فيلم "الحبل السري" أين المشكلة؟

فيلم "الحبل السري" أين المشكلة؟

09 أكتوبر 2019
+ الخط -


عند الكتابة عن عمل أدبي أو فني نكون أمام طرق عديدة، تبدأ جميعها من قراءته أو مشاهدته أولاً، ثم يمكن لنا أن نصنّف معظمها تحت بندين، الأول أن نتكلم عن العمل بوصفه كياناً مستقلاً بذاته لا علاقة له بأي شيء خارجه، والثاني أن نتكلم عن العمل آخذين في الاعتبار الظروف الخارجية المحيطة به.

ما سأتكلم عنه اليوم هو فيلم "الحبل السري" من إخراج السوري الليث حجو وتأليف رامي كوسا، والذي كان من المقرر عرضه في إسطنبول غداً الخميس ضمن فعالية ثقافية قبل أن يقرر صانعو الفيلم إلغاء الفعالية بعد جدل كبير ودعوات للمقاطعة وتخريب الفعالية.

العمل هو فيلم قصير من 20 دقيقة تقريباً، يقدم قصة زوجين يرزحان تحت حصار قاسٍ، يحُكِمه عليهما قناص يقظ، الزوجة تعيش حالة مخاض والقناص يرفض السماح لها بالذهاب إلى حيث تستطيع الولادة مستخدماً الرصاص لغة للحوار، لاحقاً يقوم الزوج بالمهمة مستعيناً بتعليمات القابلة الواقفة على الطرف المقابل من الشارع.

يعرض الفيلم لتفصيلات وتقاطعات ذكية لمعاناة الحصار والحلول الممكنة للحصول على الطعام والماء والدفء وغير ذلك، ولا تغيب عنه أصوات الطائرات وإطلاق الرصاص. وكما ذكرت فقد أثار الفيلم عاصفة من الانتقادات وهجوماً عنيفاً من جمهور الناشطين الثوريين ومعسكر المعارضين عموماً، فأين المشكلة مع الفيلم؟

أتيحت لي فرصة مشاهدة الفيلم، وكما كان القناص يتربص بكل من يحاول الخلاص من الحصار جلست أتربص بالدقائق العشرين لأرصد ما يتيح لي حكماً سريعاً ومبرماً على الفيلم باعتباره يسوق لرواية النظام فأرتاح منه وتنتهي الحكاية، ولكنني للأسف لم أوفق بذلك، فالفيلم لا يقدم أية معلومة عن من يحاصر من، ولا يخبرنا إلى من ينتمي القناص، ولا يعرض أعلاماً أو رايات أو ملصقات أو شعارات، حتى أن العبارات التي خاطب بها الزوج أو القابلة القناص لم تحمل أية دلالة: لم يقولوا له يا عسكري أو يا شيخ مثلاً! حاول الفيلم تقديم حالة إنسانية بحتة محاولاً وبنجاح التهرب من فخ الانتماء والاصطفاف، وجعلنا نعيش لحظات التوتر التي تسبق الولادة ثم السعادة والفرح بالانتصار على القناص الذي حرص على استئصال الحياة ونشر الموت.

حسناً، في داخل الفيلم لم نجد شيئاً، لنبحث خارجه، لنبحث في تصريحات المخرج أو الكاتب. وكما كان الأمر في المرة الأولى كان هنا أيضاً، لا فائدة، فحديث المخرج والكاتب ومقابلاتهما المسجلة على يوتيوب لا تتضمن أية إشارة إلى الجهة التي حاول العمل إدانتها، ولعله لا يحاول إدانة أحد بعينه بقدر ما يحاول إدانة الحرب بمجملها، وللأمانة ما كنت أتوقع إيجاد شيء من ذلك أصلاً من الليث حجو مخرج العمل وهو من أخرج ضيعة ضايعة والخربة والواق واق وبقعة ضوء وغير ذلك من أعمال انتقدت سلطة النظام واستبداده بذكاء قارب أحياناً حد العبقرية عبر نصوص ناجحة. ولكن لماذا تم اختيار الزبداني مكاناً لتصوير العمل؟ كان بالإمكان تصويره في أي مكان آخر، لا يحتاج الأمر سوى بضعة بيوت مدمرة وهي متوافرة على امتداد الجغرافيا السورية بفضل نظام الأسد وآلته العسكرية، فهل في اختيار الزبداني دون غيرها لتصوير فيلم يتحدث عن الحصار معنى ما؟ وهي التي حاصرها النظام و"حزب الله" سنوات عدة وقتل العديد من أبنائها جوعاً وعطشاً؟

لم يذُكر في الفيلم مكان تصويره، ولكن بعض أبناء الزبداني ممن شاهدوا بعض الصور تعرفوا إلى بيوتهم وأحيائهم المدمرة.

إذاً، لا مشكلة حقيقةً في الفيلم لا بما تضمنته دقائقه العشرون ولا بما تضمنته تصريحات المخرج والكاتب، نعم هو لم يضع إصبعه في عين المجرم ولكنه لم يضعها في عين الضحية أيضاً كما فعل نجدة إسماعيل أنزور مثلاً بكل صفاقة في فيلمه فانية وتتبدد عندما صوره على أطلال مدينة داريا وهي المدينة التي لم تعرف داعش أو التطرف يوماً!

وإذا كان الأمر كذلك، فأين المشكلة؟

يرى كثير من الناشطين أن المشكلة هي في تصوير الفيلم في مناطق النظام وتحت سلطته، وهذا دليل كافٍ لتجريمه ووصمه بالتسويق لرواية نظام الأسد، ولكن هل هو حقاً كذلك؟

ألم يصوّر مسلسل "دقيقة صمت" في مناطق النظام وبعد الحصول على موافقته قبل أن يخرج كاتبه سامر رضوان ويقول إن هذا المسلسل كان معارضاً للنظام فيصبح في نظر جمهور المعارضة الذي يهاجم الفيلم الآن بطلاً وكاتباً منا وفينا؟

في إحدى الفيديوهات التي تتحدث عن عروض الفيلم المحدودة داخل سورية يظهر الفنان ياسر العظمة في دمشق بين جمهور الحاضرين، وياسر العظمة في دمشق لأنه يصور جزءاً جديداً من مرايا، والسؤال: هل سيقف جمهور المعارضة منها الموقف ذاته؟ هل سيقولون هذا العمل يحاول التسويق لرواية النظام وتم بموافقته؟ أشك بذلك فياسر فرفور وذنبه مغفور، وخاصة مع سيل المقاطع التي مازال يستعملها الناشطون من أجزاء مرايا طوال السنوات السابقة للتدليل على حال البلد وفساده وأحقية ثورته.

وزيادة في الإيضاح فإن الفيلم ليس ممولاً من النظام كما حاول البعض اتهامه، هو ممول من الاتحاد الأوربي وهو واحد من 15 فيلماً نتجت عن ورشات عقدت في بيروت لدعم حضور المرأة في الدراما السورية. فإذا لم تكن المشكلة في الفيلم ولا بما حوله ولا في تمويله فأين هي؟

المشكلة باختصار هي في مكان تصويره. في اتخاذ مسرح جريمة مكاناً للتصوير. هذه هي الإشكالية الحقيقية والتي تستحق المناقشة بمعزل عن الفيلم، القضية هي مشروعية استخدام ركام بيوت السوريين مكاناً لتصوير أعمال درامية وفنية. هل هذا مباح أم لا؟ وهل كان الموقف سيختلف لو كانت المعارضة هي من تصور الفيلم على أنقاض منازل الزبداني مثلاً؟ هل من تجارب عالمية مشابهة؟

منذ سنوات صورت مع عدد من الأصدقاء الهواة عدداً من السكتشات القصيرة تحت عنوان ضجيج، واحد منها كان عن المعتقلين، صورناه في قبو استخدمه النظام معتقلاً، وقُتِل فيه عدد من الأشخاص، بل وقُتِل فيه لاحقاً عشرات من جنود الأسد. لم يعترض أحد علينا حينها لاستخدام المكان، ولكنني لا أخفيكم بأنني شعرت في داخل القبو بالخوف، وربما برهبة المكان وصدقيته العالية التي ما كان سيمنحنا إياها أي مكان آخر.

في هذه النقطة يحاجج الليث حجو بأنه حصل على موافقة أصحاب المنازل التي تم التصوير بها بل وكانوا معه أثناء التصوير ولم يكن معه حينها أي ممثل لسلطة أمنية أو عسكرية.

وبرأيي هو ليس مطالباً بهذا التوضيح أصلاً، ويكفي أن يقدم لنا فيلمه قائلاً: شاهدوا فيلمي، شاهدوه يا جماعة قبل أن تقرروا حرقه ووصمه بالعمالة للنظام بمجرد أن من صنعه يعيش تحت سلطته، إذ يعيش تحت سلطته نصفنا الآخر نحن السوريين، فهل كلهم عملاء؟ ومع نجاح التحركات وإلغاء العرض في إسطنبول ربما يحق لي التساؤل: كم مرة نجحنا سابقاً في حرق أشخاص أو أعمال كان يمكن أن تخدم قضيتنا وموقفنا انطلاقاً من مبدئنا العتيد: فنجهل فوق جهل الجاهلين؟