مقال منزوع الدسم

مقال منزوع الدسم

04 أكتوبر 2019
+ الخط -

في الكتابة الاقتصادية تتعدد المدارس، فهناك كاتب يغرق في التفاصيل والحديث عن النظريات الاقتصادية، مثلاً يخصص سلسلة من المقالات للكتابة عن الفارق بين التضخم الزاحف والتضخم المتسارع والتضخم الجامح والتضخم المفرط، وعلاقة ذلك بالركود التضخمي والتضخم الأساسي وانكماش الأسعار وتضخم الأجور والأصول.

وهناك من يحرص على تعقيد الكتابة وحشرها بكلمات لا يفهمها إلا القلة، وكأنه يكتب لنفسه أو للنخبة فقط، مثلا يكتب عن المدرسة المالتسية في الاقتصاد واقتصاديات الهندسة ونظرية قمة هوبرت وتأثير الامتداد والاشتراكية النقابية والفارق بين منحنى لافر ومنحنى كوزتس.

وهناك من يكتب للناس، ذلك لأن الاقتصاد من وجهة نظر هؤلاء هو حياة الناس ومعاشهم وأسواقهم وأجورهم ومدخراتهم واستثماراتهم، كما يساعد الناس في عمل توازن بين دخولهم ولو كانت محدودة ومصروفاتهم، ويساعدهم في مواجهة الفجوات والمشاكل المالية التي قد يتعرضون لها، وأنا أنتمي للمدرسة الأخيرة، بل وأحاول خلق مدرسة جديدة أطلق عليها "أنسنة الاقتصاد"، وجعله أقرب لرجل الشارع وربة المنزل البسيطة.

لكن المدرسة الأخيرة ليست بهذه السهولة، ليس فقط بسبب تحدي تحويل الكلمات الاقتصادية الجافة إلى كلمات بسيطة يفهمها رجل الشارع العادي، لكن أخطر ما فيها تلك النصائح "المسمومة" التي تتلقاها من وقت لآخر والتي تدفعك كلها نحو شيء واحد هو العودة إلى الكتابة المعقدة والمنفرة التي لا يفهمها الناس والبعيدة عن الواقع ومعيشة الناس، الكتابة التي ينفر القارئ منها عندما يسمع كلمة اقتصاد.

خذ مثالاً هذه النصائح "ركز في مقالاتك على الاقتصاد المجرد؛ ابعد عن "تلوين" الاقتصاد وعجنه وخلطه بالسياسة، اكتب في الاقتصاد البحث ودعك من ربطه بالواقع والناس والمعيشة والدخول والأجور وقفزات الأسعار، أبعد عن "دوشة" الحديث عن الأزمات الاقتصادية والمالية وركز على الكتابة في النواحي الفنية المتعلقة بالاقتصاد. ركز على مؤشرات الاقتصاد الكلي، تحدث في العموميات، لا في التفاصيل. في قضايا الاقتصاد العالمي متسع لقلمك وبحور لرأيك، أكتب فيها ما تشاء،

أو أن تأتيك النصيحة على النحو التالي "دعك من الاقتصاد المجتمعي والمعيشي والإنساني الذي يرصد حياة الناس ومعاشهم والغلاء وحال الأسواق وأسعار السلع والخدمات. دعك أيضاً من الاقتصاد السياسي والحديث عن الفساد وتركز الثروة في يد قلة، فيما غالبية أفراد المجتمع لا يجدون ما يطعمون به بطون أسرهم، دعك من الكتابة عن التهرب الضريبي وغسل الأموال والتفريط في ثروات المجتمع، تحدث عن أحدث نظريات معدلات النمو والتضخم والميزان التجاري ونظرية العرض الطلب ونظريات كينز ومالتيس وكارل ماركس الاقتصادية، علق على تحركات أسعار النفط والبورصات وأسعار الذهب والفضة، أكتب عن أرباح الشركات، والجديد في عالم تكنولوجيا المعلومات".

وأحياناً ما يريد أصحاب النصائح أن يبعدوك عن واقعك تماماً حينما تأتي نصائحك كالتالي "أكتب عن النيوليبرالية الاقتصادية ومخاطر الرأسمالية المتوحشة وفشل نظرية الاقتصاد الحر في احتواء الأزمات الاقتصادية العالمية، تكلم عن العولمة وحروب العملات والحروب التجارية بين الولايات المتحدة والصين، يمكنك الكتابة عن هذه القضايا وغيرها سنوات طويلة".

وعندما تذكر أصحاب النصائح بحال المواطن العربي وضرورة الكتابة عن حالة الذل والفقر التي يعيش بها، يقول لك هؤلاء "أكتب أولا عن الفقر والبطالة في الولايات المتحدة وروسيا والصين وإيران والهند وباكستان ودول شرق أوروبا، عن زيادة أسعار الوقود والبنزين في أميركا وكندا تركيا، عن غلاء الأسعار في كولومبيا والأرجنتين والدول الأفريقية، أكتب أن العالم كله يشهد موجة من ارتفاعات الأسعار، وأن مصر وغيرها من الدول العربية ليست استثناء، أكتب أن العالم كله يقترض، وأن الدين الأميركي تجاوز 21 تريليون دولار، دعك من الكتابة عن تسارع وتيرة الاقتراض الخارجي من قبل حكومات مصر والسعودية والأردن والمغرب والعراق وغيرها رغم امتلاك هذه الدول ثروات ضخمة".

أما بالنسبة لقضايا فقراء وشباب مصر وسورية واليمن وليبيا وتونس والجزائر والسودان وبعض دول الخليج وغيرهم فتقول النصائح "دعهم في حالهم، لا تنغص عليهم حياتهم بتذكيرهم بأحوالهم المأساوية من وقت لآخر، لا تثر الفتنة فإنها نائمة ولا نريد من أحد أن يوقظها، لا ضرر في أن تكتب أحياناً عن جشع التجار والاحتكارات في بعض الدول العربية، أو تنتقد قراراً وزارياً، لكن دعك من الشأن العام، فهذه وظيفة السياسيين ورجال الدولة".

أحياناً ما تأتيك هذه النصائح من وقت لآخر خاصة من قبل أشخاص يقولون لك وبصوت خافت إنهم خائفين عليك، وأحيانا ما تكون نصيحة هؤلاء المباشرة: "ابعد عن الشر وغنِّ له"، أو دع الخلق للخالق، أما النصيحة الخبيثة فتأتي تحت عنوان "اكتب في الاقتصاد البحت حتى تحافظ على مصداقيتك وحيادك"، وكأن الكتابة عن أحوال الناس المعيشية وقضايا الفساد والفقر ونهب ثروات الشعوب هي "رجس من عمل الشيطان"، أو أن الخوض في هذه الموضوعات هو الكذب البواح، وأحياناً ما يقول لك البعض بصوت زاعق مزعج: "البلد لا تتحمل أي نقد، نحن نواجه مؤامرة كونية، نحن نتعرض لحروب الجيل الخامس".

ولأنني أحب النصائح، وليس من طبيعتي أن أصم أذني أمام تلك النصائح خاصة الثمينة منها، وأحب الاستفادة من أي نصيحة تقدم لي شخصياً، فقد قررت في المرة القادمة كتابة مقال اقتصادي منزوع الدسم، مقال على مسطرة هذا الجيش من الناصحين، مقال لا يقول شيئاً وغير مرتبط بالواقع، يتجنب الحديث في قضايا حساسة، لن يتحدث مثلاً عن زيادة الفقر والبطالة والأسعار داخل بعض الدول الخليجية رغم ثراء الحكومات الفاحش، أو عن عدم التوزيع العادل للثروة في هذه المنطقة العائمة على النفط والغاز، ولن يتطرق هذا المقال "المسخ" إلى سؤال الساعة: كيف تقترض بعض الحكومات العربية مليارات الدولارات لإقامة القصور والاستراحات الرئاسية ودور الأوبرا في الوقت الذي يتجاوز عدد الفقراء ثلث سكان الدولة حسب الإحصاءات الرسمية والثلثين حسب الواقع وإحصاءات غير رسمية؟

سأبتعد عن كل ذلك في هذا المقال وسأجرب النصيحة، لعل وعسى نكتب مقالاً على مقاس وهوى جيش الناصحين.

دلالات

مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".