جون كيتس... سائس الحب والجمال!

جون كيتس... سائس الحب والجمال!

22 أكتوبر 2019
+ الخط -
قررت أن أترك مرقدي قليلًا، وأن أحتفل معكم بمناسبةٍ ربما لا تهمكم كثيرًا، لكن لها في حياتي ذكرى خاصة؛ إنه عيد ميلادي! ولكم أن تتخيلوا هذا المجهود المضني إذ أفارق مضجعي، لم أبرحه منذ سنوات، تقريبًا نمت فيه 198 سنة، لكنني خرجت للتو لأحكي لكم حكايتي من آخرها!

أول ما خطر ببالي الآن أن أستوثق من تنفيذ وصيتي، ها قد نفذ جوزيف سيفرن ما طلبته منه حرفيًا، وها قد حفر على شاهد قبري "هنا يرقد إنسانٌ كتب اسمه على صفحةٍ من الماء"؛ إنها الجملة التي همست له بها قبيل سفري الطويل.

تنامى إلى سمعي أنهم كالوا لي المديح أشكالًا وألوانا، لم أطرب لذلك البتة ولم أتلهَّف، وتذكرت قول محمد عفيفي ابن النيل، وهو يمرر خلاصة تجربته لغيره "علمتني الأيام أنه لكي يكيل النَّاس لي المديح بشدة، يجب أن تتوفر فيَّ شروطٌ كثيرة، أولها للأسف الشديد أن أموت"، وضحكت ضحكًا مريرًا وأنا أتذكر ما قاله اللورد بيرون في حقي وعلى مرأىً مني ومسمع؛ فقد كال لي النقد اللاذع والحارق والمشوِّه، ولما فارقت الملعب للأبد إذا به يرثيني ويترحم على أيامي!


عجيب أمر هؤلاء البشر! هذا جرير بن عطية يبكي الفرزدق بحرقة، وهذا شوقي تهطل عيناه أسى وجوى لفقدان حافظ إبراهيم، وها هو اللورد بيرون يميل على صديقنا الشاعر بيرسي بيش شيلي، ويقول له متأثرًا: "لو كنت أعلم أنه حساسٌ جدًا إلى هذه الدرجة، لكنت قد تجاوزت عن بعض ملاحظاتي على شعره"، وفي مناسبة أخرى يتحدث عني قائلًا: "مفاد القول إنه من أفذاذ الشعراء في جميع العصور". قالها بعدما رحلت وغربت شمسي، وكم كنت أحتاج لتقديرهم وأنا بينهم، لكنها طبيعة البشر يجحدونك ما دمت بينهم، ثم يبكونك في الوقت الضائع!

لكنني أصدقك القول، ولا أبيعك كلامًا رخيصًا وأوهامًا بالية، إنني وثقت في نفسي حين سلقوني بألسنةٍ حداد، وساندت نفسي حين استهدفوني بمعاول هدمهم، وقلت لأخي جورج يومًا: "أعتقد أنني سأصبح بعد موتي في عِداد الشعراء الإنكليز، وأما محاولة هدمي فلم تثمر سوى زيادة الاهتمام بأمري وذيوع شأني؛ فليس ما يضيرني في هذا المجتمع أن يحاول أحدٌ تصغير شأني والسخرية مني، أعرف قيمتي وأثق في قدرتي، والتاريخ حكمٌ بين الجميع".

لم أُخلَق لليأس ولا سلطة للاكتئاب على أمثالي، الأمر غاية في البساطة ولا يحتاج لكبير مجهود؛ فقد ولدت لعائلة تكافح الهبوط في أقصى قاع المجتمع، بالرغم من أنني ولدت في شمال لندن، في الآنفيلد! لكن أين تتصور أنني ولدت؟ هل خطر ببالك أنني من مواليد قصر برمنغهام؟ أم أنني أقبلت للدنيا من بوابة 10 داوننغ ستريت؟ لا هذا ولا ذاك، إنني ولدت في مقر عمل أبي، في إسطبل خيول "سوان وهوب" في ليفري/فينسبري.

عمل أبي -توماس- سائسًا في هذا الإسطبل، أقبل إلى هنا شابًا يافعًا تحت إشراف كهل عجوز يدعى جون غيتنغز، وأحبَّه الكهل وأعجب بإخلاصه؛ فزوَّجه ابنته "فرانسيس"، وفي 31 أكتوبر/تشرين الأول 1795 رُفِعَ الستار لألعب دوري القصير نسبيًا، اسمي جون كيتس، الابن البكر للسائس البسيط. أنجبت أمي بعدي أخي جورج يوم 28 فبراير/شباط 1797، ثم أخي توم في 18 نوفمبر/تشرين الثاني 1799، ومن بعده إدوارد في 28 إبريل/نيسان 1801، وأخيرًا أختي فرانسيس ماري في 3 نوفمبر/تشرين الثاني 1803.

حاول أبي أن يُلحقني بأفضل المدارس، لكن عينه تتمنى ويده تتعنى؛ فاقتصرت على مدرسة في متناول الحال، وضنَّ القدر عليَّ بأبي بعد عامٍ واحد من ميلاد أختي؛ فسقط عن جوادٍ في منتصف الليل، وعُثِر عليه بعد ساعة أو يزيد، ثم فارق الحياة مع شروق شمس يوم 16 إبريل/نيسان 1804. مضت الأيام تتلمظ وتكشر لنا عن أنيابها، وافترس الدرن (السُّل) أمي، وأودى بحياتها بعد ست سنواتٍ من رحيل أبي.

أصر السُّل أن يحصد أرواح إخوتي الثلاثة، آخرهم كان جورج، ثم أمهلني حتَّى سن الخامسة والعشرين، وعندها تدخل بكل ما أوتي من عنفوان، وانتزع صفحتي من دفتر الأحياء. أعلمت لماذا لم أتراجع عندما هاجمني النقاد ووبخوني؟ ببساطة لأنني ملتصق بأقصى القاع؛ فلا توجد خلفي نصف خطوة لأهرب إليها القهقرى، ولذلك آثرت أن أزيح نفسي عن القاع ما استطعت إلى ذلك سبيلًا.

لن أكتب لك عن ألم اليتم ولظى الحرمان، إن الوالد في هذا العالم أقوى من القبة الحديدية، وأعظم من الإف-35 والإس-400 مجتمعين، هذا في نظر أبنائه لا عليك من أقرانه، وقد رحل أبي في وقتٍ تركنا فيه أشقى حالًا من أفراخٍ بذي مرخٍ حُمرِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ!


أبت نفس الفرس أن يركبه السائس؛ فأسقطه ليرديه صريعًا، وأنِفَ السُّل إلا أن يحصد روح زوجة السائس، ثم انفتحت شهيته لنفوس أبناء السائس التعيس! لكل ذلك لم أجزع من سياط النقد، ومضيت في طريقي حتى دخلت قبري، مؤمنًا أن عبقرية الشاعر لا تنضج إلا من داخله، لا تُنضِجها أقلام النقاد ولا الصالونات الثقافية ولا حتى القواعد والقوانين.

لقد أقبلت مع احتضار القرن الثامن عشر، ومضيت مع بواكير أخيه التاسع عشر، وقيل إنه لم ينجُ مبدعٌ من مبدعي القرن التاسع عشر من تأثيري عليه، واعجب معي عندما أقول لك إنني تركت الساحة قبل حضورهم إليها بربع قرن؛ أليس في ذلك ما يرد تخرصات النقاد؟! فليس للمدح أو الذم إلا تأثيرٌ طفيف على امرئ أكسبه حب الجمال المجرّد نُقادًا شديدي العداوة.

لو عدت بك إلى الأيام النحسات بُعيد موت أمي، لأبكيتُك دمًا لحالي وإخوتي المنكودين، وأذكر أن الوصي علينا ألزمني الذهاب إلى إيدمنتون -على بُعد ميلين من آنفيلد- للالتحاق بخدمة الجراح المعروف توماس هاموند، وأنا ابن الخامسة عشرة، ولسببٍ لا أعرفه أدمنت القراءة، واختلفت مع هاموند وتركته مسافرًا إلى لندن سنة 1814 لأدرس الطب في توماس وجاي.

سكنت في بيت رقم 8 بشارع دين بمدينة بَرَهْ،وتعرفت إلى زميليَّ في الغرفة جورج ولسون ماكبرث وهنري ستيفن.
ساعدني ماكبرث في التعرف إلى المشهد الثقافي والأدبي، وأفدت منه في أوزان الشعر وأنواعه، ونقل إليَّ كثيرًا من معارفَ شكلت حياتي الأدبية، ومن خلاله تعرفت إلى لي هانت Leigh Hunt المحرر الأدبي والسياسي الجامح، وقد شرح لي عددًا من الدراسات الأدبية، وأعتز بصداقته رغم ما أمطرني به النقاد من السب والتأنيب، ومرجع ذلك أن آراء هانت بالنسبة لهم أقل قيمة من آراء أحمد موسى في الشارع المصري، ولكنه -هانت وليس أحمد موسى- صديقي، وقد قلت فيه قصيدةً حين خرج من السجن على خلفية قضية سياسية.

لعل الشِّعر يهذب النفس، وربما أقضَّ المرض هجعة النائم، فما بالك باجتماع الشِّعر والمرض والحب على نفسٍ واحدة؟! إنني أحببت فتاةً طائشة، ليس ذلك ذنبها في شيء؛ فإنها ابنة الثامنة عشرة وتصغرني بخمس سنوات، تحب الرقص والحفلات والتباهي بقدها المياس، ولا تجد فرصة لاستعراض غصن بانها إلا اهتبلتها، وأنا أصارع السُّل جاهدًا لأقف معها دقائق معدودات! هذه الفتاة المتفجرة الأنوثة والرعناء التصرف والطائشة التفكير فاني براوني Fanny Brawne ومع ذلك أحببتها حبًّا لا يوصف، وكتبت في حبها أحلى أناشيدي.

عشت قلق الصراع بين الحب والموت؛ فالحب يحدوني للتشبث بأذيال الحياة، والموت يرغمني أن أُفْلِتَ حبيبتي من قلبي وعقلي، وبينهما سقطت بين عجلات قطار الحياة، ولم يرحم توسلاتي لبرهة وإن قصُرت. قيل إن حبي فاني براون الشديد ذبحني صغيرًا، وبلغني أن سدني كولفين قال "إن حبها -يريد فاني- كان أعظم نحسٍ صادف جون كيتس"، وأدلى اللورد هاوتون بدلوه إذ قال "إن قوة العاطفة في حب كيتس من عوامل فنائه وسيره حثيثًا إلى الموت".

كتبت أولى قصائدي سنة 1814، تألفت من 14 بيتًا ونشرتها بعد عامين، وبعد سنة واحدة زرت بعض أصدقائي في إكسفورد، وهناك صممت على كتابة 50 بيتًا يوميًا، وبعد أسابيع قليلًا نظمت 4050 بيتًا؛ إنها رائعتي خالدة الذكر "إينديمون Endymon"، وقد كتبتها ما بين إبريل/نيسان- نوفمبر/تشرين الثاني 1817، وقوبلت بمراجعات أدبية ونقدية سلبية للغاية لا سيَّما في المجلات الأدبية الرائدة، وحملت عليَّ جريدتا "كوارترلي" و"بلاكوود" حملة شعواء، وغمزتا في قناتي وتعرضتا لنسبي، وذكرتا أن والدي مجهول النسب، ما خرج عن نطاق النقد إلى التجريح المرذول في سمعتي وكرامتي.

واصلت مسيرتي الشعرية دونما اكتراث بما يكيلونه لي من سب وقذف، وجاء عام 1819 لأكتب فيه عددًا من المقاطع الشعرية القصيرة، عرفت لاحقًا وبشهادة النقاد ضمن مصاف الأشعار القصيرة الأعظم في تاريخ اللغة الإنكليزية، ووصفني بعضهم بـ"إسخيليوس" الجديد، وبعدما نهشني بعضهم بأسنان قلمه، نكص على عقبيه وكال لي المديح، والدنيا لا تبقى على حال. قلت مرارًا إنني لأبغِض رضا الجمهور وحب المرأة على السواء، وأنهما كالمادة اللزجة تحول دون استقلال الجناحين، ثم جاء آرنست همنغواي ليقول "إن النجاح عدو الأديب"، وهو متطابقٌ ضمنيًا مع ما قلته.

سأعود الآن إلى قبري، وإني لأشكر صديقي جوزيف سيفرن، إنه لم يتركني في أواخر أيام عمري، ترك لوحاته وأعماله الكثيرة ليطببني ويكتب مذكراتي، وأوفى على الغاية في تنفيذ وصيتي؛ فأقنع فاني براون بقص خصلةٍ من شعرها وأرفقها -كما طلبت منه- بخطابٍ من أختي ووضعهما إلى جواري في قبري، ثم نقش على قبري الكلمة التي اخترتها لنفسي.

سأعود الآن إلى نومتي الطويلة، وبعد قليل سيلحق بي صديقي شيلي، ثم سيلحق بنا اللورد بيرون بعدما يتلقى العزاء في ابنته إليجرا من زوجته الأولى كلير مونت، ثم يبكي صديقه المقرب عني -والصديق المشترك- بيرسي شيلي، وبعد مدة سيموت أنطون تشيخوف بالسُّل.

أما فاني براون فإنها ستعيدني للأذهان بعد 20 سنة من رحيلي، إذ تقرر نشر أشعاري وإن لم تعوِّلُ عليها كثيرًا، لكن ردود الأفعال ستبهرها وستجني منها ثروةً طائلة، بينما الثروة الأكبر أنها أتاحت لي أن أخرج الآن وأتحدث إليك قبل أن أعاود الرقاد، ولتذكر كلماتي "الجمال هو الحب، والحب هو الجمال" وإليك سلامي وأشعاري!