ضربة مباركية لحائط البطولات (2/2)

ضربة مباركية لحائط البطولات (2/2)

09 أكتوبر 2019
+ الخط -
تحمس الكاتب مصطفى محرم للعمل في مشروع فيلم (حائط البطولات) مع المخرج محمد راضي، وتمنى أن يكون فاتحة لأفلام أخرى عن ما جرى في حرب أكتوبر من وجهة نظر سلاح الطيران وسلاح المدرعات وسلاح المشاة والصاعقة والمظلات، بدلا من تقديم فيلم شامل عن حرب أكتوبر قد يكون إنتاجه مستحيلاً في ظل الظروف المتخلفة التي تمر بها صناعة السينما المصرية، وبرغم كل الاختصارات التي قام بها مصطفى محرم ومحاولته ضبط إيقاع وزمن الفيلم، إلا أن حجم السيناريو النهائي ظل ضخماً.

أذكر بالمناسبة أن الصديق النجم كريم عبد العزيز حكى لي أن محمد راضي اتصل به وطلب منه المشاركة في السيناريو بعد اكتماله، ثم أرسل إليه السيناريو وقد كتب على غلافه اسم الشخصية التي يفترض أن يلعبها كريم، وقرأ كريم السيناريو الضخم، فلم يجد فيه ذكراً للشخصية التي أشار إليها محمد راضي، إلا في صفحة أو صفحتين، فاستغرب من ذلك التصرف، لكن احترامه لتاريخ محمد راضي الفني منعه من إعلان غضبه، وقرر أن يذهب إليه لفهم ما جرى، وحين أبلغه استغرابه من الموقف، فوجئ به يقول له منفعلاً وهو يخبط بيديه على السيناريو الضخم: "انت فاكر السيناريو هنا يا بابا؟"، وقبل أن يستوعب كريم الجملة، قام محمد راضي بالتخبيط على صلعته مكملاً: "لا يا بابا.. السيناريو هنا"، وبالطبع لم يكن ممكناً بعد عبارة كهذه أن يستمر كريم في المشروع، مهما كانت رغبته قوية في المشاركة في عمل وطني كهذا، ومهما كان تقديره لمحمد راضي وتاريخه الفني.
لا أدري هل حدثت تلك الواقعة في الوقت الذي كان مصطفى محرم يقوم فيه باختصار السيناريو وإعادة كتابته، أم أنها حدثت بعد أن قام بإعادة كتابته، حتى حظي بالقبول من العميد إبراهيم رشاد ومن محمد راضي وابنه إيهاب الذي كان سيساعد في إخراج الفيلم الضخم، لتبدأ جلسات التحضير والإعداد للعمل في بهو فندق النبيلة المطل على شارع جامعة الدول العربية، وبدأت سمعة المشروع الحسنة تتردد في الوسط الفني، فكان بعض الممثلين يمرون على فريق العمل ويعرضون رغبتهم في الاشتراك معه، وكان محمد راضي وابنه إيهاب متحمسين بالتحديد لإشراك الممثلين الذين عملوا معهم في تجربة (فتاة من إسرائيل) التي يبدو أنهم كانوا مثل مصطفى محرم معجبين بها للغاية، وهو رأي لم يشاركهم فيه الجمهور ولا حتى أغلب النقاد، وسأعود للحديث عن هذا الفيلم في موضوع مستقل بعنوان (الأسلحة الفاسدة في حرب السينما بين مصر وإسرائيل)، وهو عنوان تحقيق مفصل نشرته في مجلة (المصور) بعد عرض الفيلم، وقد أثار جدلا كبيرا وقتها، وسأعيد نشره في هذه المدونة قريبا بإذن الله.

مع اقتراب التصوير، كان فيلم (حائط البطولات) بحاجة إلى مساعدات ضخمة من القوات المسلحة من أسلحة وجنود وطائرات، لكي يخرج بشكل لائق، يقول مصطفى محرم إن محمد راضي أخبره في مرحلة التحضير أن المسئولين في القوات المسلحة وعدوه بتوفير كل ما يحتاجه، وأنهم لإثبات حسن النوايا جعلوه يقوم بتصوير عدد من منصات صواريخ سام 3 وهي تطلق هذه الصواريخ، لتكون مادة جاهزة يقوم باستخدامها في فيلمه، وقالوا له إنهم سيوفرون له بعض المستشارين العسكريين أثناء التصوير. وبعد انتهاء تصوير الفيلم وعملية المونتاج الأولي له، قام محمد راضي والمنتج المشارك الدكتور عادل حسني الذي انضم إلى الفيلم بعد فترة، بعرض نسخة عمل للفيلم على بعض قادة سلاح الدفاع الجوي ومدير الشئون المعنوية في القوات المسلحة، وظن صناع الفيلم أنهم أوشكوا على النزول بفيلمهم إلى دور العرض.
تعقدت الدنيا فجأة بعد أن قام مدير الشئون المعنوية بإبلاغ رؤسائه أن "الفيلم يقول إن سبب الانتصار في حرب أكتوبر هو سلاح الدفاع الجوي، وأن ذلك سوف يعرضهم للمساءلة والعقاب، لأنهم وافقوا على عرض فيلم لا يقول بأن السبب في انتصار حرب أكتوبر هو الضربة الجوية بقيادة بطل أكتوبر الرئيس محمد حسني مبارك". يعتقد مصطفى محرم أن وزير الإعلام صفوت الشريف علم بما جرى، وأدرك أن الفيلم سيسبب له الكثير من المتاعب مع حسني مبارك، لأن اتحاد الإذاعة والتلفزيون كان قد ساهم في إنتاج الفيلم، ولذلك آثر السلامة وقام بتأجيل عرض الفيلم إلى أجل غير مسمى.
حاول المنتجان محمد راضي وعادل حسني حل تلك الأزمة التي نزلت عليهم كالصاعقة، خاصة أن الأمر وصل بالفعل إلى حسني مبارك، فاستنكر ما حدث، وكما يقول مصطفى محرم بالنص: "ذكر لي عادل حسني بأنه كان في زيارة لباريس أثناء وجود حسني مبارك في زيارة رسمية، وفي إحدى لقاءات حسني مبارك مع المصريين المقيمين في فرنسا، ذهب عادل حسني لحضور هذا المؤتمر، وعندما وجد نفسه بعد المؤتمر أمام الرئيس حسني مبارك فإذا بمبارك ينظر إليه في استنكار ويضرب بيده على كتف عادل حسني وهو يصيح في غيظ: "نصر أكتوبر الضربة الجوية"، ثم ابتعد عنه وتركه واقفاً في ارتباك وقلق، وأدرك عادل حسني أن الفيلم لن يعرض عرضاً تجارياً إلا إذا مات حسني مبارك أو بعد زوال حكمه بأي طريقة وكان أمله في الموت أكثر من أمله في زوال حكمه".
لكن محمد راضي وعادل حسني رأيا أنه سيكون من العبث انتظار رحيل مبارك، خاصة بعد ما كان يسود الشارع المصري من إحساس بحتمية توريث حسني لنجله جمال، لذلك فكرا في معالجة الأزمة، بتصوير مشاهد تبين تفوق سلاح الطيران في حرب أكتوبر، وإظهار حسني مبارك أثناء قيادته لسلاح الطيران، وطلب محمد راضي من مصطفى محرم أن يكتب هذه المشاهد، لكنه رفض معتبراً أن في ذلك تزييف للتاريخ لن يشارك فيه، وكان مصطفى محرم معروفاً في أكثر من عمل بمعارضته لثورة يوليو والحكم العسكري، كما قام بكتابة مقال معارض لحسني مبارك في صحيفة (الغد) التي كان يرأس تحريرها الدكتور أيمن نور، وقد أثار جدلاً كبيراً وقت نشره، وتلقى مصطفى محرم تهديدات أمنية بسببه، فقرر عدم الاستمرار في كتابة المقالات المعارضة في الصحيفة، لكنه ظل يكتب مقالات معارضة أقل حدة في صحيفة (نهضة مصر).

من أجل إنقاذ فيلمه، قرر محمد راضي تخطي مصطفى محرم وقام بكتابة المشاهد التي انتوى إضافتها للفيلم، ومن تمام المسخرة أن عادل حسني قرر تمثيل دور حسني مبارك، ربما لكي يوصل تأييده الكامل إلى الرئيس الغاضب منه، ومع أننا لم نره في تلك الشخصية، إلا أن مصطفى محرم يقول إنه شاهد لعادل حسني صوراً وهو يرتدي الثياب العسكرية فلم يتمالك نفسه من الضحك.
بذل محمد راضي وعادل حسني كل ما بوسعهم لإخراج الفيلم إلى النور بعد ثورة يناير، وتمت إعادة عرض نسخة العمل على قيادات الجيش، فأمروا بالإفراج عن الفيلم، وأعلن مهرجان القاهرة السينمائي الدولي اختياره ليكون فيلم افتاح المهرجان، ثم تم التراجع عن القرار بسبب ما أثير عن رداءة الفيلم، وتم عرضه خارج المسابقة، ولم يتمكن مصطفى محرم من مشاهدته لإصابته بنزلة برد، لكنه قال إنه طالع كل الصحف والمجلات فلم يجد فيها مدحاً أو قدحاً للفيلم، "ومر أمام الجميع من جمهور ونقاد مرور الكرام، وهذا أسوأ ما يلاقيه أي فيلم سينمائي".
بعد سنوات من الضربة المباركية التي تلقاها فيلم (حائط البطولات) وأجلت خروجه للنور، وبعد ثورة يناير 2011 عاد الحديث بقوة عن أفلام حرب أكتوبر وأسباب عدم ظهورها للنور، خصوصاً بعد أن اتسعت في السنوات الأخيرة ظاهرة إنتاج أفلام ذات ميزانية ضخمة، وتصاعد إقبال الجمهور على الأفلام السينمائية التي تقدم موضوعات بعيدة عن الكوميديا، وحين أعلن المخرج شريف عرفة قبل عامين أنه على وشك أن يحقق حلمه الذي راوده طيلة ثلاثين عاما بتقديم فيلم عن حرب أكتوبر، وهو الحلم الذي كاد يتحقق خلال الفترة التي تولى فيها اللواء سمير فرج مسئولية الشئون المعنوية في القوات المسلحة في عهد حسني مبارك، لكن المشروع تعثر بعد ذلك لأسباب لم يعرفها شريف عرفة، لكنه قال إن الأمر مختلف هذه المرة، ويبدو أكثر جدية، وأنه حصل هو والمنتج هشام عبد الخالق على الضوء الأخضر من القوات المسلحة، وعلى وعود قاطعة بتوفير كل الإمكانيات اللازمة لإنتاج فيلم "على مستوى عالمي".


مع انتشار أخبار الفيلم المرتقب في الصحافة، عدت إلى تذكر نظرية المؤامرة التي تحدثت عن الملحق السري في اتفاقية كامب ديفيد، والتي سيسقطها إلى الأبد ظهور مثل هذا الفيلم، خاصة وأن الجيش لم يعد مجرد مؤسسة ذات نفوذ ضمن الدولة، بل أصبح لدولة ذات نفسها بعد حكم عبد الفتاح السيسي للبلاد، ولم يتوقف توغله في الحياة المدنية عند مجالات المقاولات والمشروعات القومية والطب، بل وأصبح الآمر الناهي في السينما والدراما والصحافة، وبالتالي فإن قرار إنتاج فيلم عن حرب أكتوبر، ينفي وجود موانع سيادية سرية أو عرفية، ويفتح الباب للتساؤل عن سر عرقلة كل المشروعات التي حاول الكثيرون تقديمها عن حرب أكتوبر في سنوات حكم مبارك الثلاثين.
لكن نظرية الملحق السري المانع لعمل أفلام عن حرب أكتوبر، بدت أقوى من محاولات التخلص منها، لأن شريف عرفة بدأ بعد فترة من بدء التحضير للمشروع، في الحديث عن تعذر إمكانية إنتاج فيلم عن حرب أكتوبر نفسها، بسبب ضخامة التكلفة الإنتاجية التي يمكن أن يتطلبها الفيلم، وقال إنه قام بكتابة قصة بعنوان (الممر) عن بطولات قوات الصاعقة المصرية خلال حرب الاستنزاف، مع أنه كان يمكن أن يلجأ إلى القصة التي كتبها اللواء نبيل أبو النجا عن بطولات مقاتلي الصاعقة في حرب أكتوبر، والقصة موجودة لدى الجهات المختصة في القوات المسلحة، وحاصلة على كل الموافقات اللازمة، ولا يتطلب إنتاجها إمكانيات ضخمة أكثر من التي تم بها إنتاج فيلم (الممر) بالفعل، والذي حقق إيرادات ضخمة تدل على تعطش الجمهور إلى هذا النوع من الأفلام، بغض النظر عن أي ملاحظات على مضمونه وطبيعة الرسالة التي يهدف منتجوه لتوصيلها الآن بالذات.

من يدري؟ ربما يكون شريف عرفة قد قرأ قصة اللواء نبيل أبو النجا ولم يتحمس لها، لكن تحول مشروعه المفاجئ من الحديث عن حرب أكتوبر إلى الحديث عن حرب الاستنزاف يعيد السؤال من جديد عن سر تعطيل ـ أو تعطل إذا أحببت ـ إنتاج أفلام عن حرب أكتوبر بالتحديد، وهو سؤال سيعيد نظرية الملحق السري ثانية إلى الأذهان، حتى يخرج إلى النور المشروع الذي أعلنه مؤخرا شريف عرفة، حين قال إنه يعد لفيلم عن حرب أكتوبر بعنوان (الثغرة)، وهو مشروع كتب البعض أنه يهدف إلى تقليل الضجة التي أثيرت حول تداعيات الثغرة التي فرملت من تقدم الجيش المصري في الحرب، ليتخذها البعض وسيلة لوصف حرب أكتوبر بأنها "نصف انتصار"، أو أنها "حرب تحريك" على حد التعبير الذي استخدمه الكاتب محمد حسنين هيكل والكاتب يوسف إدريس وغيرهما.
لا أدري إذا كان هذا المشروع جاداً بالفعل أم أنه مجرد فرقعة إعلامية، وإن كان جاداً فلا أدري كيف سيسير شريف عرفة درامياً وفنياً في هذه المنطقة الملغومة التي لا يحب الكثيرون ذكرها لا بالخير ولا بالشر، مع إن بقائها منطقة محظورة على النقاش العام لا يمكن أن يستمر إلى الأبد، وستفتح ملفاتها يوماً ما حين تعلن حالة العسكرة العامة للمجتمع إفلاسها، ويدرك المصريون أهمية قراءة تاريخهم دون قيود ولا محظورات، وحينها فقط سنعرف الإجابة على كثير من الأسئلة المهمة المتعلقة بحرب أكتوبر، ومن بينها أسئلة: لماذا لم نر فيلماً يليق بحرب أكتوبر؟ ولماذا تعطلت كل المشروعات التي حاولت ذلك عبر العقود الماضية؟ وهل كان لذلك علاقة بملاحق سرية في اتفاقية كامب ديفيد؟ أم برغبة سيادية في عدم إغضاب الحليف الاستراتيجي؟ ومتى نرى أفلاماً حقيقية عن البشر الذين شاركوا في الحرب، دون أن تكون تلك الأفلام مرتبطة بمشروع نهب مصر بشرعية الضربة الجوية، أو موظفة لخدمة احتلال الجيش للحياة المدنية؟
وإلى أن نجد إجابات على تلك الأسئلة، يدّينا ويدّيكم طولة العمر والبال والأمل.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.