على طريقة هنري كيسنجر

على طريقة هنري كيسنجر

01 نوفمبر 2019
+ الخط -
حان الوقت لإقفال قصة "حادث المرور" التي كان يرويها لنا الأستاذ كمال في جلسة الإمتاع والمؤانسة المنعقدة في منزله بحي "أفجيلار" الإسطنبولي. 

قال كمال: يا ريتْ تِصْبْرُوا عليّ، لأني مفكرْ أمشي بهاي الحكاية خطوة خطوة، على طريقة هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي لما كان عَمْ يشتغلْ على فصل القواتْ بين إسرائيلْ من جهة، والأنظمة العربية المناضلة من جهة أخرى في سنة 1973 و1974.

قال أبو زاهر: نعم. يوميتْها، وبسبب حرصْ أميركا على مصلحة إسرائيل، وَقَّفُوا الحرب، وتم تثبيتْ أركانْ نظام حافظ الأسد، وأطلقوا يده فينا لحتى لَعَنْ سنسفيل أجدادنا.

قال كمال: كلام أبو زاهر صحيح، بس إذا تابعناه ممكنْ ياخدْ حديث السهرة في اتجاه تاني، وأنا بدي أتابع عملية إقفال قصة حادث المرور. لما وقع الحادثْ، في أواسط التمانينات، كانت سورية عم تعاني من التَضَخُّمْ النقدي. التَضَخُّمْ متلما بتعرفوا بيعني وجودْ كتلة نقدية كبيرة في السوقْ، لاكن قيمتها الشِرَائية منخفضة، لأنها عَمْ تنطبعْ من دون رصيدْ، والسلع الموجودة في الأسواقْ كانت قليلة جداً، وإذا انوجدتْ بتلاقيها في السوق السودا، وبأسعار عالية، بينما مؤسساتْ الدولة قاعدة عَمَّا تكش دِبَّانْ. 

قال أبو الجود: يرحم والديك يا أستاذ كمال. أنا بتذكَّرْ ابنْ عمي مسعودْ كان يمسكْ رزمة مصاري من فئة المية ليرة، والخمسمية ليرة، ويجعلكها بإيده، ويقلي: عليّ الحلال يا إبن عمي وَرَقْ كْيَاسْ الشمينتو أحسنْ من هالعِمْلة. 

قال كمال: نعم، والخلاصة إنه نظامْ حافييظ الأسد أحسّْ بالخطرْ من ازدياد نسبة التضخم النقدي، وقَرَّرْ يسحبْ كمية أموالْ كبيرة من ميدانْ التداولْ.

قال أبو ماهر بلهجة مبطنة بالسخرية: بيسْحبها بالطرق المشروعة طبعاً!

ضحك كمال وقال: يا رَجُلْ، نظام الأسدْ كله على بعضه مو مشروع، وبدك إجراءاتُه تكون مشروعة؟ مستحيل.. يا سيدي بالأول أعلنْ مصرفْ التسليف الشعبي عن طرحْ شهادات الاستثمار فئة ألف وباء، ولتشجيع المواطن على إيداع مدخراتُه صار المصرف يعطي للمواطنْ فوائد بنسبة 9 بالمية سنوياً، وهي أعلى نسبة كانت موجودة في سورية يوميتها، وبعد فترة أصدر البنك شهادات (جيم)، وهاي البنك ما بيدفع عليها فوائد، إنما بتعتمد على دواليب الحظ، متل اليانصيب، يعني ضحك على اللحى وزعبرة ولعب قمارْ. وفي سنة من السنين أعلنوا عن اكتتابْ للحصول على بيكآبات زراعيـة، بحيثْ إن المواطنْ بيدفع تلاتين ألف ليرة سلفة وبيستنى فترة طويلة ليستلم البيكآب، وجمعوا من الناس بهالطريقة مئات ملاييين الليرات السورية، لأنه الناس صَدَّقُوا القصة، وكان في تَعَطُّشْ لاقتناءْ أي سيارة من أي نوع كان، حتى ولو كانت بيكآب زراعي.. وبعد شي خمس سنين انكشفت الكذبة، وفهموا الناس إنه ما في بيكآبات ولا ما يحزنون، وصارت مؤسسة السيارات تعيد مبلغ الـ 30 ألف ليرة للمكتتب، بعدما خسر المبلغ تلات أرباع قيمته بسبب التضخم النقدي المستمر. 

قلت: لا تنسى رجال الأعمالْ اللي صاروا يجمعوا مصاري من الناس وياكلوها عليهم.

قال كمال: هدول قصتهم قصة، وبيستاهلوا نحكي عنهم شي مرة، بسهراتنا الجاية.. باختصار هني رجال أغنياء كانوا يستخدموا مع الناس مبدأ رَشّ اللقط اللي بيستخدموه كشاشين الحمام.. لما بيشوف كشاش الحمام طائرْ غريبْ جاية باتجاهُه بيرشّْ قدامه لُقْطْ (حَبّ ذرة أو قمح) حتى ينزل بدافع الجوع، وبوقتها بيرمي عليه الشَبَكة وبيوقعه في الأسر. وهدول الأغنياء كانوا يشتغلوا بنفس الطريقة. يفتحوا باب الاستثمار وياخدوا من كل مواطن مدخراته، ويعطوه عليها بشكل شهري أرباحْ كبيرة نسبياً، حتى يتشجع الناسْ الآخرين ويودعوا أموالهم، وبعدما يصير في حوزة جامع الأموالْ مبلغْ ضخمْ، بيعلن إنه خسرْ وأفلسْ، وبيروحوا الناس ليشتكوا عليه في القضاء فبيجيهم الجواب الصادم بأنه: القانون لا يحمي المُغَفَّلين! 

قال أبو محمد: حديث الأستاذ كمال كويس.. بس أنا راسي صارْ يوجعني. بتعرفوا ليش؟ لأني عم فكرْ إنه مستحيل يكونْ للتضخم النقدي علاقة بحادث مرور اللي وقعْ في حي البيطرة.. معقول؟ 

قال كمال: راح أوضح لك العلاقة حالاً. يا سيدي، بسبب حادث المرور صارت مجموعة من المشاجرات بين عائلة شوفير سيارة الهنشل وعائلة شوفير سيارة الفورد، وصار في شغل للدكاترة والممرضين والمستشفيات في إسعاف المصابين، وشِهِدْ القصرْ العدلي رَفع أكثر من خمسة عشر دعوى قضائية، وصار توكيل لأكتر من تلاتين محامي. وبسبب الاصطدام والضررْ اللي لحقْ بالسيارتين تحققتْ فرصْ عَمَلْ للرافعاتْ ومحلاتْ تصليح السياراتْ وبيع قطع التبديل في المنطقة الصناعية.. والأدوات الكهربائية اللي انحرقت بسبب التماس الكهربائي (الكونطاك) خلقت شغل لمصلحين الكهربائيات، وبعد انتهاء مرحلة القتل والضرب بين العيلتين، دخلتْ البلد في مرحلة المصالحات، وأقيمت ولائم عامرة باللحوم والرز والفريكة والحلوياتْ، وصار دَبْحْ خرفان، فتحركْ سوقْ الغنم الكاسد. والأموالْ اللي حصل عليها مصلحين السيارات والكهربائيات وبياعين الحلويات وتجار الغنم أكيد صرفوها على عيالهم وأنفسهم، فتحركتْ من جراء ذلك مصالح كثيرة.

قال كمال وهو يضحك على هذا الوضع المقلوب: كل هاي المكاسبْ حصلتْ عليها مدينة إدلب من جَرَّاءْ حادث المرور.. وبالمناسبة: في كتير من الناس اعتبروا الحادث نعمة لازم الناس تحمد الله عليها. أي نعم.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...