الدولة أفهم من بني آدم

الدولة أفهم من بني آدم

19 أكتوبر 2019
+ الخط -

 

(يشكو الإنسان من حذائه والعلَّة في قدميه)

صمويل بيكت

1

الدولة في المعجمات من دال - فتح الدال - ودالت الأيام أي دارت، والله يُداولها بين الناس، وتداولته الأيدي أخذته هذه مرة وهذه مرة. وهذا على الضدِّ من مفهوم الدولة في العصر الحديث حيث تجنح نحو الثبات والاستقرار. الدولة عند هيجل هي طريقة تنظيم الأمة لنفسها، الشعب لنفسه، أي أن المجتمع يُنظم نفسه من خلال مؤسسات اجتماعية، تُسمى في مجموعها دولة، والشهيد مهدي عامل توصَّل بعد دراسة إلى أن الدولة لا فكر لها، وهي ملاحظة ذكية ومهمة، ويُقال إن لكل زمان دولة ورجالاً. وابن عمي زكريا يقول: "الدولة أفهم من بني آدم" وشكل الدولة الذي تكرَّس في الوطن العربي جمهوري ديمقراطي عسكري. وقد كان المُنتج الرئيسي لهذا الشكل من الدولة: الفساد العام Corruption، ومن ثم قاد هذا الفساد العام إلى الفشل العام، شكل الدولة هذا أوصل المجتمعات في الجمهوريات العربية إلى الحروب الأهلية التي نعيش بعض نتائجها اليوم، لأن الحاكم الفرد سعى مع عسكره ليكون هو الدولة.

2

في علم السياسة تُعتبر السلطة المُطلقة في القصر الجمهوري شديدة الهشاشة ومزعزعة بسبب وجودها في يدَيْ فرد واحد. إن سلطة كهذه تُعتبر خطراً على مصالح المجتمع والدولة معاً، لأنها تُنمي الكبرياء والاستخفاف في نفس صاحبها. وتُنمي الخنوع والذل في نفوس أفراد المجتمع على اختلاف مشاربهم الإثنية والعرقية. تتعرَّض هذه السلطة الفردية في القصر الجمهوري بسهولة للتشوّش بالمعنى الحقيقي للكلمة، لأنها لا تسعى وراء الواقع الحقيقي أو التقويم المتأني والمناقشة المُفيدة. والأهم من ذلك كله هو أنها تقود الدولة، وهي رفيقتها الحميمة، إلى عالم الفوضى والانهيار.

3

 

في ظني أن الشباب الأحرار في الشوارع والساحات والمدن والأرياف وفي البوادي والقفار قد تمردوا على هذا النمط من الدولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهم يحاربون هذا الشكل من الدولة الاستبدادية التي يحكمها العسكر ويريدون العودة بها إلى مفهومها الأول: دولة بسيطة، تُقاد من حاكم بسيط من عامة الخلق، وليس إلهاً على كل حال، بل بشر سويّ يخاف من ربِّ العباد الذي رفع السماء ووضع الميزان. والسؤال المقلق والحقيقي الذي يهرب منه أصحاب الشأن: أليس غريباً أن تنهار الجمهوريات "العربية" الثورية التي يشبه بعضها بعضاً في العراق وسورية ولبنان واليمن ومصر والسودان والصومال وليبيا وتونس والجزائر وموريتانيا وتتفكك سياسياً واقتصادياً واجتماعياً ويتراجع مشروعها التنموي وتتراجع النهضة الحضارية ويدخل بعضها في أتون الحرب الأهلية، ولا تستطيع حكوماتها العتيدة تأمين الحد الأدنى من أمن وأمان وغذاء ودواء وكساء وتعليم وسكن ومواصلات لمواطنيها، بل وفوق ذلك تقتلهم وتشردهم؟ كيف ذلك وما الذي يفسر هذا الأمر؟ وكيف لنا أن ندرس ما حصل ويحصل وسوف يحصل في هذه الجمهوريات؟

4

مشروع الشباب الأحرار في الشوارع والساحات يتعارض بالمطلق مع شكل الدولة الحديثة التي حكمت الجمهوريات العربية لأكثر من سبعين عاماً. ومع ذلك فشلت في حمل هذه المجتمعات على القبول بها. وهذه نتيجة طبيعية لأن الدولة في شكلها الجمهوري الديمقراطي العسكري، الثوري إن شئت، استبدادية يحكمها لمدة طويلة أحد العساكر الطغاة، والأمثلة كثيرة، وهو في الغالب من فئة "دكتاتور صغير مجنون" مكانه الحقيقي ليس في القصر الجمهوري، بل في مشفى الأمراض العقلية "العصفورية" كما نسميها في بلاد الشام. هذه الدول الاستبدادية لا تدمر المرء، ولكنها تمنع وجوده، وهي لا تستبده فقط، بل تعصره وتوهنه وتخمده وتخدره، بل وتفعل ذلك في الأمة كلها، لكي لا تكون شيئاً أكثر من قطعان حيوانات مذعورة.

5

من هنا يُحاجج صاحب كتاب "نقد السياسة – الدولة والدين" بأن انهيار قواعد عمل الدولة هو الذي قاد إلى انهيار تقاليد تسامح دينية حيَّة منذ آلاف السنين بحيث إن الضربة الحقيقية التي تلقتها المجتمعات المتعددة الإثنيات الدينية والقومية في دول الجمهوريات "العربية" لم تكن في عقائدها ذلك أنها كانت أكثر من كل المجتمعات الحديثة الأخرى قدرة على استيعاب القيم والأفكار والمذاهب الجديدة نظراً لوجود تقاليد التعددية الدينية بمختلف تجلياتها منذ آلاف السنين، ولكنها تكمن في ما تعرض له نموذج الدولة من تهديم موضوعي وفي ما ظهر من تخلفه الهائل والمفاجئ بالمقارنة مع نموذج الدولة الحديثة في الغرب والشرق ومن ثم ذوبان كل مقدرة على إعادة إنتاج السلطة المركزية دون التغيير الشامل في طبيعة التوازنات الاجتماعية القائمة. ولا يزال المجتمع لم يخرج من هذه الصدمة التي تمسّ نموذج بناء السلطة وعمل الدولة حتى الآن.

6

لماذا لم تتحول الدولة المحررة من الدين في الجمهوريات العربيَّة إلى دولة علمانية يحكمها القانون، بل تحولت إلى دولة عسكر تحكمها الأجهزة الأمنية بفظاظة مفرطة؟ ولأن المؤسسة العسكرية هي الوحيدة المنظمة في شكلها العام أمام مؤسسات الدولة الأخرى، فمن حق المؤسسة العسكرية - الجيش والأجهزة الأمنية والمخابرات - أن تكون قائداً للدولة والمجتمع. وهذا يُفسر أيضاً لماذا لم تستطع الدولة الحديثة التي ولدت بعد حقبة الاستعمار الغربي وتحت إرشاد النظرية العلمانية والنهضة الخجولة - التي تبناها حتى المصلحون الدينيون - أن تفرز سلطة سياسية دستورية قانونية تقود المجتمع إلى بر الأمان، بل أفرزت سلطة عسكرية يقودها مجلس قيادة الثورة، ومن ثمَّ الزعيم الخالد مع حزبه القائد، الذي يسعى لتوريث الحكم إلى أولاده في الجمهوريات "العربية"، وهي ظاهرة غريبة تستحق التأمل والدراسة.

 

دلالات

عبد الرزاق دحنون
عبد الرزاق دحنون
كاتب سوري.. بدأ الكتابة عام 1980 في مجلة الهدف التي أسسها غسان كنفاني.