من تونس إلى لبنان... هكذا يسحقوننا

من تونس إلى لبنان... هكذا يسحقوننا

21 أكتوبر 2019
+ الخط -
باتت وسائل التواصل الاجتماعي التي ظهر خطرها في 2011 بوصفها أداة مركزية في إسقاط الأنظمة المتهالكة، أداة طيعة اليوم بيد هذه الأنظمة لتكريس سيطرتها على الشعب. وبعد أن كانت هذه الأنظمة العتيقة تتعامل مع فيسبوك ويوتيوب وتويتر على أنها أسماء أطعمة أجنبية أو نوع من أنواع التعويذات أصبحت اليوم تحترف تحريك جماهيرها عبر هذه المنصات ذاتها.

خلقت الأنظمة لنفسها جيوشاً إلكترونية من الحسابات الوهمية التي تنجح بكفاءة في خلق قضايا رأي عام بعيدة كل البعد عن القضايا الحقيقية، فتجد الناس مشغولين بطول ثوب فنانة ما في مهرجان ما وهم يرزحون تحت نير الدكتاتورية والاستبداد والتفقير والتجهيل. عداك عن دور هذه الجيوش في نسف أي حراك وطني من خلال حسابات بمئات آلاف المتابعين ولكن لا أحد يعرف صاحبها، ولا شأن لها إلا فضح الفساد ونشر الفضائح وكشف المستور، وبالصدفة البحتة فإن هذا المستور لا يكون إلا في معسكر المعارضة أو الشخصيات الوطنية، وكأن الأنظمة حمائم سلام. وما الحسابات التي نسمع عن حذفها بالمئات بين فينة وأخرى من منصات متعددة إلا رأس دبوس صغير لجبل الجليد العملاق الذي بات اليوم حاكماً للرأي العام ومحركاً له وصانعاً لقضاياه.

استفادت الأنظمة من شركات تتعامل بالدولار لا بالأخلاق في عالم لا تعنيه الأخلاق عادة، فاشترت أنظمة تجسس على الاتصالات وبيانات مواطنيها ووظّفت محللي بيانات لمعرفة الأهواء والميول، ووضع رجل الأمن هراوته جانباً وبات يستخدم جهاز لابتوب حديث، واستغنى عن المخبرين للحصول على المعلومة وبات يحصل على أكثر مما يتخيل وهو جالس وراء حسابه على فيسبوك، وراح ينفذ بنجاح كبير مشاريعه في زرع الفتنة بين مكونات المجتمع وطحن أحلام شبابه وإفقادهم أي إحساس بالانتماء أو بالمستقبل من دون أن تسيل في الشوارع قطرة دم.


أما ثوار الربيع العربي فمتقوقعون في مجموعات مغلقة "غروبات" مخترقة أمنياً على فيسبوك أو واتساب، معزولون عن بعضهم بعضاً في بقية الدول العربية، بل عن إخوتهم في مدن أخرى في معظم الأحيان.

ورغم ذلك كله، فإن بعض القضايا ما زالت تفلت من قبضة الجيوش الإلكترونية العربية، ما زالت هذه الشعوب الجامحة تنجح في فرض قواعدها الخاصة باللعب حتى حين، فكيف يتم التعامل معها؟

ببساطة يتم التعامل معها بالنكتة، بالسخرية والتسخيف، والتركيز على القشور دون اللباب، ما عليك إلا إشعال عود كبريت واحد ليحترق جبل من القش الشعبي المتلهّف للانشغال بتوافه الأمور مدعوماً بآلاف الحسابات الوهمية التي ستخلق له توجهاً عاماً يشعر معه بالقصور والخجل من عدم اللحاق به، وما هي إلا سويعات حتى تمتلك حركة التتفيه محركاً ذاتياً وتنطلق بمعزل عن الدوائر الأمنية لتتوسع وتتطور وتأتي على جوانب ما كانت تخطر في بال صانعيها.

ثلاثة أمثلة يمكنك عزيزي القارئ أن تراجعها معي الآن لتعرف كيف تستخدم الأنظمة النكتة لتستمر بسحق أحلام شعوبها وتطلعاتهم نحو التحرر والديمقراطية..

الأول من السعودية، بدأ مع إقرار قانون السماح للمرأة بالقيادة، حينها ما كان عليك أن تبذل أي جهد لتجد مئات النكات وربما الآلاف حول قيادة المرأة، كانت كلها تسخّف المرأة وتركّز على عدم أهليتها وغبائها وكيف ستقع في مواقف مضحكة وترتكب أخطاء بدهية، بل إن كثيراً من الحسابات لم تتوقف عند حد النكتة وراحت تختلق قصصاً لأشخاص من لحم ودم وبأسماء تبدو حقيقية، تعرض لما فعلته المرأة التي تجرأت على القيادة، وكيف تسبب صنيعها في دمار أسرتها وتفكك عائلتها.

الثاني من تونس، وكان مع بدء الانتخابات الرئاسية التونسية، هل تذكر عزيزي القارئ كمية الصور التي تم تداولها لنساء تم الزعم أنهن مرشحات للرئاسة التونسية؟ اسم واحد ربما، كان حقيقياً من بين العشرات التي تم تداولها، هل تذكر كيف كانت تلك الصور تركّز على تقديم نساء شبه عاريات؟ هل تذكر التعليقات التي كانت تصاحب تلك الصور؟ هل تذكر كيف تم وضع جملة "هذه هي الديموقراطية" أو ما يشابهها دائماً مع كل صورة؟ نعم هكذا ببساطة، إن كانت تونس قد قررت الفرار من حظيرة الاستبداد نحو الديمقراطية فلا بد من الحرص على أن لا تعدي أحداً آخر بهذا الداء الشنيع، ولذلك حرصت الجيوش الإلكترونية العربية على تسخيف الديمقراطية التونسية، سواء من خلال اختلاق أسماء عشرات المرشحات من فنانات وراقصات أو من خلال اختلاق قصص وهمية جرت في العملية الانتخابية. كل ذلك لتقول لك الجيوش الإلكترونية من ون أن تتكلم: نعيذك بالله من شرور الديمقراطية اللعينة التي تتحدى دينك وتقاليدك، نحن أحرص عليك منها.

المثال الثالث يحصل الآن في لبنان، لا أطلب منك البحث ولا التفتيش، فقط افتح واتساب على هاتفك، وراجع آخر الفيديوهات والصور والنكات التي أرسلها لك الأصدقاء، لتجد أن ثورة لبنان هي باختصار: شباب وصبايا يقبّلون بعضهم بعضاً ويطلقون شتائم جنسية صريحة ويرقصون، ونكات تسخّف ما يحصل في لبنان. لن تجد بين الفيديوهات والصور التي تطغى على المشهد من يتحدث عن الفساد أو الطائفية أو فشل أجهزة الدولة أو اقترابها من الإفلاس أو الوراثة السياسية.. لن تجد هؤلاء إلا إذا بحث مطولاً، ومجتمع وسائل التواصل الاجتماعي لا يبحث يا صديقي، ماتت تلك الأيام التي تفتح فيها محرك البحث لتفتش عن حقيقة ما، أنت اليوم تفتح حسابك على فيسبوك أو تويتر لتتلقى سيلاً جارفاً من الأخبار والمعلومات قرر الآخرون أنه خير لك وأبقى.. والآخرون هنا هم الجحيم كما قال سارتر!

يُقال إن مارك زوكربرغ صاحب فيسبوك سئل مرة: لماذا يعرض عليّ فيسبوك خبر موت قطة جاري ولا يعرض خبر موت ألف إنسان في أفريقيا جوعاً؟ فقال: لأن خبر موت قطة جارك أهم بالنسبة لك من خبر موت ألف إنسان في أفريقيا. فقال السائل: ومن يحدد ما هو الأهم بالنسبة لي؟ فقال مارك: نحن. وهذه النحن كانت واسعة كما يبدو لتجد الأنظمة العربية لنفسها مكاناً فيها بأريحية كبيرة!