ثورة لبنان... مشاهدات ووقائع ومآلات

ثورة لبنان... مشاهدات ووقائع ومآلات

30 أكتوبر 2019
+ الخط -
اشتعلت الأحداث في لبنان خلال الأيام الماضية، إذ عمّت المظاهرات الشعبية مختلف المناطق اللبنانية، ولم تكن قرارات الحكومة الأخيرة واقتراح فرض رسوم على استخدام تطبيق "الواتساب" إلا الشعرة التي قصمت ظهر البعير، فلم تكن التحركات رفضاً لتلك القرارات فقط، بل كانت هذه المظاهرات ردّ فعلٍ عارماً على سياسات اقتصادية وفسادٍ مستشرٍ امتدّ منذ اتفاق الطائف علم 1989 حتى اليوم، وهو فساد أدى من جهة إلى إغراق البلد بديونٍ فاقت 80 مليار دولار، ومن جهة أخرى إلى ثغرات ومشاكل في مختلف القطاعات، فلم تقف تلك المشاكل عند سوء الكهرباء فقط، بل وصلت إلى جميع الخدمات من طبابة وبنية تحتية، وتردٍّ في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في مقابل تسرّب معلومات عن أن حجم السرقات في لبنان يراوح ما بين 400 و800 مليار دولار أميركي.

شكّل انتشار المظاهرات وتوزعها الجغرافي رسالة واضحة للطبقة الحاكمة، فقد خرج المتظاهرون في مختلف المدن اللبنانية، من عكار وطرابلس إلى النبطية وصور والبقاع، وصولاً إلى القرى والمناطق الداخلية، وهي مظاهرات شعبية حاشدة، وتُعد أبرز نقاط التحرك في مدينتي بيروت وطرابلس، خاصة أن الأولى لديها موقع رمزي، لاحتوائها على مقرَّي مجلسي النواب والوزراء وغيرهما من المؤسسات الرسمية.

طغت خلال الأيام الأولى من المظاهرات الطابع الفكاهي أو الترفيهي - إن صحّ التعبير - لهذه التحركات، إذ انتشرت بكثرة صور الفتيات و"الدلع" ومظاهر الدبكة وغيرها من المظاهر الاحتفالية، حتى أضحت النكتة واللافتات الساخرة جزءاً من الحراك الذي تجاوز أيامه العشرة، ومع مرور هذه الأيام يُمكن تسجيل مشاهدات أخرى أهم وأبرز، من بينها:


• مشاركة شعبية حاشدة من مختلف الشرائح والفئات الاجتماعية والعمرية، وهي مشاركة عابرة للطوائف والتيارات السياسية، ويمكن تسجيل خسارة هذه التيارات جزءاً كبيراً من شعبيتها، خاصةً أمام التعنت الحكومي وعدم الاستجابة لمطالب المتظاهرين حتى اليوم.

• استمرار قطع الطرقات الرئيسة في مختلف المناطق اللبنانية، وهو أسلوب الاحتجاج الأبرز، إذ يفرض المتظاهرون العصيان المدني عبر هذه الأدوات، وهنا مرّ معي في حساب الأستاذ نواف قديمي مقولة يوزف غوبلز وزير الدعاية السياسية في ألمانيا النازية: "من يُسيطر على الشارع يُسيطر على الدولة"، وحتى الآن يُسيطر المحتجون في مختلف المناطق اللبنانية على الشارع، ويرفضون الدعوات التي أطلقها المسؤولون وفي مقدمتهم رئيس الجمهورية والأمين العام لحزب الله لفتح الطرقات، وهو رفض مستمر على الرغم من التهديد المستمر باستخدام القوة، وهو ما جرى في منطقة البداوي شمال لبنان، وانتشار الأخبار بشكلٍ كبير أن القوى الأمنية ستعمد إلى فتح الطرق بالقوة. وعلى الرغم من إعادة فتح معظمها بعد 13 يوماً، وعلى أثر استقالة الحكومة، يمكن أن يعود إلى الواجهة في أي لحظة.

• ظهور الاحتجاجات لأول مرة في مناطق الثنائي الشيعي، وهي صورة لم تكن ممكنة خلال السنوات الماضية، ما يؤكد أن الحراك المطلبي تجاوز مختلف الحيثيات الطائفية، مع محاولات الثنائي لكمِّ هذه الأفواه.

• إقامة تجمعات في المناطق الأساسية، في بيروت أمام مسجد محمد الأمين، وفي شارع رياض الصلح، وفي طرابلس في "ساحة النور"، وقد تحولت طرابلس إلى نموذج بارز في استمرار التحركات الشعبية، حيث يشارك يومياً في الساحة حشود ضخمة، استقطبت وسائل الإعلام وشخصيات فنية وإعلامية، حتى أصبح يطلق عليها "عروس الثورة".

• ‏أعادت التظاهرات في لبنان نبض الشارع الحقيقي، بعيداً عن أي أيديولوجيات أو دعوات عنصرية استشرت خلال السنوات الماضية، فقد هتف المتظاهرون دعماً للاجئين السوريين ورفضاً للتصريحات العنصرية التي تلقي تبعات الانهيار الاقتصادي عليهم، وهتفوا لفلسطين والقدس، وأرسلوا التحيات إلى المخيمات الفلسطينية في لبنان.

• مشاركة عابرة للطوائف في تجلٍّ للمواطنة لم تشهده الساحة اللبنانية منذ ما يزيد على سبعين عاماً، وهي حالة لم تفرزها دعوات الحوار أو الاجتماعات السياسية أو مبادرات المرجعيات الدينية، بقدر ما أنتجته حالة عامة من الوجع والألم والصعوبات الحياتيّة والتضرر من الفساد والفاسدين، أصاب مجمل اللبنانيين.

• إطلاق مبادرات نوعية في هذه المظاهرات، من التثقيف السياسي إلى مبادرات فرز النفايات، وتنظيف الساحات صباح كل يوم لاستقبال المتظاهرين، ما يرفع من البعد الحضاري لها، وهي صورة تؤكد سلمية المظاهرات مهما حاول البعض شيطنتها وشيطنة خلفياتها.

• محاولة العديد من الجهات والأحزاب ركوب موجة الاحتجاجات ومحاولة توجيهها، وهو أمر حدث في مجمل التحركات المطلبية السابقة، لكن ردود فعل المتظاهرين كانت متفاوتة بين منطقة وأخرى.

وأمام المشاركة الحاشدة في الانتفاضة الشعبية، يقف جمهوران على الجانب المقابل، الأول وهم أنصار الفريق الحاكم، الذين يجدون فيها تقويضاً للعهد ويلقون التهم على الفرقاء السياسيين المخالفين. أما الفريق الثاني الذي يرى وينتقض الحراك بناءً على مآلاته، ويضع الانزلاق إلى حرب أهلية جديدة نتيجة حتمية لا انفكاك عنها، ويرى أن الحراك سيخلف المزيد من الفوضى والإشكاليات، خاصة أمام غياب القيادة الواضحة التي يمكنها صياغة الأهداف والغايات وتصل به إلى نتائج ملموسة، وعلى الرغم من أن هذا الطرح ليس له أي رصيد في التحليل الموضوعي، نتيجة انبثاق "الثورة" من منطلقات شعبية بحتة، ولو حاول بعض السياسيين المشاركة فيها أو دعمها أو التسلق عليها، إضافةً إلى تركيز المظاهرات على الطابع السلمي وعدم الانجرار إلى الفوضى، فلم تشهد أيٌ من المناطق حتى اللحظة تخريباً للممتلكات العامة، أو اقتحاماً لبعضها الآخر، بل شهدت كما أسلفنا مظاهر واعية من تنظيف الساحات وفرز النفايات وغيرها.

وعلى الرغم من استبعاد الانزلاق للاقتتال، لكن احتمال تعامل السلطات مع المظاهرات بالقسوة، خاصة مع تكرار الدعوة إلى فتح الطرق، وإعادة الحياة العامة لسابق عهدها، يمكن أن يفتح المجال على العديد من السيناريوهات، نتيجة تاريخٍ طويل من الاحتراب الداخلي وفوضى السلاح وغيرها، وهي نقطة يمكن أن نصل إليها، ولكنها بعيدةٌ في هذه المرحلة على أقل تقدير، ولكن التعنت الرسمي، ورفض حزب الله للمطالب الشعبية وما جرى في بعض مناطق الجنوب، وفي يوم استقالة الحكومة من استخدام للقوى، والهجوم على المتظاهرين وضربهم وتكسير خيامهم، يفتح المجال على كل الاحتمالات.

وجاءت استقالة الحكومة في 29/10/2019 لتحقق المطلب الأول لهذه المظاهرات، ومع الانفراج الجزئي وفتح الطرقات، إلا أن الشريحة الأكبر من المتظاهرين تصرّ على استكمال المطالب الشعبية، خاصة أن العديد من المشاكل الاقتصادية خاصة تلك المتعلقة بسعر صرف الدولار وتأمين المواد الأولية كالقمح والبنزين وغيرها تمسّ الحياة اليومية للمواطنين، إضافةً إلى إمكانية تماطل التشكيل والعقبات التي سيضعها الفرقاء السياسيون، عوامل ستؤدي إلى عودة الاحتجاجات إلى الشارع مجدداً.

أخيراً، يعيش الشباب اللبناني فرصة تاريخية لإعادة صياغة المشهد السياسي، وهو ما لا تريده الطبقة الحاكمة، التي تتشبث - بمجملها - بأوراق إصلاحية لا تنعكس على أرض الواقع ولا تقترب من بعض المطالب الشعبية، وهو ما يفتح الباب لاستمرار المظاهرات ومظاهر العصيان المدني بشكلٍ أكبر، خلال الأسابيع القادمة، خاصة أن الرهان على انسحاب الناس وفتورهم لم ينجح حتى اللحظة، خصوصاً أنها استطاعت إعطاء شرائح واسعة منبراً استطاعت من خلاله إيصال صوتها ورسالتها، بعد سنوات من كمّ الأفواه والقمع.

ختاماً، أورد هذه المقولة للسياسي والفيلسوف علي عزت بيجوفيتش في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، يصف فيها الثورة، وهي صورة لشعوري كواحدٍ من هؤلاء الثوار الذين يطمحون إلى التغيير: "لم تكن الثورة حدثاً قاصراً على ميادين الحضارة أو الاقتصاد أو المجتمع أو السياسة. فكل ثورة حقيقية هي عضو في أسرة كبيرة تتميز بسمات: الإيمان، والشعور المتضخم بالقوة والأهمية، والعدوان، والرغبة العارمة، والتضحية والموت ـ هذه المشاعر التي هي أبعد ما تكون عن نطاق المصلحة والوجود. وأي شخص كان له دور في ثورة أو تابع تطورها من قرب، يستطيع أن يؤكد وجود هذه الملامح الأخلاقية. إنه يرى الثورة كقصيدة ملحمية وليس فقط مجرد تدمير آلي أو تغيير بسيط في الآلة الحاكمة".
31613475-73A0-4A3D-A2F9-9C1E898C5047
علي حسن إبراهيم

باحث في مؤسسة القدس الدولية. كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكتروية. عضو رابطة "أدباء الشام".