رسالة من الجندي المجهول!

رسالة من الجندي المجهول!

06 أكتوبر 2019
+ الخط -
"القادة رئيس وأعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة.. تحية طيبة وبعد: 

أتقدم لكم، أنا الجندي المجهول، بخالص التحية، ثم بصادق الرجاء ألا يأتي أحد منكم لزيارة ضريحي في هذا اليوم العظيم كما جرت العادة كل سنة، فأنا اليوم لن أكون هناك، نعم، لقد قررت اليوم أن أغادر هذا الضريح الذي أسكنوني فيه منذ سنوات بعيدة، ليزورني فيه اللصوص والسماسرة والأفاقون والمتاجرون بالأوطان ومصاصو دماء الشعوب. يقف كل منهم على ضريحي بضع دقائق يتمتم فيها بآيات لا تجاوز حنجرته، وهو يحرص على أن يكسو وجهه بتعبيرات "متحازنة" تلائم هَمّة المصورين المصاحبين له، ثم بعدها يصافح معاونيه في نهب البلاد والعباد، دون أن يقف أحدهم ولو للحظة، ليسأل عن معنى وجودي في هذا الضريح، وعما فعلوه ببلادي طيلة العام الذي مضى منذ آخر زيارة أقضوا فيها مضجعي، هذا ليس مهما بالنسبة لهم، المهم أن يظهر للناس أنهم يقدرون تضحيات الجنود ويقدسون دماء الشهداء، وما إلى ذلك من الكلام الإنشائي الذي يقولونه للكاميرات على مشارف ضريحي، قبل أن يتركونني ليعودوا من جديد إلى بلد يستبدون بها، وشعب يفعلون به الفحشاء، وتاريخ يهينونه، وحاضر يعربدون فيه، ومستقبل جعلوه وقفا لذريتهم من بعدهم، وأظل أنا كما أنا، مجهولا متجاهَلا منتهَك الحقوق ضائع الأحلام مسروق الإنتصارات، أسأل نفسي لماذا لم تذق بلادي ثمار ما حاربت من أجله، وهل ضحيت بحياتي ليكتب لهذه البلاد أن تنتقل من موت إلى موت. 

لم أعد أذكر كم حربا خضتها، ولا أريد أن أتذكر فأقلب المواجع على نفسي، لست نادما على كل الحروب التي قاتلت فيها، لو عاد بي الزمن لقاتلت ثانية بنفس الشجاعة والبسالة، لكنني كنت سأبدأ بعدو آخر غير الذي حاربته، كنت سأبدأ بالعدو الذي يستهين بدمي ولا يقدره حق قدره، كنت سأبدأ بالعدو الذي يحول أشلائي إلى سلم يصعد به إلى كرسي الحكم، كنت سأفكر ألف مرة قبل أن أفرح بنصر انتزعته من فم العدو، لأستمر في محاربة من سيسرق هذا النصر من أولادي ليحوله إلى أصفار كثيرة ترقد في بنوك البلاد الغريبة، بينما يظل أولادي يصارعون الفاقة والمهانة وكسرة النفس. 

لم أعد أذكر كم نصرا سُرِق مني حتى اليوم؟ كم قطرة دم سالت مني لتصبح مداداً تُكتب به شهادات التكريم للجنرالات المتخمين بالنياشين والأوسمة؟ كم حلما تحقق لبلادي من بين كل تلك الأحلام التي تقاسمتها مع رفاق سلاحي في ليالي الجبهة الموحشة ونحن نتأرجح بين الخوف والرجاء؟ إلى أي مدارس ذهب أولادي؟ وفي أي مستشفيات عولج أبي ورقدت أمي؟ هل نال أهلي وناسي الكرامة التي حاربت من أجلها؟ هل ارتفعت رؤوسهم عالية إلى السماء أم أخفضها الفقر والقهر إلى سابع أرض؟ وما الذي جرى للأرض التي رويتها بدمائي؟ من باعها ومن اشتراها ومن نال خيرها في نهاية المطاف؟

 

أسئلة كثيرة أثقلت صدري وأقلقت راحتي، فقررت ألا أبقى هنا أبدا بعد اليوم، حلفت بدمي أن أخرج إلى كل ميادين التحرير في طول مصر وعرضها، لأبحث عن أبنائي وبناتي الذين قرروا، في الخامس والعشرين من يناير، أن يستردوا بأيديهم العارية كل نصر سرقه منهم الطغاة، سأجلس معهم على أسفلت الميادين التي كانوا يجلسون فيها، دون أن يهابوا الموت، سأحكي لهم عن كل تضحية عشتها أنا وكل رفاق سلاحي، ولم يسجلها المؤرخون الذين لم يكتبوا إلا عن بطولات القادة، سأحكي لهم عن الأرواح التي ضحى بها أبناء الفلاحين والعمال والأفندية، لكي يصنعوا وطنا كبيرا بحجم تضحياتهم وأحلامهم، سأحكي لهم كثيرا عن ذكرياتي مع أحمد عرابي ومحمود سامي البارودي وعزيز المصري وأحمد عبد العزيز ويوسف صديق وعبد المنعم رياض ومحمد فوزي ومحمد عبد الغني الجمسي وسعد الدين الشاذلي، وكل القادة الذين يعلمون أن بطولاتهم لم تصنعها إلا تضحيات جنود مثلي اختاروا أن يكونوا مجهولين، لكي تبقى حاضرة في وجدان مصر سيرة عطرة لقادة لم يحلموا بكرسي ولا نفوذ ولا مجد ولا مال، بل حلموا بمصر وماتوا من أجلها على أمل أن يحيا لها يوما ما، قادة ينحنون تواضعا أمام الشعب المصري ويضحون بكل شيء من أجل حريته وكرامته الإنسانية. 

لن تجدونني اليوم هنا في هذا الضريح الموحش، سأكون هناك في التحرير مع الجنود المجهولين الأحياء، سأشاركهم في مخاوفهم من سرقة النصر الذي صنعوه بصدورهم العارية، سأعتذر لهم عن كل لحظة عصيبة دامية وقفنا فيها متفرجين عليهم، دون أن نمد لهم يد العون، سأبكي كثيرا في أحضانهم وأنا أتذكر الفرص التي ضاعت لكي نعيد إلى بلادنا مجدها، سأواري وجهي من الخجل وأنا أسمعهم يسألونني كيف صمتنا طويلا على إختزال حروبنا العظيمة في أشخاص يبيعون الوطن أمامنا بل ويستخدمون دماءنا لكي تكون ذريعة لتوريث أبنائهم، سأطلب منهم العفو والسماح لأننا لم نقف لنصرخ في وجه الفساد والظلم والقهر، بل شاركنا في ترسيخه بالصمت والفرجة والولاء.

سأقول لهم إننا لن نسمح لعنادنا وقصر نظرنا أن يضيّع مكاسب النصر الذي بدأوا في تحقيقه، سأحلف لهم أن كل جندي مصري يعرف كم هو غال ومقدس ذلك الدم الذي يسيل من أجل الوطن، سأبشرهم أنه، طال الوقت أم قصر، سيكتب الله لمصر نصرا مكتملا عصيا على السرقة، سأكتب معهم هذه الرسالة التي سنختمها بتذكيركم بخير هذه البلاد وشعبها عليكم، وكيف أنها تستحق منكم أن تسلموها إلى أهلها ثانية، بعد أن سلمت نفسها لأسلافكم قبل ستين عاما، فانتصروا وانكسروا ووعدوا وأخلفوا واستبدوا وفسدوا وحاولوا إصلاح ما أفسدوه واحتكروا الحديث باسم الشعب وكسروا إرادته حتى ظنت الأمم أنه صار نسيا منسيا، وهاهو قد إنبعث من جديد يرفض أنصاف الحلول وأشباه الأحلام، وأن يتولى أحد بدلا منه تقرير مصيره، حتى أنتم. 

لن أعود إلى ضريحي ثانية، سأبقى هنا مع أبنائي الغاضبين المحبطين المرهقين المكدودين الآملين الحالمين، سأتركهم ينتهون من هتافهم الغاضب: "يسقط يسقط حكم العسكر"، لأهتف بعلو صوتي الحزين على كل ما جرى ويجري: "الجيش والشعب إيد واحدة"، وفي أيديكم أنتم وحدكم يتوقف ما إذا كانوا سيرددون الهتاف من خلفي بنفس الحماس، الذي فرحنا به قبل أشهر ثم أضعناه من بين أيدينا. 

الله أكبر، وتحيا مصر." 

  ...

نشرت هذه السطور في صحيفة التحرير بتاريخ 6 أكتوبر 2011، وسأترك لك تأمل كيف تغير الواقع منذ تلك اللحظة، وكيف أصبحنا أبعد بكثير عما تمناه الجندي المجهول في رسالته، ولا حول ولا قوة إلا بالله. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.