هوامش على شبّورة الحنان المفاجئ

هوامش على شبّورة الحنان المفاجئ

07 أكتوبر 2019
+ الخط -
(1)

أشفق عليهم كثيراً، وأستغرب ردود أفعالهم أكثر، ولأنهم أصدقاء عزيزون على القلب، لا أجرؤ على اتهامهم بالسذاجة، بل أسميهم "الناس الطيابة"، وأحاول غض البصر عنهم حين يتصورون قدرتهم على كشف تناقضات الكائن السيساوي ودفعه إلى مواجهة نفسه بحقيقة خداع الدولة له، بعد أن اكتشف قدرة الدولة على تقديم تنازلات سياسية واقتصادية، لمجرد أن بضعة آلاف من المواطنين أروها العين الحمراء وذكروها بأيام يناير على خفيف جداً، وبعد أن رأى كبار طباّلي النظام ورقّاصيه يرتدون ثياب الإصلاح السياسي ويتحدثون عن ضرورة مراعاة الفقراء والغلابة وأهمية المعارضة للوطن ويذكرون المواطنين بأن هناك معارضين أنقياء من غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

يتصور "الناس الطيابة" أن ذلك سيجعل أصدقاءهم وأقاربهم وجيرانهم من السيساوية، ينتبهون إلى أهمية المعارضة وقدرة التظاهر على تحسين أحوال المواطن، وأنهم إذا لم يشتركوا في أي مظاهرات قادمة، فلن يقوموا على الأقل بتخوين المشاركين فيها، لعلهم ينجحون في الحصول لهم على بعض من حقوقهم التي تهدرها الدولة، لكن "الناس الطيابة" يفاجئون بأن السيساوية متمسكون بكل ما رزقوا به من كلاحة وتناحة، وأنهم يبتسمون لهم ابتسامات صفراء ويقولون لهم أن ما قام السيسي بمنحه للمواطنين عقب التظاهرات، كان مكافأة لأنصاره لأنهم لم ينزلوا ضده ويخربوا البلد، وأن تراجع الدولة هو ثمن لرضاهم وتأييدهم وليس ثمنا لغضب الأقلية المأجورة المندسة.

بعد كل ما جرى في النهر من دماء، لا زال بعض "الناس الطيابة" يستغرب وجود كائنات سيساوية كثيرة تواصل تأييد النظام وتعلن رضاها عن قمعه، برغم أنها ليست مستفيدة منه مثل ضباط الجيش والشرطة وضباط القضاء والنيابة وأقاربهم ومحاسيبهم، بل على العكس ربما تضررت مصالحهم بشكل مباشر من سياسات النظام الاقتصادية والاجتماعية، مما يجعل المظاهرات والضغوط المعارضة أمرا مفيدا لهم، لأنه قد يدفع الدولة للتراجع عن تضييق أرزاقهم وتهبيب عيشتهم، وهو ما حدث بالفعل في الأسبوع الأخير، ومع ذلك لم يتغير موقف الكائنات السيساوية من المظاهرات والمعارضين، فلا زالوا مصممين على تخوين المعارضين والشماتة فيما يتعرضون له من قمع.

يستغرب "الناس الطيابة" ذلك الموقف الذي يجعل الإنسان يقف ضد مصلحته، وينسون أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، لأنه يحيا أيضا بلذة الانتماء للطرف الباطش، ينسون أن الوقوف في طرف السلطة التي تقمع الناس وترميهم في السجون وتنكل بأهاليهم، يلعب في ترترة المواطن المنحط، ويداعب "جي سبوتّ" الوطنية الكامن بين جوانحه، ويشعره بالانتماء لمعنى أكبر منه، فيشعر بالنشوة كأنه ضابط يقف في كمين ليرعب أهل الميكروباصات، أو جلاد ينتزع اعترافات بالباطل في معتقل، أو "محمود سيسي" يتصل بالمذيعين والكتاب ليمسح بهم البلاط على تراخيهم، ويصدر لهم التعليمات الجديدة التي يجب أن يجتهدوا في تنفيذها دون ابتكار ولا تجويد، يمكن أن يعكر مزاج والده المتعكر دائماً.

إذا كنت من "الناس الطيابة المليانين صبابة"، فإنك لن تفهم هذا النوع المريض من النشوة أبداً، لأن إنسانيتك وعاديتك وطبيعية مشاعرك، ستجعلك تقرف من الاستمتاع بحزن الآخرين وأساهم، ولذلك إذا كنت مؤمناً بضرورة الكلمة الطيبة وبدورها في التغيير، أنصحك بأن توفر كلمتك ووقتك لمن يرتبط تأييدهم للسيسي بالخوف من غياب البديل أو بالأمل في التغيير التدريجي أو باعتقاد أن هذه هي الطريقة الوحيدة للاستقرار والبعد عن الفوضى، فقد يجدي الحوار بالحجة والمنطق مع بعض هؤلاء، خصوصاً حين يدركون خطورة نظام السيسي على مصالحهم ورزقهم واستقرار البلد على المدى المتوسط والبعيد، أما من يرتبط تأييدهم للسيسي بقدرته على القمع والقتل، فمهما ضيعت وقتك في إقناعهم والحوار معهم، سينفضون عنك ليذهبوا إلى حساب مواطنة تسأل عن ابنها المختفي قسرياً، ليكتبوا لها بكل غلظة: "عشان ما عرفتيش تربيه.. تلاقيه انضم لداعش"، أو سيذهبون إلى مواطن يبكي على حال أخيه المعتقل ظلماً ليقولوا له بكل جلافة: "أحسن عقبالك"، لأنهم يعتبرون مثل تلك الخسة والدناءة انتصارات رفيعة مبهجة، تكمل انتصار قائدهم المعظم و"انتصار مراته وعياله" على البلد وناسها ومستقبلها.

(2)

جريمة إذاعة اعترافات غير قانونية لا يعلم أحد ظروف انتزاعها من أصحابها، لم يرتكبها فقط ضابط الأمن الواطي الذي يتصرف دون خوف من رقيب ولا حسيب، ولم يرتكبها فقط الإعلامي المنحط الذي يأخذ التوجيهات بالتليفون من الضابط المناوب، ويعتبر اتصال الرئيس وابنه بين الفواصل أهم إنجازاته المهنية، بل يرتكبها معهم وقبلهم المواطن الذي يصدق كل ما تقوله الجهات الأمنية، ولولا وجود هذا المواطن لما تجرأ الضابط على التزوير والإعلامي على الوطيان.

قبل المواطنين الأردنيين والمواطن السوداني والمواطن الهولندي، ألف حمدٍ لله على نجاتهم من قبضة نظام السيسي، كان هناك مواطنون مصريون أذيعت لهم اعترافات قالوا في المحكمة أنها انتزعت تحت التعذيب، ومع ذلك لم يصدقهم الكثير من ابناء بلدهم، بل صدقوا الاعترافات التي صورت وأذيعت خارج إطار القانون، مثلما صدقوا الدولة حين قامت بتصفية خمسة مواطنين مصريين، وزفت البشرى إلى الشعب أنهم يستحقون القتل لأنهم كانوا وراء مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وحين اتضح كذب الدولة التي قُتِل ريجيني في أقبيتها، لم يكف أغلب المواطنين عن تصديقها مع كل جريمة تصفية ترتكبها خارج القانون، لأنهم يعتقدون أن تلك التصفية هي التي تحميهم من الإرهاب، ولم يفكروا للحظة في أنهم يمكن أن يكونوا عرضة للتصفية أو التعذيب بعد القبض العشوائي أو الاختفاء القسري طبقاً لمزاج الضابط والأمين والمخبر.

حين ينكشف كذب أجهزة الأمن في واقعة خطيرة كهذه، سيبادر المواطن ـ لو كان لديه بقية من ضمير ـ إلى إخلاء مسئوليته ولو بينه وبين نفسه، فيقول لنفسه إنه لم يكن الذي ارتكب الجريمة، فهو لم يقم بالتصفية ولم يمارس التعذيب ولم يرتكب الإخفاء القسري، لكنه في الحقيقة يغالط نفسه ويكذب عليها، لأن القتل والتعذيب والاختفاء القسري والقبض العشوائي، لم يكن حدوثهم ممكنا بهذه السهولة المزرية، لو لم يكن المواطن قد منح السلطة الغطاء الشرعي اللازم بتصديقه الدائم لها، خاصة حين كان لا يزال صوته مسموعاً ومؤثراً، وإذا كان قد تنازل بنفسه عن ذلك الصوت المسموع والمؤثر، حين صدّق أن ذلك مهم من أجل الوطن، وأصبح رفع صوته يمكن أن يعرضه للتصفية والتعذيب والإخفاء القسري، فأضعف الإيمان يقتضي منه أن يتوقف عن التطوع بتأييد الظلم، لعل ذلك ينجيه من عواقبه، لو تصادف وجوده ذات مرة في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ والبلد الخطأ.

(3)

وسط كل هذا الصخب والضجيج والقلق والتوتر والترقب والقرف والحزن، عليك أن تتذكر حقيقة بسيطة ومهمة، هي أن شراسة الحاكم وقسوته وقمعه، لم تكن من أجل الحفاظ على الدولة وبناء الوطن، مثلما كانت الميكروفونات المختلفة تدعي وتصدعك بذلك أطراف الليل وآناء النهار، بل كانت من أجل الحفاظ على المصالح والمكاسب والقدرة على تقسيم السريقة بهدوء. وحين انكشفت بعض ملامح السريقة بسبب الطمع أو العنجهية أو يقظة الضمير أو لأسباب أخرى ربما، حاول الحاكم اللص أن يغلوش على ما جرى بالزعيق والتبريق وقليل من التلزيق، وحين اتضح له ولرجاله أن الشارع لم يفقد نبضه تماماً، وأنه يمكن أن يغضب من الاستكراد واللزق على القفا وأنه يمكن أن ينفر من الإصلاح على الناشف دون مراهم ولا مسكنات، ويمكن أن يهدم اللعبة التي وافق على لعبها بمزاجه من البداية، قام الحاكم اللص بتغيير طريقته على الفور، واتضح أنه مستعد لأن يداعب شعبه ويلاعبه ويقدم لنفسه ولابنه قبل مباشرة الإصلاح، وأنه يمكن أن يرمي الفتات لشعبه لكي تكتمل السريقة، عملاً لقول الحكيم القديم: "كل بس من غير ما تحِفّ".

ربما تمنعك الظروف من الإطاحة بالحاكم اللص وشركائه، لكن عليك أن تتذكر أن احتفاظك بمشاعر الاحتقار له، في السر إن لم تستطع في العلن، هو أمر مهم ونبيل ومحترم ويزعج الحاكم اللص بشدة، خاصة بعد أن تعود طيلة السنوات الماضية على تعامل الناس معه كبطل "شريف أوي وصادق أوي وأمين أوي"، وعليك أن تتذكر أن ذلك الاحتقار هو مجرد بداية للتكفير عن خطيئة تصديق أن هناك بطل منقذ لا تفسده السلطة المُطلَقة، وأن ذلك سيدفعك للتفكير ألف مرة قبل أن تعود من جديد لتأييد التفويض العمياني والحفر على الناشف، هذا بالطبع إذا كنت مواطناً تحرص على أن تعيش في بلد بحق وحقيق، ولا تفضل الحياة في ثكنة أو تكية أو زريبة.

والله أعلم.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.