الجمل سفينة الصحراء!

الجمل سفينة الصحراء!

13 نوفمبر 2019
+ الخط -
يُكثِر الناس مما يحبونه، وإن قتلهم. فكِّر في الأكل مثلاً، يدفعهم إلى ذلك حافز داخلي أو فضول لا يجدون له تبريراً، وقد يحشرون أشياء لا رابط بينها، لا لشيءٍ إلا لأنهم لا يعرفون غيرها، أو لم يوطنوا أنفسهم على توسيع دائرة مداركهم ومعارفهم، ولربما كان الرجل موسوعي الفكر والثقافة، لكن المباغتة تروِّعه وتجهز على حضور بديهته، فيدخل رجب في شعبان وشعبان في رمضان، وكل عام وأنتم بخير!

عربدت تلك الفكرة في رأسي، عربدت طويلاً مع كل تكرار ممجوج، يكرر خطيبٌ على الأسماع الكلمات ذاتها، في حضور الوجوه نفسها، وترتسم ابتسامة بليدة على الوجوه، وقد يبالغ أحدهم في الافتعال وتنتفخ أوداجه وهو يثني على القصة المكررة، ويعجب من كان له عقل مِن حفاظ الافتعال المفضوح، ولا سيَّما عند مقارنته بدرجة الحماسة وقت سماع الكلام بِكراً!

عشّشت الفكرة في رأسي بزيادة وأنا أقرأ كتاب "5 دقائق للتحرر من التوتر"، إذ أصرت الكاتبة "لورين إي. ميلر" على أن الجمل سفينة الصحراء، وآلت على نفسها أن تذكِّر القارئ - بلا أدنى مبالغة - في صفحات الكتاب كلها بمعلومة مهمة، معلومة واحدة تتكرر كل صفحة، أن الكاتبة أصيبت بسرطان الثدي وقصّت شعرها ولطمت خدها... إلخ، إلى درجة تدفع القارئ - ولا سيَّما إن كان قولونه صينياً وخلقه ضاق - إلى قراءة الكتاب على أوقات متباعدة - على غير عادته - والتعهد بألّا يقرأ للسيدة ميلر أي كتاب، ولو كان فيه سر الخلود!


تروقني فكرة التنوع في الطرح، ويستهويني التعدد! وأضرب كفاً بكفٍّ كيف يطرب الرجل للتعدد ويمقته في آن واحد. وقبل أن نستطرد في هذه النقطة، فليسمح لي الجنس الناعم أن أبرئ ساحتي وأوضح مقصدي، فأنا لم تتصل لامي بباء على طريقة شيخنا أبي العلاء المعري، بالبلدي أعزب أنا ولله الحمد، ومن ثَمَّ فإنني لست من أنصار التعدد الزوجي - على الأقل حتى كتابة هذا المقال - لكنني أتحدث هنا عن تعدد الأمثلة وتنوع الشواهد.

تميل النفس البشرية إلى الملل والخنقة السريعة، وفي عصر السرعة أصبح المط غير المبرر واللت والعجن مكروهاً، وعلى حد تعبير أستاذنا أحمد منصور، فإن "ديمقراطية الريموت كنترول" متاحة لدى المشاهد والمستمع؛ فإذا لم يعجب المشاهد برنامج ما، فلن يتردد في تغيير المحطة التلفزيونية أو الإذاعية. هذا من حسن الطالع للمشاهد عن بعد، لكن الأمر يختلف إن تقابلت الأوجه، واضطر المرء تحت وطأة الحياء أو الخجل إلى أن يستمع إلى خطيب أو متحدث أو معلم ما، ولم يتقِ الأخير ربه وعاقب مستمعيه وهو يجترّ ما قاله سلفاً دونما تنويعٍ - على أقل تقدير - في الأمثلة والقصص والشواهد التي يسوقها.

اعتاد ابن السماك أن يقول ويعيد، ثم يقول ويعيد، وهكذا دواليك، والناس يجلسون بين يديه لا يملكون إلا الانتظار حتى يفرغ، مذعنين له إذعاننا لصاحب الكرة أيام طفولتنا الغضة. في بعض الأيام سأل ابن السماك جاريته، والحمد لله إذ إنه سألها: هل أعجبكِ ما أقول؟! قالت: نعم! لكنها ولله الحمد والمنة لم تقف عند نعم، بل استطردت في جوابها لتقول: نعم! غير أنك تكثر ترديده؛ فأجابها ليردّ على طلب إحاطتها غير المتوقع: أكرره ليفهمه من لم يفهمه؛ فأفحمته بقولها: حتى يفهمه من لم يفهمه، يكون قد ملَّه من فهمه! لم يراعِ ابن السماك مسألة القدرات الفردية، وكان لا بدَّ للجارية أن تسجل هذا الاعتراض؛ لينتبه من تكرارٍ يأتي في غير محله.

بعضهم يظن التكرار بلاغةً وحسن بيان، لكن الأعراب لا يوافقون هذا المنهج، وربما الأعراب وحدهم - فضلاً عن سيادة المستشار مرتضى منصور - يملكون القدرة على الاعتراض الفج، ويكسرون قواعد الإتيكيت والبروتوكول والدبلوماسية، لا تستهويهم سياسة النعومة والغُريبة والبيتي فور، ناس دوغري وتجيب من الآخر. أحد هؤلاء الأعراب قذفته الأقدار ليحضر مجلس ربيعة الرأي، ونظر الأعرابي ببلادة إلى ربيعة وهو يستعرض مهاراته في الأدب والنحو والعروض، وقد أعجب ربيعة بنفسه أكثر من إعجاب الأستاذ محيي إسماعيل بشخصيته وأدائه!

التفت ربيعة إلى الأعرابي وقال له: ما تعدون البلاغة يا أعرابي؟ فأجابه: قلة الكلام وإيجاز الصواب! كان بمقدور ربيعة أن يلم الليلة ويختصر الدور، لكنه اختار أن يعلي ويأفور، فسأل الأعرابي الحانق: فما تعدون العيّ؟ قال: العيّ ما كنتَ فيه منذ اليوم؛ فألقمه الحجر ولبِّسه في الحيط! حتى أوشك الأعرابي أن يقول له: يا ربيعة! أنت مبتعرفش تتكلم!

هذا طرف من نبأ التكرار غير المستساغ، طرف آخر من هذا التكرار يميل أصحابه إلى جرّ الحديث إلى ساحتهم، وليّ عنقه، ولو بعد التحرش به واغتصابه والتمثيل بجثته إن لزم الأمر - والمراد هنا سياق الكلام ولا تذهب بخيالاتك بعيداً - ويستميتون في إيلاج الجمل في سمّ الخياط، المهم أن يرموا "الإفيه" بأي طريقة كانت، وعلى منهج اليهود "موسى مات! ناشف طري هات". هذا النوع يحمل بين طياته كوميديا أو ملهاة قد تنقلب إلى إفيهات محفوظة ومتداولة، وقد أكثر منها الفنان الراحل عبد المنعم مدبولي "مدبوليزم"، ومن أشهر هذه الإفيهات "شيلوا الميتين اللي تحت"، وإليك أمثلة أخرى من هذه الطرائف.

في طفولته، حفظ أنيس منصور القرآن الكريم، ثم تعاطى شيئاً من الشعر، واستهوته بعض الأبيات التي كثيراً ما تمثَّل بها، ومنها قول الشاعر (نهارك يا مغرور سهوٌ وغفلةٌ/ ونومك ليلٌ والردى لك لازمُ/ تُسَرُّ بما يُغني وتفرح بالمنى/ كما سُرَّ باللذاتِ في النومِ حالِمُ/ وتسعى إلى ما سوف تكره غِبَّه/ كذلك في الدنيا تعيش البهائِمُ).

ويطلب معلم اللغة العربية أن يكتبوا موضوعاً في الإنشاء، فيكتب أنيس كما يكتب أقرانه، ويعمد إلى تلك الأبيات ويلوي عنقها ويجبرها قهراً على خدمة موضوع تعبيره، ولعلَّك تسأل: وعن أيّ شيءٍ كان الموضوع؟ ثم لتُدهش حين تعلم أن المعلم طلب إليهم أن يكتبوا عن الفرق بين الصيف والشتاء، فأدخل منصور مع الصيف والشتاء العمر والحساب والندم والأماني والأغاني، ولسان حاله "والجمل سفينة الصحراء".

تحامل بعض الطلاب على الجمل، وحمّله فوق ما يطيق بكل المقاييس المحلية والأوروبية والأميركية، ومجمل القول أنه نشأ في بيئة الجمل هو حالها ومحتالها؛ فربط كل ما في عالمه بالجمل، وكما أن كل الطرق تؤدي إلى روما، فإن الجمل سفينة الصحراء، وكما أن أهل مكة أدرى بشعابها، والشعاب قد تكون بجرية أو جبلية صحراوية، فالجمل بما حمل سفينة الصحراء! أصيب المعلم بذبحة صدرية وارتفاع مزمن في ضغط الدم، والطالب على حاله يردّ الفروع إلى الأصول والجمل سفينة الصحراء!

وقبل قرون، أهدى أبو الهذيل دجاجةً إلى مويس بن عمران، ومويس من مياسير أهل البصرة، لا حاجة له بدجاجة أبي هذيل ولا غيره، ولم يترك فرصةً تمرّ دون أن يقول لمويس: "وكيف رأيت - يا أبا عمران - تلك الدجاجة؟"، فيجيبه ابن عمران: كانت عجباً من العجب؛ فيرد أبو الهذيل: وتدري ما جنسها؟ وتدري ما سنها؟ فإن الدجاجة إنما تطيب بالجنس والسن، وتدري بأيّ شيء كنا نسمِّنها؟ وفي أيّ مكان كنا نعلفها؟ فلا يزال في هذا الأمر والآخر - مويس - يضحك، ضحكاً لا يعرفه أبو الهذيل.

وكان أبو الهذيل أسلمَ الناس صدراً وأوسعهم خلقاً وأسهلهم سهولة؛ فإن ذكروا دجاجةً قال: أين كانت يا أبا عمران من تلك الدجاجة؟ فإن ذكروا بطة أو جزوراً أو بقرة؛ فيقول: "فأين كانت هذه الجزور من الجزر، من تلك الدجاجة في الدجاج"، وإن استسمن أبو الهذيل شيئاً من الطير والبهائم، قال: "لا والله! ولا تلك الدجاجة"، وإن ذكروا عذوبة الشحم، قال: "عذوبة الشحم في البقر، وبطون السمك، والدجاج، ولا سيما ذلك الجنس من الدجاج"، وإن ذكروا ميلاد شيء أو قدوم إنسان، قال: "كان ذلك بعد أن أهديتها لك بسنة، وما كان بين قدوم فلان وبين البعثة بتلك الدجاجة إلا يوم"، وكانت مثلاً في كلِّ شيء وتاريخاً في كلِّ شيء.

وسألت نفسي سؤالاً: لماذا يكرر المرء نفسه؟ أيظن هؤلاء أنهم السيدة أم كلثوم؟ كلما غنت - وركز معي في غنت - مقطعاً أو كوبليهاً - إن صحّ النصب والتنوين فيها - طالبها الجمهور بإعادته والترنم به مراتٍ ومرات! الصراحة أنهم ليسوا كوكب الشرق، وإن حاولوا، ولذلك يجب عليهم أن يقلعوا عن اجترار ما يقولونه، وأن يبحثوا عن قافية جديدة وأمثلة جديدة، ربما يعوزهم الوقت للتحضير أو تحديث نسختهم من القصص والحكايات والأمثلة والشواهد؛ فلا بأس أن يصمتوا قليلاً حتى شحن بطاريات قصصهم وشواهدهم، وألا يصدعوا أدمغتنا عمال على بطال!

لكن مُسلَّمة "والجمل سفينة الصحراء" ليست مفيدة على طول الدرب، وإليك قصة تؤكد جانباً من الأمر. حفظ أحدهم موعظة، قرأها في كتاب ما وأعجبته فابتلانا بها، ما يعجبه يقذف به في وجوه الناس، لا على سبيل اللايك والشير، بل على سبيل "هتسمع يعني هتسمع"! دخل بموعظته بعض المحافل وراقه أن يلقي كلمته، ومن بين كل الكلمات والمواعظ النبيلة والحكم الجليلة، وقع اختياره على مقطوعته تلك، وأدى أداءً مسرحياً مفتعلاً إمعاناً في تأكيد المعاني، ثم جلس والناس كأن على رؤوسهم الطير، لم ينفعلوا أو يتفاعلوا مع معزوفته!

أدهشه الأمر واستبدّ به الفضول، فمال على أعرابي يجلس وقد قدت ملامحه من صراحة لا تعرف التملق، وسأل الأعرابي: إيه الحكاية؟ القصة دي قلتها سنة كيت وكيت، وكان الحاج فلان حاضراً، والبلد قامت على رجل وكرموني بدهب وياقوت ومرجان، واستضافوني في بث لايف على فيسبوك، أما المرة دي الناس في الصوان "أسكت.. هُس"، رسيني ع الفولة يا معلم! نظر إليه الأعرابي بخنقة وشحتفة، وهو يقول من تحت الضرس ويضغط على أواخر الكلمات: الحاج فلان كان هنا من شويه، وقال الكوبليه اللي سمعته لنا حرف حرف، ياكش تكون ارتحت وترحمنا بقى!