الطابق الثاني!

الطابق الثاني!

24 أكتوبر 2019
+ الخط -
هذا الليل دافئ وطويل، القمر مكتمل وساطع وعلبة السجائر نفدت بالكامل، قبل يومين طلبت رخصة تغيُّب عن العمل لمدة قصيرة، لم أكن أشعر بالتعب كي أنشد الراحة أو شيء من هذا القبيل، ولم يكن في ذهني أي مآرب محددة أقضيها خلال هده العطلة الوجيزة، ربما مجرد مبررات عابرة، للخلود في البيت والاستمتاع بلذة الفراغ، إنها نزوة طارئة.

إلهام، الممرضة الخجولة، تركت قطعة من حياتها هنا فوق هذا السرير، قالت إنني رجل دون مشاعر، وأني لن أتغير أبداً، لذلك أشفقت لحالي كما العادة، وعادت لتجهش بالبكاء، حملت حقيبتها اليدوية الجميلة وغابت كي تتركني أنتظر امرأة أخرى كما تدعي دائما.

دخلت سوق النساء ولم أخرج أبداً، عاتبتني سارة زميلتي بالعمل مراراً على ذلك، لكنها تجهل أني أشعر بالعذاب وبالندم يقطع أوصال روحي، لكن ما فائدة الندم الآن؟!

في الصباح قلت لا بد أن أتعلم بنفسي ترتيب فضاء شقتي الصغيرة الأثاث، المبعثر هنا وهناك وأواني المطبخ والكتب والجرائد المتراكمة هنا منذ أسابيع.
 من الشرفة كان الأطلسي ممتداً ولا نهائياً، وأمام ناظري نوارس شاردة وبعض المراكب الصغيرة بدأت تزحف نحو رصيف الميناء الكئيب، ثرثرة البحارة المعتادة شتائم وقهقهات وإيماءات، أغلقت النافدة وألقيت بجسدي فوق السرير، ولم أعرف كيف وجدت نفسي شارداً، أفكر بكريمة الثرثارة التي راحت تبحث عن حلم تبدد هنا ولاحقته إلى إسبانيا، ومريم الشقراء البدينة التي تزوجت أخيراً من تاجر ثقيل الظل وبخيل يكبرها بعشرين سنة، وثريا بائعة الحلوى الأنيقة التي ذبلت قبل الأوان والتي أذكر ابتسامتها الوديعة كل صباح من خلف الزجاج، وإلهام ويديها المرتعشتين والمرآة الصغيرة التي لا تفارقها.

تحت عجلة الزمن ينسحق الجميع، يا إلهي إنه لأمر يحزنني كثيراً، آه كم يوجعني التفكير المضني في المرأة التي غابت ولم تعد أبدا ترى في أي بقعة من العالم تكون الآن، آه كم يعذبني الحنين والحسرة على فقدان شخص لن يعود.

تذكرت ذلك المساء الحزين ونحن نعبر الممر المعتم بجانب المقهى المحاط بالأشجار المتعانقة، حينها أفصحت إلهام عن ابتسامة غير مكتملة وقالت لي بعفوية متعبة: كم أنت مخادع وغامض لكني أحببتك، وراحت تنظر باتجاه الأوراق الشاحبة التي أسقطتها قسوة الخريف الماكرة.

ابتسمت بدوري وأمعنت طويلاً في حديثها إلي، لكن بداخلي كنت ممزقا في الحقيقة بين اختيارين لا ثالث لهما، أو بين مدينتين، الأولى أعشقها حد الجنون، والثانية ليست سوى سلسلة متقطعة وصدئة من الأشباح يتوهمون جميعاً أنهم ما زالوا على قيد الحياة، هذا هو السر الوحيد الذي أخفيته عنها، لكن ربما أحست بحيرتي في يوم من الأيام لكنها لم تسألني أبداً.

اليوم بلغت الثانية والأربعين من عمري، أعيش وحيداً في هذه الشقة منذ أكثر من ثلاث سنوات في الطابق الثاني من العمارة، حياة متقشفة بطيئة وخالية من فكرة السعادة.

لماذا لم أصغِ إلى نداء الحب بداخلي لماذا؟! "ستجد نفسك كهلا ووحيدا"، قالت لي أمي ذات شتاء بعيد، ورحلت، فبكيت غيابها ووحدتي.

كل يوم أقطع الطريق الرتيب نفسه بين الوكالة والعمارة التي بدأت تكتظ بالأطفال والأزواج الجدد "ها هو عائد يحمل الأوراق البيضاء كما العادة"، قالت سيدة لجارتها العانس وأقفلت الباب بقسوة وتهكم واضحين.

لا جديد سوى الرسائل اليتيمة التي أعثر عليها في الصندوق البريدي، والتي يبعث بها أخي الموغلة حياته في الغربة، يحكي عن تردده في العودة وعن اشتياقه لرائحة البلاد وعن سعادته الغامرة بابنته الكبرى ياسمين التي نالت هذا العام شهادة الماجستير في الاقتصاد بدرجة مميزة.

أعترف بأنني وفي فترات الفراغ الطويلة أدمنت على انتظار رسائله، وشعرت مراراً وأنا أقرؤها بالزهو والألم، كانت تقودني عباراته البسيطة المرتجلة إلى حنين غريب، وإلى دفء العائلة الذي لم ينطفئ أبدا بداخلي وحدائق طفولتنا العصية على النسيان.

دلالات

5F69AA17-CB49-48E9-916C-D80C5B605D10
بن أموينة عبد اللطيف

شاعر وناقد إعلامي مغربي ومحرر مقالات رأي، حاصل على ماستر علم النفس وشهادة مهنية في الصحافة، صدر له كتاب "لا مكان لا وطن" وهناك كتابان قيد الطبع.يقول: أنا لا أكتب بالقلم بل بدمي ووجوديتي الشاسعة الجريحة.