بيلي كريستال ومتعة التفاصيل الصغيرة

بيلي كريستال ومتعة التفاصيل الصغيرة

13 نوفمبر 2019
+ الخط -
لم أنس هذه المسرحية منذ شاهدتها قبل أعوام، ولا أظن أنني سأنساها أبداً..
أتحدث عن مسرحية (700 يوم أحد) التي كتبها وقام ببطولتها منفرداً على خشبة المسرح النجم الكوميدي بيلي كريستال، الذي أحبه الملايين ممثلاً سينمائياً وتلفزيونياً، ومخرجاً ومؤلفاً ومنتجاً سينمائياً، وفوق كل ذلك كاتبا ساخرا ناجحا حصل على جائزة مارك توين الشهيرة للكتابة الساخرة، من أشهر أعماله لدينا في العالم العربي فيلما Analyze This و Analyze that الذين اشترك في بطولتهما مع النجم روبرت دي نيرو، بالإضافة إلى أفلام بعضها رائع وبعضها لطيف مثل When Harry Met Sally و Forget Paris و Mr. Sunday و Throw Mama from the Train و City Slickers و America’s Sweethearts و My Giant و Memories of ME و Father’s Day و The Princess Bride و Deconstructing Harry ومع ذلك فكل هذه الأدوار المتنوعة كوم، وأداء بيلي كريستال المدهش في مسرحية 700 Sundays كوم آخر.

حين شاهدته يؤديها على خشبة المسرح قبل ستة أعوام، كان قد بلغ الخامسة والستين من عمره، ومع ذلك فقد قام منفرداً ولمدة ساعتين ونصف بإضحاك الجمهور وإبكائه ودفعه للتصفيق وانتزع منه صيحات الإعجاب المتوالية، دون أن يعاونه في ذلك سوى شاشة سينمائية يعرض عليها بين الحين والآخر بعض الصور الشخصية وبعض الأفلام العائلية القديمة التي صورها في طفولته وصباه، دون أن يفلت منه الإيقاع لحظة واحدة طيلة المسرحية، لينتقل من تقليد جده وجدته وأعمامه وخالاته بأداء يفجر الضحكات، إلى الحديث عن معاناة أمه في الإنفاق على الأسرة بعد وفاة والده بأداء يفجر الدموع، مغنياً أحياناً وراقصاً أحياناً أخرى، وبعد أن انتهت المسرحية وأضيئت أنوار المسرح عاد ثانية إلى المسرح ليدخل مع الجمهور في وصلة ارتجال لمدة ربع ساعة زادت الحاضرين نشوة على نشوة، ليخرج جمهور المسرح والسعادة تتراقص في وجوه الجميع، بشكل أظنه بدا مثيرا لدهشة وفضول الواقفين خارج المسرح والمارين إلى جواره.

عنوان المسرحية (700 يوم أحد) يقدم ببساطة فكرتها الآسرة، حيث يشير هذا الرقم إلى عدد أيام الأحد التي قضاها بيلي كريستال بصحبة والده منذ بدأ كطفل يعي التفاصيل المحيطة حوله، وحتى اليوم الذي رحل فيه أبوه عن الدنيا وبيلي لا يزال في الخامسة عشر من عمره، ولأن والده كان يكدح من أجل الإنفاق على العائلة ويضطر للعمل في وظيفتين طيلة أيام الأسبوع، ما عدا يوم الأحد الذي كان يوم عطلته الوحيد، فقد كانت أيام الآحاد تلك هي الوقت الوحيد الذي قضاه بيلي بصحبة والده، ولتكون الساعتان والنصف التي تستغرقهما المسرحية هي الوقت الذي يقضيه المشاهد مع بيلي، في رحلة ممتعة ومثيرة للضحك والشجن يستعيد فيها ذكريات تلك الأيام السبعمائة المحفورة في وجدان بيلي.


كان والد بيلي كريستال يعمل في مجال إنتاج الموسيقى، ويعمل أيضا في ملهى متخصص في عزف موسيقى (الجاز)، ولذلك فقد جاءت ذكريات بيلي الطفل حافلة بالحديث عن نجوم عاش معهم وهو طفل، ومن أشهرهم النجمة الأسطورية بيلي هوليداي الأمريكية من أصل أفريقي، روى بيلي لنا كيف أحب الموسيقى والرقص والغناء بفضل أولئك النجوم، بل إن دخوله إلى المسرح جاء بعد عرض فيلم عائلي يظهر رقصة له وهو طفل، ليدخل إلى المسرح وهو يؤدي نفس رقصته وهو طفل، قبل أن يقول للجمهور أنه اكتشف بسبب تلك الرقصة أن من يشاهدونه غارقون في الضحك، بدلا من أن ينظروا لحركاته الراقصة بإندهاش، كما يفعلون مع الراقصين الجيدين، ليكون ذلك سببا في أن يكتشف أن موهبته الحقيقية في الإضحاك وليست في الرقص أو الغناء.

في رأيي، المسرحية الجميلة هي التي تجعلك تفكر ولو حتى من باب إشباع غريزة التفوق الإنسانية، فيما إذا كان من سيحضر عرضها في عروض تالية سيشعر بنفس المتعة التي شعرت بها، أم أنك كنت محظوظا أكثر منهم لكي يكون هذا الأداء الأروع من نصيبك، خصوصا لو كنا نتحدث عن مسرحية ظلت تعرض على مدى أشهر وتعرض في يوم الأحد مرتين في نفس اليوم، أنا مثلا شاهدتها في عرض الساعة الثانية ظهرا الذي انتهى في الخامسة مساءً، ومن شدة استمتاعي بالعرض، فكرت يومها في أن أخوض تجربة جديدة عليّ، وهي أن أشتري تذكرة لعرض الساعة السابعة مساءً، فقط لأختبر هل سيَقوى بيلي كريستال على تكرار أدائه الساحر الممتع بنفس الطاقة والحماس، وهل كان عرضه الارتجالي بعد انتهاء المسرحية أمرا خاصا بنا وحدنا، أم أنه يؤديه في كل عرض ويقوم بتغييره من خلال حواره مع الجمهور، لكنني خفت أن لا يحدث ذلك فأفسد متعتي الأولى، كما أنني تذكرت أصلا أنني لم أحصل على تذكرتي إلا بأعجوبة، فقد قال موظف شباك التذاكر لي في البداية أن كل التذاكر نفدت خلال الفترة التي طلبت تذكرة فيها، ولأنني قادم من ثقافة تعود أهلها ألا يصدقوا أي معلومة تقدم لهم، قلت له هل يمكن أن تتأكد من فضلك، فنظر لي باستغراب، لكنه نفذ طلبي لأني زبون، والزبون دائما على حق، ليقول بعد لحظات "يا إلهي، أنت محظوظ حقاً يا رجل، هناك تذكرة تم إلغاءها الآن، ولديك فرصة لحضور العرض في رابع يوم بعد افتتاحه"، ولكي ينفي عن نفسه تهمة تقصيره في البحث، أدار شاشة الكمبيوتر نحوي وهو يناولني التذكرة قائلا لي: "أرجو أن تصدقني فقبل أن تسألني كنت بالفعل قد راجعت الموقف لدي وكان المسرح محجوزا لمدة شهر وأسبوع"، ولأنني قادم من ثقافة تعود أهلها أن حوارا كهذا يعني "محلسة" لطلب البقشيش، ولأن أهل نيويورك يحبون البقشيش ويحرصون عليه، فقد جلبت لنفسي الإحراج، حين قمت بمحاولة منحه عشرة دولارات كبقشيش، فأعادها لي قائلا بألاطة: "أنا لم أفعل شيئاً سوى تأدية عملي، يمكن أن تعطيها للجرسون اليوم بعد العشاء".

ما لم أكن أعرفه عندما شاهدت العرض المسرحي، أنها لم تكن المرة الأولى التي يقدمه فيها بيلي كريستال، فقد سبق له أن قدم نفس العرض عام 2005، وحصل به على جائزة توني أشهر الجوائز المسرحية في العالم، وفي كتابه الجميل (لا زلت تخدعهم) الذي اشتريت من المسرح نسخة موقعة منه، والذي سأعرضه قريباً بإذن الله، يتحدث بسعادة شديدة عن النجاح الأسطوري الذي حققه العرض، ناشرا صوره مع عدد من مشاهير العالم الذين حضروا العرض وأعجبوا به على رأسهم بيل كلينتون وأوبرا وينفري وباربرا سترايسند ووارين بيتي وصديقه الحميم محمد علي كلاي الذي حضر العرض لأكثر من مرة، والذي نشر بيلي صورة له مع والدته واختار لها تعليق: (بطلان).

برغم النجاح الساحق السابق للمسرحية، فإن الإستقبال الجماهيري والنقدي الذي حظي به عرضها الجديد الذي استمر تسعة أسابيع فقط، كان يوحي بأن المسرحية تعرض لأول مرة، لدرجة أنه لم يبق إلا أن يتم منحه جائزة توني عن نفس المسرحية لقدرته على تحطيم أرقام الإيرادات التي كان قد حققها في عرضه الأول الناجح، محطما الرقم القياسي لأعلى عائد في أيام نهاية الأسبوع لعرض غير موسيقي، بل يمكن لو قارنت نسبة إيرادات مسرحيته إلى نسبة تكلفتها مقارنة بمسرحيات الإنتاج الضخم المعتمدة على الإبهار والمجاميع والتقنيات المتطورة، أن تحكم أنه قد تفوق على هذه المسرحيات بالضربة الساحقة، ليجعل نجاح المسرحية شبكة تلفزيون (إتش بي أو) تبادر إلى استغلال فرصة إعادة العرض لتقوم بتصويره، لتعرضه لمشاهديها الذين لم يحظوا بفرصة مشاهدته في المرتين السابقتين، وهو موجود عليها منذ فترة، وأنصحك بأن تجد إليه سبيلاً.

أجمل ما في مسرحية (700 يوم أحد) أنك تخرج منها وأنا لا تفكر فقط في عائلة بيلي كريستال، بل تفكر في عائلتك وأحبابك وأصدقائك، وهو ما يحرص بيلي على تأكيده بمنتهى الجمال، فبعد عودته ثانية إلى خشبة المسرح بعد انتهاء المسرحية، ستظن أنه عاد لكي يطلب من الجمهور جمع تبرعات لقضية إنسانية أو لدعم صندوق الممثلين المتقاعدين في برودواي، كما يحدث عادة في المسرحيات الكبرى التي يتطوع نجومها لحث الجمهور على جمع التبرعات، بل ويقومون في أغلب الأحيان بعمل مزاد على شيئ ما مما يرتدونه أو يستخدمونه في العرض، ومع أن بيلي كريستال قام بتقديم حفلات خيرية كثيرة جلبت عائدات كبيرة، لكنه عندما عاد إلى خشبة المسرح هذه المرة لم يعد لجمع التبرعات، بل حرص على أن يدير حوارا ساخرا مع الجمهور قال في نهايته للحاضرين أنه في قمة السعادة لسماعهم يضحكون من قلوبهم طيلة العرض، وأنه يشكرهم على حماسهم وتصفيقهم، لكن سعادته الحقيقية ستكون لو نجح في تحقيق هدفه الحقيقي من وراء المسرحية، وهي أن يتذكر كل من حضرها أهمية أن يتصل فورا وبعد خروجه من المسرحية بمن يحبهم، ليقول لهم فقط أنه يحبهم، لا أكثر ولا أقل.

قال بيلي كريستال لنا ساخراً: "قل لهم أنك تحبهم وأغلق السماعة فورا قبل أن يقولوا لك ما يجعلك تغير رأيك"، ثم أضاف بتأثر أنه لا يوجد شيئ في الدنيا يمكن أن يعوضنا لو فقدنا شخصا نحبه دون أن نعبر له عن حبنا بكل الطرق الممكنة، ليدوي المسرح بالتصفيق الشديد، ويخرج الناس من المسرح في حالة من السعادة المختلطة بالشجن والشوق إلى المحبين، وكل منهم يسارع لفتح هاتفه المحمول لكي يتصل بمن يحبه، في مشهد يحدث كثيرا أن ترى الناس يفعلونه عند خروجهم من المسارح التي توجب غلق الهواتف، لكن الجديد هذه المرة أن أكثر كلمة تسمعها بين الحضور الذي يتحرك للخروج من المسرح هي كلمات "باحبك.. وحشتوني.. مشتاق لكم.. أحبكم كثيرا".

أنا وحدي ربما الذي كان حظي سيئا بين كل الحاضرين، لأنني عندما اتصلت بأسرتي لم أجد أمامي سوى جرس طويل بارد، قبل أن أتذكر فارق التوقيت الذي يفصل بين القاهرة ونيويورك، لكنني لم أكن في حالة وجدانية تخول لي ألا أعمل بنصيحة بيلي كريستال، لذلك نفذتها فورا، ووقفت موجهاً كاميرا الهاتف نحوي وتركت عليها رسائل قصيرة مصورة ـ وباكية أيضاً ـ لزوجتي وأمي وابنتيّ وبعض أساتذتي، حريصاً على أن أفسر لهم سر هذه الرقة المفرطة التي نسبت فضلها لبيلي كريستال، لكي لا يظنوا أن مسّاً من الجنون أصابني، فأتسبب في قلقهم عندما يحاولون الإتصال بي فلا يجدون مني ردا، بسبب فارق التوقيت.

أنهيت الرسائل المصورة على بعد خطوات من باب المسرح، ووقفت ألتقط أنفاسي وأمسح دموعي في ركن من برودواي، قبل أن أتوجه إلى مقهى قريب لأتصفح فيه كتاب بيلي كريستال الجميل، فتقع عيني على صوره مع زوجته وأبنائه وأحفاده، فتخرج من أعماق قلبي دعوة حارة مليئة بالإمتنان: "روح يا عم بيلي ربنا يخليهم لك".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.