هكذا عاملت السينما الإسرائيلية جنرالات إسرائيل

هكذا عاملت السينما الإسرائيلية جنرالات إسرائيل

10 أكتوبر 2019
+ الخط -


من الطبيعي في أوقات الإستقطاب أن يتخذ الكثيرون مواقف حادة لإثبات وجهة نظرهم، هذا أمر لم يعد ممكنا تجاوزه، وأظنه سيستمر مع بقاء حالة الاستقطاب التي تسود مجتمعاتنا، وسيزيد مع زيادتها، وربما كان كل ما يمكن أن نطلبه هو (تحسين شروط الاستقطاب) إذا صح التعبير، وهو أن يجتهد كل طرف لإثبات وجهة نظره، دون أن يلجا إلى تبني الأكاذيب، خاصة أن كل شيئ في الدنيا قابل للتفسير من وجهة نظر مختلفة، دون حاجة للإستناد على الأكاذيب.

أقول هذا الكلام لبعض الذين قرأوا مقالاً سبق أن نشرته بعنوان (السخرية لا تعيق الجيوش القوية عن النصر)، وتحدثت فيه عن فيلم كوميدي إسرائيلي يسخر من وحدة عسكرية إسرائيلية، بشكل لا يمكن لأي سينمائي عربي أن يحلم به إلا إذا كان مستعدا للذهاب إلى المحاكمة ومنعه من ممارسة الفن مدى الحياة، بعض هؤلاء أرسل لي معلقاً يقول أنني وقعت في فخ ينصبه الإسرائيليون للعرب، لإظهار أنفهسم بمظهر الديمقراطي المؤمن بالحرية، بينما هم يمارسون أشنع أنواع البطش بالفلسطينيين، وأن الفيلم الكوميدي الذي تحدثت عنه لا يعني وجود حرية إسرائيلية للسينمائيين والأدباء في مناقشة أوضاع المؤسسات العسكرية بشكل جاد وحقيقي، وأن إسرائيل التي تعيش في حالة حرب لا يمكن أن تسمح بفيلم يسخر من جيشها، إلا إذا كان على طريقة (إسماعيل ياسين في الجيش).

ومع أن رأياً كهذا يوحي أن صاحبه لم يشغل باله بقراءة المقال جيداً، لأنه كان سيجد فيه تحذيراً من أن نصرف النظر عن جرائم إسرائيل في حق الفلسطينيين، دون أن يدفعنا ذلك لإنكار حقيقة أن مناخ الحرية الذي يحظى به الإسرائيليون هو سبب من أبرز أسباب تقدمهم وتفوقهم علينا، وكان سيرى أيضاً إشارتي إلى أن الفيلم لا يقدم الجيش بطريقة كوميدية خفيفة، بل يقدم انتقاداً لفكرة تجنيد الشباب الإسرائيلي في مجتمع ينشغل بالحرب أكثر من أي شيئ آخر، إلا أن انشغاله بصحة رأيي من عدمها لم يكن الأهم الذي يجب أن يضيع وقته فيه، فالأهم هو ألا يتورط لسعيه لإثبات خطأ وجهة نظري في سوق معلومات غير صحيحة عن طريقة تعامل السينما الإسرائيلية مع المؤسسات العسكية والأمنية، بطريقة للأسف لا يمكن لنا تقديمها في أوطاننا العربية، برغم كل ما يتردد من طنطنات عن الحريات والحقوق التي يتمتع بها المواطن العربي، وأحيل هؤلاء إن كانوا راغبين حقا في تكوين وجهة نظر حقيقية، إلى ما سبق أن نشرته في كتابي (في أوروبا والدول المتخلفة)، عن فيلم (حراس البوابة) الإسرائيلي، لعله يشجعه على البحث في هذه النقطة، وتكوين رأي فيها.

كنت قد كتبت بعد مشاهدتي لذلك الفيلم قائلا: "كان ينبغي أن أشاهد فيلما كهذا بمفردي تماما، ليكون بوسعي أن أطلق العنان لمشاعر الأسى وخيبة الأمل التي انتابتني وأنا أشاهده في قاعة نيويوركية صغيرة مليئة بمشاهدين كنت العربي الوحيد بينهم، وربما لذلك أخذت عروبتي تستصرخني أثناء المشاهدة ألا أجعل من نفسي ومنها موضعا للشفقة والرثاء، خاصة أنني سمعت قبل العرض أحد الجالسين إلى جواري يقول لصديقيه أنه قادم من إسرائيل قبل أيام، ومن أجل هذا الرجل بالذات كان يجب أن أتماسك وأكبت رغبتي في البكاء عندما رأيت في الفيلم مقاطع تسجيلية جديدة تعرض مهانة أسرانا خلال هزيمة يونيو التي انتقلنا بعدها من سيئ إلى أسوأ، حتى وإن بدا لبعضنا غير ذلك.

هو فيلم تسجيلي إسمه (حراس البوابة) للمخرج الإسرائيلي درور موريه، كان مرشحا لنيل أوسكار أفضل فيلم وثائقي في عام 2012 جنبا إلى جنب مع فيلم (خمس كاميرات مكسورة) الذي تشارك في إخراجه فلسطيني وإسرائيلي مقدمين فيه ملحمة رائعة عن صمود الإنسان الفلسطيني ومقاومته للإحتلال بسلاح الكاميرا، لكن الفيلمين خسرا سباق الأوسكار، الذي فاز به فيلم شديد الروعة والجمال إسمه (البحث عن شوجر مان) يحكي قصة ملهمة تبعث الأمل عن مطرب كاد يغرق في بحر الحياة لولا أن انتشلته يد مُحبّة في آخر لحظة ليقاوم من جديد.

أعترف أنني عندما قرأت أن الفيلم الإسرائيلي يتكلم عن جهاز الأمن الداخلي (الشين بيت) ظننت أن ترشيحه محاولة من أكاديمية الفنون الأمريكية للقيام بمواءمات سياسية تخفف ما ستلقاه من إنتقاد من اللوبيات الصهيونية بسبب دعمها لفيلم صريح الفضح لإسرائيل مثل (خمس كاميرات مكسورة)، ولم أكن أتصور أن فيلم (حراس البوابة) يقدم هو الآخر نقدا جادا للسياسات الأمنية الإسرائيلية من خلال حوارات مع ستة من الرؤساء السابقين لجهاز الشين بيت تحدثوا عن تجاربهم خلال قيادة الجهاز بدءا من حرب 1967 وحتى سنوات قليلة ماضية نفذ فيها الجهاز عمليات لإغتيال قادة حركة حماس.

ما أدهشني مع بدء الفيلم درجة الصراحة التي تحدث بها إبراهام شالوم أول رئيس لجهاز (الشين بيت) عن الأخطاء التي وقعت خلال قيادته للجهاز، مثل قتل الجهاز عام 1984 لفدائيين فلسطينيين قاموا بخطف أتوبيس ركاب داخل إسرائيل بدلا من معاملتهم كأسرى والحفاظ على حياتهم، ومع ذلك فقد اعتبرت ما قاله نوعاً من وضع الماكياج على وجه (الشين بيت) ليظهر للمشاهد الغربي أنه يحرص على النقد الذاتي ويأبه أصلا لسقوط أبرياء على أيدي قواته، تماما كما اعتبرت الحديث عن دور الجهاز في مكافحة الإرهاب الإسرائيلي مثل عصابات كاهانا لعبة رخيصة لتمييع الحقائق ومساواة الجاني بالمجني عليه، لكن رأيي تغير عندما بدأت نبرة نقد الفيلم تتصاعد لتطال جوهر وجود الجهاز نفسه الذي يؤدي إلى تعقيد الصراع مع الفلسطينيين بدلا من المساهمة في حله، ويعطي إنطباعا خاطئا للشعب الإسرائيلي بأن الحلول الأمنية يمكن أن تكون بديلا عن الحلول السياسية، بل إن أحد قادة الجهاز بعد أن سخر من حقيقة أن كل من قاد الجهاز كان يبدأ يمينيا متحمسا ثم يجد نفسه بعد التقاعد يساريا ميالا لنقد السلطة الإسرائيلية، أضاف أن كون الجهاز لا يمتلك إستراتيجية للعمل بل يتبع فقط تكتيكات وقتية، سيؤدي في النهاية إلى أن "تكسب إسرائيل كل معركة ومع ذلك فإنها ستخسر الحرب".

لا أريدك أن تتصور أنني أقول مثلاً أن قادة الشين بيت بكوا أمام الكاميرات معتذرين عما اقترفته أيديهم بحق الفلسطينيين، فأنا أعي أن كل ما وجهوه من نقد لاذع لسياسات إسرائيل الأمنية جاء رغبة منهم في تطويرها وجعلها أفضل، وبالطبع لست ساذجا لأتصور أن ما قاله قادة (الشين بيت) من أسرار يمكن أن يكون به ما يهدد أمن إسرائيل الآن، لكن ما أدريه أيضا أنهم انتقدوا أخطاء تفصيلية وقعت في عمليات محددة قام بها الجهاز بدءا من سبعة وستين وحتى الآن، بينما بُحّت أصوات مؤرخينا مطالبة بالإفراج عن الوثائق الرسمية لتاريخنا الحربي لنفهم ما جرى لنا طيلة سنوات صراعنا مع إسرائيل، ذلك الصراع الذي كان مبررا لإخراس كل معارض أو مطالب بالإصلاح والتغيير وإتهامه بالعمالة والخيانة، في حين كشفت الأيام أن حكامنا بفسادهم وقمعهم لإرادة المواطن وحريته كانوا يمثلون كنزا إستراتيجيا عاشت إسرائيل على خيره ولا زالت، أرجو مراجعة سلسلة مقالات كتبها المؤرخ المصري المرموق د. خالد فهمي صاحب كتاب (كل رجال الباشا) في صحيفة (الشروق) المصرية والتي سأشير منها إلى مقال نشره في 12 إبريل 2013 بعنوان (كيف نكتب تاريخنا الحربي)، قال فيها كلمات تلخص ما شعرت به عقب إنتهائي من مشاهدة فيلم (حراس البوابة): "إسرائيل دولة مهووسة بأمنها لدرجة الهستيريا ولكن هوسها بأمنها لم يمنعها من الإفراج المنتظم عن وثائقها العسكرية طالما مر عليها 30 سنة، لفتح حوار مجتمعي عن أخطاء الماضي وتحديد المسئول عنها، ليمكن العمل على تصحيح هذه الأخطاء والعمل على منع حدوثها، فيدرك القابع في السلطة أنه حتى لو غابت الرقابة الصحفية والبرلمانية على أعماله بسبب ما فستظل رقابة التاريخ مسلطة عليه وستتمكن الأجيال القادمة من الحكم عليه".

من قاعة السينما ذهبت إلى المقهى العربي الذي يتخذه كثيرون من عرب نيويورك مفرّاً مؤقتا إلى الوطن، حيث الشيشة والطاولة والدمنة والخروب والسحلب والشاي بالنعناع وصوت الست من السماعات وضحكة إسماعيل ياسين على الشاشة، وجلست أفك أحتقان مشاعري مستعيناً بصديق طويل البال، فاستمع إلي طويلا ثم قال بلهجة الناصح الأمين: أرجوك لا تنس أن العدو الصهيوني له تكتيكات خداعية تجعله ينتج أعمالاً مثل هذه لكي ينبهر به أبناء أمتنا فلا تقع في هذا الفخ، قلت له: شكرا على تنبيهك يا صديقي، لكن ياترى متى نبدأ في إنتاج أعمال نعترف فيها بأخطائنا وكوارثنا ونفتح ملفاتنا المطمورة عمداً، فقط لنبهر بذلك أبناء العدو ونوقعهم في فخ الإعتقاد أننا أصبحنا قادرين على النقد والمراجعة والتغيير. هز صديقي رأسه مفضلاً عدم الرد، وظللنا صامتين لفترة لم يقطعها إلا تنادينا إلى لعب دور دومينو فضلنا أن نلعبه "عادة وليس أميركاني" دعماً للهوية الوطنية وذلك أضعف الإيمان".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.