من محاسن الصدف!

من محاسن الصدف!

16 أكتوبر 2019
+ الخط -
جلس أمام إناء يغلي على النار، وقادته الصدفة المحضة إلى مشاهدة حركة الغطاء؛ فاكتشف قوة البخار، وبقوة الصدفة عرفنا اسم الرجل؛ إنه جيمس وات (1736 – 1819)، ومن قبله اقتادت الصدفة أحدهم ليكتشف قانون الطفو، وليصرخ بأعلى صوته: "وجدتها! وجدتها!"، ويسطّر التاريخ اسم أرشميدس. جمعت قوانين الفيزياء بين أرشميدس وجيمس وات، لكن الصدفة أكبر من الفيزياء، إنها بوابة يدخل منها كثيرون بوابة التاريخ.

في دنيا الأدب، تلعب الصدف دورًا لا بأس به، قد تكون الصدفة وحدها سبيلاً للشهرة، وقد تقترن الصدفة بموهبة فذة؛ فيُكتب لها الخلود مدة أطول من مجرد الصدفة وحدها. هنا يختلف الأدب عن الفيزياء؛ فإن صدفةً ما خلدت اسم إسحاق نيوتن، ومثلها طبعت اسم جيمس وات في سجل الخالدين، وسبقهما أرشميدس بالصدفة عينها، ولا شك في أن تلك الصدف اقترنت بتجارب أو محاولات عدة، ثم جاءت الصدفة تتويجاً لسنوات من العمل والمثابرة.

وجه الاختلاف بين الفيزياء والأدب قمين بالمدارسة؛ فالقوانين الفيزيائية تظل ثابتة لمدد أطول أمداً من الأذواق الأدبية، بينما يحتاج الأديب مع كل عمل يقدمه إلى تأكيد مكانته، ويجد نفسه في تحدٍّ متجدد مع كل مؤلَّفٍ يضعه بين أيدي قرائه. بالتأكيد، لعبت الصدفة دوراً محورياً في شهرة بعض الأسماء اللامعة، لكن هؤلاء تمايزوا إلى فريقين: فريق لم يخرج عن النمطية والتكرار الرتيب، ولم يستثمر الفرصة أو "الفرقعة" المدوية التي خلعتها عليه الصدفة، ومن أشهر هؤلاء الفرنسية فرانسواز ساغان. أما الفريق الثاني، فأكد موهبته وبرهن على قدراته الأدبية، فكانت الصدفة تتويجاً لمثابرته ودأبه.


لعل ظهور أحلام مستغانمي على الساحة الأدبية مثال للفريق الثاني من الأدباء؛ فقد ولجت عالم الأدب من بوابة الشعر، ثم قررت أن تكتب الرواية في تحوّلٍ غير مألوف، إذ عرفها المهتمون بدنيا الأدب شاعرة أصدرت ديوان "على مرفأ الأيام" سنة 1972، ومن بعده ديوان "الكتابة في لحظة عري" سنة 1976. أما في سنة 1993، فأصدرت ديوانها الثالث "أكاذيب سمكة"، لكنها قررت - في العام نفسه - دخول عالم الرواية متوسلةً بـ "ذاكرة الجسد".

قوبلت الرواية بموجة من النقد الجامح، وتزعَّم لواء منتقديها الروائي الجزائري الطاهر وطار، ورأى وطار أن كتابات مستغانمي الشعرية - وهو الميدان الأول لها - غير ناضجة ولا تؤهلها لتقحُّم عالم الروائيين، وانعكس رأي وطار على مبيعات ذاكرة الجسد، فلم تصل مبيعاتها إلى 1000 نسخة في الجزائر، واختلف الأمر في الطبعة البيروتية للرواية ذاتها.

في الجزائر، يبدو الأمر على غير ما توقعته مستغانمي جملةً وتفصيلاً، وعلى مدار عقدٍ بطوله بدت ذاكرة الجسد في وحدة العناية المركزة، لا أمل في عودة الروح إلى هذا الجسد، وقد جرّ عليه النسيان أذياله مراراً، حتى إن الأكاديمي الجزائري عبد الحق بلعابد رأى الرواية في المطبعة الرسمية وفي حوافها العفن الأخضر! يقول بلعابد: "كنت يومها طالباً بالماجستير، وقال لي أستاذي واسيني الأعرج إن هذه الرواية ستصبح ظاهرة".

بعد خمس سنوات من إصدارها، ونتيجة للجدل حول الرواية وهوية كاتبها الأصلي، طُبعت 16 مرة وفازت بجائزة نجيب محفوظ، ثم جاء يونيو/حزيران 2002، وكتب الصحافي التونسي كارم شريف مقالاً بعنوان "سرقات أدبية" في جريدة الخبر الأسبوعية، تناول في مقاله رواية مستغانمي، وادعى أن الكاتب العراقي سعدي يوسف كاتب الرواية الأصلي، وتنازل عنها لمستغانمي أو أنه - على أقل تعبير - ساعد مستغانمي، وقد صنع صنيع سانت بويف مع جورج صاند، وحمل مقال شريف تشهيراً بالرواية إلى حدٍّ بعيد.

لسنا بصدد الحديث عن سانت بويف وجورج صاند، لكن الأمانة تقتضي التعريج على جناح السرعة؛ فإن بويف الناقد لم يكتب لجورج صاند، لكن أفادت من رؤيته النقدية وخبرته الطويلة؛ فسدد رميها ولم يتولَّ الرمي نيابة عنها. ارتفعت حرارة الموقف الأدبي، ومما زاد من سخونته، أن سعدي يوسف لم يردّ، وطال صمته حتى فهم النَّاس أن الشائعة صحيحة، وأنه لا دخان بلا نار، واكتسبت الشائعة زخماً وبدأ الجمهور يتعرف إلى رواية سعدي يوسف، وأقبلوا عليها شراءً وقراءة.

صمت يوسف دهراً، لكنه لم ينطق كفراً، وعمل بالحكمة القائلة: "اسكت... أو قل ما هو أفضل من السكوت"، فخرج على جمهوره بما ينفي الشائعة، وأن دوره في ذاكرة الجسد اقتصر على المراجعة اللغوية والتحرير الفني ليس إلا.

في بيروت، كان القدر يحوك لذاكرة الجسد ثوباً قشيباً، ولعبت العلاقات الشخصية دوراً لا بأس به، أو إن شئت الدقة، فقل لعبت الدور الرئيس. صاحب دار الآداب وناشر الرواية في لبنان، سهيل إدريس صديق جورج الراسي زوج أحلام مستغانمي، وأحد أعلام الإعلاميين في بيروت، ما أسهم في حماسة إدريس للرواية وتبني إنجاحها. بدأ اللعب على وتر الإعلام، واستضافت البرامج الحوارية مستغانمي، بدأت سلسلة الحوارات بواسيني الأعرج، فاستضافها في برنامج تلفزيوني ليسألها سؤالاً واحداً عن ذاكرة الجسد، وتبارى جمهور واسيني الأعرج في شراء رواية مستغانمي.

استضافها كذلك الشاعر اللبناني زاهي وهبة في إحدى حلقات برنامجه "خليك بالبيت"، وحضر الحلقة الفنان القدير نور الشريف، وقال الشريف: "قرأت هذه الرواية، وأريد أن ألعب بطولتها في عمل سينمائي"، ثم اتصل المخرج العالمي يوسف شاهين بزاهي وهبة في الحلقة، وفي مداخلته أبدى شاهين استعداده لإخراج الفيلم السينمائي والعمل مع نور الشريف على رواية مستغانمي. عرف جمهور نور الشريف الرواية وارتفعت مبيعاتها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى جمهور يوسف شاهين، ما أضفى على ذاكرة الجسد بعداً جديداً وجمهوراً أوسع وأكبر.

جاء نزار قباني ليقدم هدية قيّمة لأحلام مستغانمي، فقال في حديث طويل: "إن لم أكن شاعراً لكتبت ذاكرة الجسد"، ولا يفوت القارئ أن سهيل إدريس - الناشر البيروتي للرواية وصديق زوج مستغانمي - صديق عمر نزار قباني ومن المقربين إليه، ما يعني أن العلاقة الشخصية لعبت دوراً آخر في هذا الاتجاه. في عامين، طُبعت ذاكرة الجسد 18 مرة بفضل الدعاية والترويج الشخصي، وفي غياب شبه تام لدار النشر الجزائرية، لكنها أبت إلا أن تستلّ سكينها لتقتطع نصيبها من الغنيمة الباردة!

حاولت دار النشر الجزائرية احتكار الرواية، فلم تترك مستغانمي الفرصة، ولو جزئياً، بل عمدت إلى تأسيس دار نشر لأعمالها، ومن خلالها نشرت "نسيان كوم"، وهي سلسلة مقالات كتبتها في زهرة الخليج وجريدة الخبر.

من ذاكرة الجسد وغليان الإناء وسقوط التفاحة نكتشف أشياء جديدة وأبعاداً عديدة؛ فالنجاح قد تؤطره الفرصة أو الصدفة، لكنها لا تصنعه من العدم على الإطلاق، وإن حشد الدعاية لعمل ما يجتمع عليه أعلام كبار يستلزم قدراً من الموهبة، ليس بالضرورة أن تكون موهبة فذة ولا خارقة، بل يجب أن تكون الموهبة حاضرة، ثم تأتي مرحلة صناعة النجم.

يرى الشاعر الكبير فاروق جويدة أن "النجاح بالصدفة أندر من العثور على جوهرة في مزبلة"، لكن الواقع المعيش يتسع لكل المتناقضات، ولا مبرر لترك العمل اتكالاً على انتظار الفرصة أو الصدفة؛ فالصدف تأتي لمن يحرث الأرض ويبذرها ويسقيها، ثم يتعهدها بالعناية والرعاية دونما يأس، ولا تطرق الفرص أبواب الكسالى والنائمين؛ فإن كانت صدفة بطريقة أو بأخرى، فإنها صدفة مقنَّنة، (وأخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته/ ومدمن القرع للأبواب أن يلجا).

دلالات