حين لعبت ساندرا بولوك دور جولدا مائير!

حين لعبت ساندرا بولوك دور جولدا مائير!

22 أكتوبر 2019
+ الخط -
زمان، كان هناك "إكليشيه" لفظي يتداوله الكتاب والخطباء العرب تعليقاً على محاولات إسرائيل للتأثير على الرأي العام العالمي هو: "اسرائيل تتحرك ونحن نتفرج"، لكن الواقع العربي المرير تجاوز هذا الإكليشيه بكثير في السنوات الأخيرة، فإسرائيل لا زالت تتحرك كعادتها، أما نحن فلم نعد نفعل شيئاً لمواجهة ذلك، حتى الفرجة.

في مقال سابق تحدثت عن فيلم (حراس البوابة) الذي تم ترشيحه لأوسكار أفضل فيلم وثائقي والذي قدم نوعاً من النقد للسياسات الأمنية الإسرائيلية، من خلال حوارات مع ستة من الرؤساء السابقين لجهاز الأمن الداخلي (الشين بيت) تحدثوا عن تجاربهم خلال قيادة الجهاز بدءاً من حرب 1967 وحتى سنوات قليلة ماضية نفذ فيها الجهاز عمليات لاغتيال قادة حركة حماس، ولا أنكر أن أهمية ذلك الفيلم بالإضافة إلى الدعاية المكثفة التي حصل عليها فيلم (رؤساء الوزراء: الرواد) جعلاني أتوقع وأنا ذاهب لمشاهدة الفيلم الأخير، أنني سأشاهد عملاً متميز المستوى، فإذا بي أجد عملاً يشابه في مستواه الفني البرامج الوثائقية العادية التي تنتج في قنواتنا العربية الحكومية بهدف تجميل صورة المسؤولين، وإن كانت الصور والأفلام التي يقدمها من الأرشيفات الاسرائيلية هي التي جعلته جديراً بالمشاهدة.


الفيلم المكون من جزئين ـ شاهدت جزءه الأول فقط ـ ليس سوى حوار متلفز مطول مع الدبلوماسي الإسرائيلي المخضرم إيهودا أفنير الذي عمل مستشاراً وكاتب خطب لعدد من أهم رؤساء الحكومات الإسرائيلية مثل جولدا مائر واسحق رابين وليفي أشكول ومناحيم بيغن، وهو يحكي في الفيلم أهم ما جاء في مذكراته، ولكي يحاول الفيلم تخفيف ملل المشاهد من الحكايات الطويلة التي يرويها أفنير الذي تم التصوير معه حين كان يبلغ من العمر 84 عاماً، لجأ مخرج الفيلم ريتشارد ترانك إلى الاتفاق مع مجموعة من كبار نجوم هوليود ليقوموا بالأداء الصوتي لمقاطع تحكي شهادات تاريخية يدلي بها رؤساء الوزراء الذين يتحدث عنهم الفيلم، لكن الاختيار لم يراع وجود تجانس ما بين الشخصية التاريخية وبين الشخصية التي تؤدي صوتها، كما يحدث عادة في هذا النوع من الأفلام الوثائقية، بل ركز فقط على مشاركة أسماء واسعة الجماهيرية دون توظيفها بشكل مناسب، فلعبت ساندرا بولوك دور جولدا مائير، ولعب مايكل دوجلاس دور اسحق رابين، ولعب كريستوفر والتز دور مناحيم بيغن، ولعب ليونارد نيموي دور ليفي أشكول، وبالطبع لم يكن ممكناً أن تشارك هذه الأسماء الكبيرة بسهولة، لو لم يكن الفيلم من إنتاج شركة أفلام مورياه التابعة لمركز سيمون ويسينتال الشهير الذي يتخذ من لوس أنجلوس مقراً له ويعرف نفسه أنه مركز متخصص في دعم اسرائيل ونشر التسامح والتعريف بمعاناة اليهود في الهولوكست، ولذلك حمل اسم شخصية يهودية اشتهرت بلقب (صائد النازيين).

لا يمكن أن تعزل طبيعة جهة الإنتاج عن طبيعة الفيلم الذي لم يقدم نظرة نقدية لأداء رؤساء الوزراء، بل اكتفى بتقديم نظرة أفنير نفسه الذي تحدث بشكل عاطفي عن جميع الذين عمل بالقرب منهم وعن دورهم في خدمة إسرائيل، لكن افتتانه الأكبر بدا جلياً بشخص ليفي أشكول الأقل شهرة في العالم العربي والذي ارتبط في التاريخ الإسرائيلي بكونه صاحب إنجاز هزيمة 1967 التي يعرض الفيلم لتفاصيلها المؤلمة لنا كعرب، وعلى رأسها تفصيلة أن إسرائيل لم تكن في الأصل تخطط لاحتلال القدس والضفة الغربية وغزة، لكن ليفي اشكول اتخذ القرار بعد تشجيع قادته الميدانيين، وتأكيدهم له أنهم يواجهون جيوشاً عربية ورقية يمكن هزيمتها بسهولة وهو ما أثبت الواقع صحته، لينال ليفي اشكول فضل مخاطرته التي كان يمكن أن تكلفه الكثير لو اتضح أن قادته كانوا على خطأ.

يبدو افتتان أفنير أقل بجولدا مائير لكن ما يرويه عنها كشخصية حديدية قادرة على كسر معارضيها، يجعلك تفكر فيها بعيدا عن الطريقة التي تعودنا على أن نفكر بها بشكل نمطي ساخر بوصفها العجوز الشمطاء، دون أن يجعلنا ذلك نفكر في المقارنة بين الطريقة التي وصلت بها جولدا مائير إلى حكم الدولة التي هزمتنا، في الوقت الذي كانت المرأة العربية تواجه صعوبات وتحديات في خوض العمل العام في نفس الفترة ـ وهو ما سبق أن أشرت إلى بعض تفاصيله في مقالين بعنوان (يوليو والنساء) نشرا على هذه المدونة ـ وبرغم ما يوجهه أفنير من ملاحظات على أداء جولدا مائير إلا أنه يحرص على أن يذكر المشاهد بتماسكها عقب الأيام الأولى من حرب 1973، حيث يعيد باستخدام صوت ساندرا بولوك تجسيد اللحظات التي زارت فيها جبهة القتال بعد وقف إطلاق النار في حرب 1973 لتشد من أزر الجنود الإسرائيليين، ولتحدثهم بشكل عاطفي أمومي عن تضحيات آبائهم التي لن تذهب هباءً، وبرغم أن الفيلم يعرض حالة التكاتف التي عمت المجتمع الإسرائيلي برغم خلافاته لعبور آثار الهزيمة، لكنه يبين كيف لم تستمر تلك الحالة طويلا بعد أن تغيرت الموازين على الأرض وعلى طاولة المفاوضات لصالح اسرائيل، حيث دفعت جولدا مائير ثمن وجودها في السلطة، ولم تتمكن من الصمود أمام تداعيات المطالبة بالتحقيق حول ما تسبب في مباغتة مصر لاسرائيل.


ليس ثمة أسرار خطيرة تذاع لأول مرة من خلال الفيلم، لكن هناك تفاصيل مهمة حول طريقة عمل المسئولين الإسرائيليين، من بينها مثلا كيف حرص ليفي أشكول على أن يبهر الرئيس الأمريكي ليندون جونسون بخبراته البيطرية التي اكتسبها من إقامته القديمة في مستوطنة بعد قدومه إلى اسرائيل، وبرغم أن ذلك قرّب بين الرجلين من الناحية الإنسانية إلا أنه لم ينجح في إقناع جونسون بتلبية ما طلبه أشكول من صفقات أسلحة، حيث التقط أفنير ورقة مررها جونسون إلى وزير خارجيته دين راسك كتب له فيها "دين.. أبطئ في هذا الموضوع"، وهي الورقة التي أخطأ دين راسك عندما رماها في سلة المهملات حيث التقطها أفنير لتعرف منها اسرائيل حقيقة موقف جونسون منها ولتبدأ في الضغط عليه بكل الوسائل الممكنة.

أهم ما يقدمه الفيلم بالنسبة للمشاهد العربي هو رده على محاولات البعض التقليل من شأن نصر السادس من أكتوبر ومن تأثيره على المجتمع الإسرائيلي، مستشهدين بقدرة اسرائيل على امتصاص صدمة هزيمتها وتمكنها من الرد بشكل قوي تسبب في حدوث ثغرة الدفرسوار الشهيرة، فالفيلم يعكس على لسان أفنير تفاصيل صدمة اسرائيل بالتفوق المصري في الحرب، ويروي من خلال شهادة أفنير كيف كان يمكن أن تتضاعف نتائج الهزيمة الإسرائيلية لولا التدخل الأمريكي غير المسبوق الذي قدمه الرئيس نيكسون بدعم من وزير خارجيته هنري كيسنجر، وهو أمر لم يعد سرا بعد كل الشهادات التي تم تقديمها حول حرب السادس من أكتوبر، لكن الجديد هنا أن أفنير يحكيه بحماس شديد لم يمنعه من أن يقدم شهادة أثارت استياء الكثيرين حول أن نيكسون كان مخمورا قليلا، عندما وافق على صفقة الاسلحة الضخمة التي أمد بها إسرائيل خلال الحرب، والتي تسببت في عكس ميزان التفوق لصالح إسرائيل.

يحكي الجزء الثاني من الفيلم ـ الذي لم أعثر عليه بعد ـ عن مرحلة عمل أفنير مع كل من اسحاق رابين ومناحيم بيغن وشمعون بيريز، وكذلك فترة عمله كسفير لإسرائيل في انجلترا، بالإضافة إلى شهادته على زيارة أنور السادات للقدس، واتفاقيات كامب ديفيد وقصف اسرائيل للمفاعل العراقي النووي وحرب لبنان وصولا إلى اتفاقيات أوسلو، ملقيا الضوء على تطور شخصية اسحاق رابين بشكل مختلف عن شخصية المندفع الأرعن التي كان عليها حين عمل كسفير لإسرائيل في أمريكا خلال حكم جولدا مائير لإسرائيل.

بالتأكيد ستجعل كل هذه التفاصيل الجزء الثاني من الفيلم أكثر أهمية بالنسبة للمشاهد العربي من الجزء الأول الذي استفاض في بدايته في عرض علاقة إيهود أفنير وأسرته بإسرائيل منذ أن جاء إليها مع أسرته عام 1947 وكان لا يزال في التاسعة عشر من عمره، لكن أهم ما في هذا الجزء بالنسبة لي كان المقاطع الفيلمية النادرة التي عرضت بدايات الوجود الصهيوني على ارض فلسطين قبل إعلان تأسيس دولة إسرائيل وبعده بسنوات، وهي مشاهد لا يمكن إلا أن يستولي عليك الحزن وأنت تشاهدها ليس فقط لأنها تذكرك بجريمة الإستيلاء على الأرض الفلسطينية، وإنما لأن أي مقارنة بين تلك الصور وبين ما صارت عليه إسرائيل الآن كفيلة بمضاعفة حزنك وإحباطك عشرات المرات.

ربما كان أصدق رد فعل لمسته على المستوى الفني للفيلم الذي شاهدته في قاعة صغيرة بسينما (سكواد) بنيويورك والتي تشتهر بعرض الأفلام الوثائقية والتجريبية، هو ما قالته سيدة طاعنة في السن قبل عرض الفيلم لشخص اتصل بها على هاتفها المحمول ـ لم أكن أسترق السمع لأنها كانت تصرخ تقريبا وهي تتحدث ـ عن أنها تحضر فيلما تسجيليا عن رؤساء وزراء إسرائيل، ويبدو أن المتصل سألها عن ما الذي يدفعها لمشاهدة فيلم كهذا، فقالت له أن هيلاري كلينتون رشحت الفيلم بقوة للمشاهدة وأن كلامها عن الفيلم دفعها للإهتمام بمشاهدته، لكن دعم هيلاري كان كافيا لدفع السيدة للمشاهدة، لكنه لم يقنعها بإكمال مشاهدة الفيلم الممل، حيث غادرت القاعة قبل أن يكمل الفيلم ساعته الأولى، ومع ذلك فبفضل الدعم المادي الذي تلقاه الفيلم، تمكن من البقاء لمدة شهرين كاملين في دور العرض.

لا أظنك بعد كل هذا ستسألني متى نرى فيلما عالميا روائياً أو وثائقياً يحكي للعالم جانبنا من قصة الصراع العربي الإسرائيلي، لأنك بالتأكيد تعلم أننا لسنا مهتمين أصلا بحكايتها لأجيالنا الجديدة إلا على سبيل الاستثمار العاطفي الرخيص الذي يهدف لمساعدة العسكر على البقاء في الحكم إلى الأبد، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.