أن يشنق طفل نفسه

أن يشنق طفل نفسه

08 أكتوبر 2019
+ الخط -
بعد أن حطّت بنا الطائرة على الأراضي الفرنسية، وقفنا في طابور ليتفقد أحد رجال أمن المطار أوراقنا. الأطفال وأمهم يتحركون برشاقة وفضول، وأنا خلفهم أنوء تحت ثقل حقائب الكتف العديدة. مددت الأوراق للموظف الذي تفحّصها جيداً، ثم رتّبها بهدوء أتاح لي بعض الوقت لتجفيف قطرات العرق التي بلّلت وجهي. وضع الموظف أوراق الأطفال أولاً، ثم أوراق أمهم، وبابتسامة عريضة رحّب بهم في فرنسا، ومدّ الأوراق لأمهم، رغم أني من أعطاه إياها، ثم اختفت ابتسامته ونظر إليّ بوجه نصف ميت ومدّ لي ورقتي منفردة وكأنها مصابة بالجرب.

هكذا إذاً، أنا هنا في المرتبة الثالثة، ولو كان لدينا كلب لكنت في المرتبة الرابعة، بحسب ما أكد لي صديق رويت له الحادثة.

بعد أيام قليلة كان على الأطفال أن يلتحقوا بالمدرسة، وإلا جرت ملاحقتنا قانونياً، واكتشفت حينها أن التعليم ليس مجانياً في سورية فقط، كما اعتادت وسائل إعلام النظام القول، وليس من منجزات الحركة التصحيحية، وليس مكرمة يجود بها القائد على أطفالك ليسبّحوا بحمده عندما يكبرون، بل هو حق لك ولأطفالك في معظم دول العالم الكافرة اللعينة، تقدمه لك الدولة صاغرة، وبأفضل المستويات الممكنة.
ولم يمضِ على ارتياد الأطفال المدرسة أيام قليلة، حتى أجاب الصغير عن الأسئلة الأزلية المغفلة: تحب البيت أكثر أم المدرسة؟ المدرسة، تحب الماما أكثر أم المس؟ الماما، تحب المس أكثر أم البابا؟ المس! وهكذا حللت في المرتبة الثالثة للمرة الثانية!
في الطريق اليومي إلى المدرسة يتبادل الأطفال التحية والتلويح مع الأطفال الآخرين. خليط عجيب من الألوان والأعراق البشرية، يذكر لي أطفالي أسماء أصدقائهم التي لا أحفظها أبداً لفرط سعادتي بأنهم لم يشعروا بأي غرابة من ألوان بشرتهم البيضاء والصفراء والسوداء. بل كأنهم لم يلحظوا هذا الاختلاف أصلاً، ولم يشاهدوا سوى الضحكة الطفولية الصباحية البريئة.

ومنذ أسابيع، وفي فورة غضب، ضربتُ الصغير بعد موشح نقّ صباحي أودى بصبري. شعرت بالغضب من نفسي على فعلتي، لكن الأخطر من ذلك أنني شعرت بالخوف من المدرسة، ماذا لو انتبهت المعلمة إلى الاحمرار على خده؟ وعبثاً حاولت إقناعه بعدم الذهاب إلى المدرسة يومها، ولم تنفع معه جميع المغريات من الشوكولا، إلى حديقة الحيوانات، وهكذا أمضيت الطريق أروي له النكات ليضحك وأقرصه من خديه الصغيرين وأبالغ في تقبيله في محاولة لإخفاء آثار الجريمة.

ولكن لماذا أكتب لكم هذا كله؟

أكتبه لأن داء المقارنة اللعين يرفض مغادرة عقلي، ويورد أمامي هذه الصور المفككة المتناثرة وأنا أقرأ خبراً عن انتحار طفل سوري شنقاً في مدينة تركية بسبب المعاملة العنصرية التي تلقاها من معلمه وزملائه في الصف. توجه الطفل إلى مقبرة المدينة، نظر في قبورها مليّاً، وعندما لم يبدر من أصحاب هذه القبور أية لفظة عنصرية بحقه، قرر الانضمام إليهم.
لا شك في أنه لم يكن يحب الأستاذ أكثر من البابا، ولم يكن يحب المدرسة أكثر من البيت، ولم يكن يحب أصدقاءه وهم مثله، باللون الشرق أوسطي اللعين ذاته.

وفي مدينة تركية أخرى يتلقى طفل سوري طعنة أخطأت حياته، لأنه أجاب عن سؤال القاتل: "أنت سوري؟" بنعم. وقبل مدة حدثتني صديقة في تركيا أيضاً عن سحبها ابنها من المدرسة للسبب ذاته، إلى جانب العديد من الحكايات المشابهة ومن مدن مختلفة شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.
وأمام هذه الحوادث، يُصاب المجتمع كما في كل مرة بالصدمة والذهول، ويتساءل: من أين جاءت هذه العنصرية؟ حقاً من أين جاءت؟ هل يولد الأطفال عنصريين؟ ربما، إذ يؤكد كثيرون ممن خلعوا عن وجوههم ثوب الحياء، أن لا علاقة للأسرة بذلك، ولا للمدرسة، ولا للحزب الحاكم، ولا للدولة، ولا لوسائل الإعلام المصابة بالذهول... فمن أين جاءت العنصرية لدى هؤلاء الأطفال الملاعين؟

تركيا ليست أول الملتحقين بركب العنصرية، بل لعلها آخرهم، فقبلها لبنان، الذي نبش منذ أسابيع جثمان طفل سوري لم يسترح فوق تراب لبنان، فقرر أن يستريح تحته، ولكن هيهات، فالعنصرية كانت بالمرصاد!
ولا يمكننا هنا أن نفوّت ذكر العديد من دول الخليج التي ترفض دخول الأطفال السوريين وغيرهم إلى المدارس العامة، فيضطر الأهل إلى البحث عن مدرسة خاصة تخاف الله في أقساطها. نعم، هكذا تنعكس الحكاية في "أمة اقرأ"، إذ يأتي الطفل اليوم فيقول: أريد أن أقرأ، فتجيب العقول العطنة المريضة: انقلع ولاك، ما أنت بقارئ.

أما إدلب، فهي ليست بحال أفضل، حيث يعاني مئات آلاف الأطفال من خطر توقف العملية التعليمية بعد امتناع المؤسسات الراعية عن تقديم التمويل اللازم، تاركة إياهم صيداً سهلاً لمعسكرات التدريب في التنظيمات المتطرفة. والحال أتعس في مناطق سيطرة نظام الأسد، حيث تعود العسكرة وعبادة القائد الملهم التاريخي لتُدحش في رؤوس الأطفال عنوة.

ولكن هل سأل جيش الحمقى هؤلاء أنفسهم: إلى أين تدفعون هؤلاء الأطفال؟ هل تظنون حقاً أنهم جميعاً سيتدلون من باب مقبرة؟ البعض قد يفعل، نعم، ولكن البعض الآخر ستعجبه فكرة الحبل والمقبرة، ولكن ليس لرقبته، بل لرقابكم أنتم، وحينها لا أملك إلا أن أقول لكم: دجاجة حفرت على رأسها عفرت!

أما زلتم هنا؟ هل تنتظرون من هذه التدوينة حديثاً عن مخاطر كل هذا؟ حديثاً عن المستقبل الأسود الذي ينتظر أطفالنا؟ حديثاً عن مخاطر عربدة العنصرية في المنطقة؟
لا يا سادة، فجميعنا نعرف الإجابات حق المعرفة، ولكننا نحاول التهرّب، نحاول التهرب من الإجابة، وربما من المسؤولية عن تعليق أطفالنا بأيدينا على أعواد المشانق والتظاهر بالبكاء، لا حزناً صادقاً عليهم، بل رغبة في أن نسجل موقفاً ويسمع العالم حزننا، العالم الذي لا تعنيه دماؤنا أو أطفالنا أو حروبنا العبثية كلها على حد تعبير السيد ترامب.

سأتوقف هنا الآن، لا فائدة من كل ما كتبت، سأذهب لأتفقد أطفالي النيام، وفي الصباح سينطلقون بكل لهفة إلى مدرسة يحبونها، وسأهز رأسي طوال الطريق موافقاً على كل الهراء الذي يقولونه، فيما سيكون عقلي مشغولاً بمقارنات لا تنتهي بين أشتات أمة اقرأ وبقية أمم الأرض.