف لناقد أن يضيق صدره بالنقد، هل أرادت أن يطبل لها الحضور ويهللوا؟ أرادت أن يداهنوها فحسب، ثم خرجت من حديثه بأن الجلسة كانت لتلميع صورتها، ولإضفاء سمة أكبر منها وعباءة أوسع بكثير من إنتاجها وقدراتها الأدبية. لكنني ابتسمت ونظرت في عينيه، ويا للمفاجأة: أصدر صوتًا حانقًا وهو يقول: لأ! بلاش الابتسامة الملغزة دي؟ أعلم يقينًا المقولة السخيفة "الناقد روائي فاشل"، والتي يلوكها كثيرون بصيغة أخرى "إن الناقد رجل حاول تعاطي الكتابة ففشل، وتبرع بمعوله لهدم المبدعين"، وهذه مقولة مريضة يغني بطلانها عن إبطالها.

واستطرد يعرض وجهة نظره: لو كان الأمر كذلك ما جلست أم جندب تنقد زوجها، ولكنها نقدته وحكمت لمن أجاد عنه، ولولا النقد لتأخر المبدع طويلًا في صقل أدواته، وربما تغاضى طوعًا عن تطويرها؛ فالنقد والعملية الإبداعية قدما التطوير والإجادة في الحياة الأدبية، بل في كل مناحي الحياة.

وأصدقك القول: لقد أشفقت عليها، وقد غُرِّر بها في هذه الجلسة، وسمعت إطراءً لم يلقَ على مسمع ماركيز ومحفوظ وهاندكه، وأغلب الظن أن هذا الإطراء الرخيص لن يسعفها طويلًا. إنني والحديث للناقد وليس لكاتب هذه السطور- أؤمن أن العمل الأول مدرسة المبدع، يخطئ فيه كأغلب أخطاء البدايات، ويتعلم منه ليطور من أدواته ويصقل مهارته، ليس ليجلس مجلس الكبار يوجه ويُنظِّر وبضاعته في الرواية مزجاة، وهو في سنة أولى رواية!

لقد أفاد عبد الحميد جودة السحار من أخطائه في "أحمس بطل الاستقلال"، وأفاد محفوظ من أخطائه في "همس الجنون"، ولم نرهما وقد تصدرا المشهد الأدبي بعد العمل الأول، ولم يتبجحا بأنهما قدما عملًا قويًا أو عملًا ملحميًا. "إن المغرور من غررتموه" قالها الفاروق من قبلي، وأقولها بدوري، ومن تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه.