نظرية في البؤس

نظرية في البؤس

28 أكتوبر 2019
+ الخط -
يتغير لون وجوه بقية المعلمين عند حضوري، وذلك بعدما بدأ خصم عشرات الجنيهات من المرتب دون سبب، وهذا ما بدأ يحدث عندما جئت معلماً لمادة التاريخ في مدرسة الناصرية الثانوية، ولا أعلم سبباً لهذه الريبة، لعلهم يظنون أني سيّئ الحظ أو غير حسن الطالع، وأنا من الذين لا يؤمنون بمثل هذه الخرافات، وبالأخص لأني لست أنا من خصم تلك الجنيهات.

في طريقي للمدرسة استوقفتني رائحة الشواء وهي تنطلق من المدخنة لتداعب خياشيم أنفي، لتصدر "آآهه" مستمتعاً ناسياً إرهاق المشي، منتشياً بروائح الكباب والكفتة التى تهتف وتصيح للمارة وأبناء السبيل: "قرب قرب، تعالى واتفرج"، لكنا أصبحنا لا نعلم هل الكباب للفُرجة أم للأكل، بل العجب كله يتضح في أنه لم يكن يوماً للأكل، ولا مرة تمتع به نظرك، ولكنه للشم.

"كيفك يا أستاذ؟".. صاح بها عم عبده الكبابجى الذي في أغلب الظن يأكل آخر الليل الكباب الذي صنعه طول اليوم، لقلة الزبائن، ووقف الحال.. ظهر ذلك على جنبه الذي يتدلى من خارج القميص، وصدره المهتز وهو يضرب علبة السجائر ممتعضاً ويتمتم ببعض الكلمات التي يهمس بها لنفسه وهو يرمقني بنظره كأني قتلت له قريباً، هكذا نقولها بلهجة من تربع فى جنبات المحروسة وارتوى من حيّ الحسين.


جددها على سمعي مرة أخرى رافعاً نبرة صوته ظناً منه أني غفلته، لذا جئته بالرد: "كفي على إيه لامؤاخذه؟!"

احمرّت وجنتاه كأنه بالفعل وبغيظه افتتح الكلام: "يا أستاذ ثمن رائحة الكباب، قد كلفني الكثير وكذلك الفحم المشتعل تحته الذي ساعد فى تسويته، وأيضاً المروحة التي دفعت الدخان ناحيتك وهي غالية، والكهرباء التي تستهلكها المروحة لا تفارقها فى نفس الغلاء، وحضرتك جئت على الجاهز لتشم، وأيمان المسلمين ما هعتقك النهاردة..".

واتجه الرجل ناحيتي ممسكاً ياقة القميص حالفاً بالله "اطلع ما في جيبي"، وبالفعل أخرجت ثلاثة جنيهات ثمن تذكرة المترو وجعلتها تصدر رنَّة على الرخام ثم أرجعتها إلى جيبي قائلاً له: "أنا شممت رائحة كبابك، وها أنت قد سمعت صوت نقودي، خالصين؟".

ومضيت مسرعاً تاركاً إياه في صدمته غير مدرك كيف أفلت من تحت يده، وبعدها مررت على مطعم يبيع الفلافل، وخفت أن اقترب، فأسرعت الخطى لكي أصل إلى محطة المترو حتى لا يحالفني مثلما حدث.

على نافذة التذاكر يقف صف طويل من الناس، يدلّ العرق المنهمر من جباههم أنهم هنا مذ أمد بعيد، كأي إنسان متحضر أو يدعي التحضر أخذت دوري بالصف، أنتظر مرور الأدوار متمنياً توقف عقارب الساعة، لعلي لا أتأخر عن المدرسة. حمدت الله أن جاء سريعاً ووقفت أمام نافذة التذاكر، حتى فتح باب الحجرة ودخل أحد الموظفين تتبعه مجموعة أشخاص أظنهم ذويه، وانشغل معهم موظف التذاكر، وكل واحد منهم له وجهة مختلفة عن الآخر، وإذا بكل منهم يضع لموظف التذاكر ورقة بمئة، لتذكرة قد تزيد أو تقلّ عن الخمسة جنيهات، إذا فمن يأتيهم بالفكة ويمنحهم الباقي، ظل الموظف يعدّ ما بقي وأنا متعجب لما يحدث، وإذا تفوهت بكلمة يرد الموظف بكل ما عنده من بلاهة ليقول: "الصبر طيب يا أستاذ". أي صبر يتكلم عنه؟!

حتى وضع أمامي تذكرتي وأخذتها لأطير إلى المترو ليقلّني إلى المدرسة، وما إن دخلت إلى حجرة الناظر لكي أمضي وأثبت حضوري، حتى رمقني المدير بذات نظرة عم عبده الكبابجي، ويزعق بصوته الذي يطرب السميعة الذين أحاطوا بالمكتب ويقول: "يا أستاذ يا فاضل الساعة دلوقتي تسعة، وأنت ولا على بالك إن الدفتر اترفع، شرفتنا يا بيه".

بدون تعليق "أخذت نفسى من سكات" وخرجت من المدرسة لأخرج المحفظة من جيبي للعودة، لكني لم أجدها، فقد نسيتها على التلفزيون الذى أصبح مكتباً، خاصة بعدما أغلقته لغلو ثمن الكهرباء.

وتذكرت نظرة زملاء المهنة كل صباح، ودفعتني الظروف للتفكير بأني سيّئ الحظ فعلاً، لكني أسرعت ونفضتها عني مؤمناً بأني لست كذلك أبداً. ألست ترى ذلك معي؟َ!
A03D0CDD-E864-4548-B17D-EBCC894B1E58
محمود أبو عبية

طبيب وشاعر وكاتب قصص قصيرة ومقالات متنوعة فى الفلسفة والتاريخ والأدب الساخر.. ابن الحارة المصرية وعابر سبيل فى دنيا الله.