حكايات سورية (5)

حكايات سورية (5)

16 أكتوبر 2019
+ الخط -
في سهرة "الإمتاع والمؤانسة" التي انعقدت في منزل صديقنا "أبو مراد" بـ "حي إسنيورت الإسطنبولي" عاد الحديثُ إلى حكاية حادث المرور الذي وقعَ أمام منزل الأستاذ كمال في مدينة إدلب قبل ثلاثين عاماً. قال كمال:

- نحنا ما عَمْ نحكي لكمْ حكاية مسلسلة، الأصحّْ إني عَمْ نحكي بكل سهرة حكاية متفرعة عن الحكاية الرئيسية، ومستقلة بذاتها.

قال أبو ماهر: ما في شي بيمنعْ إنكْ تحكي قصص فرعية، وإنُّه تكون كل حكاية مستقلة بذاتها.. إنما أنا حاببْ أعرفْ حكاية حادث المرور كيف انقفلتْ.


قال كمال: لا تستعجل علينا يا أبو ماهر الحبيبْ. راح يجي وقتْ ونقفلْ حكاياتنا كلها، الفرعية والرئيسية.. المهم، لما الشاحنة "الهنشلْ" ضَرْبِتْ السيارة الزغيرة ماركة فورد 55، ووقعْ عمودْ الكهرباء عَ الأرض؛ صارتْ على الفورْ مشكلة تانية، اللي هيي حدوثْ تَمَاسّْ كهربائي (Contact). أهل إدلب معتادين إنهم يشتقُّوا من الكلمات الأجنبية أفعالْ، متل لما بيقول واحد: تَلْفَنْتِلُّه، يعني اتصلتْ فيه تلفونياً، وفي الحالة اللي عم نحكي عنها عواض ما يقولوا: حَدَثْ تَمَاسّْ كهربائي.. بيقولوا: الأسلاك كَنْطَكِتْ. وبالفعل الأسلاك اللي كانت مشدودة على عمود الكهربا اللي وقع ع الأرض " كَنْطَكِتْ"، وصارتْ تلتصقْ ببعضها البعضْ وتقدحْ شَرَرْ، والسلكْ اللي بيتفَحَّمْ صار يوقع عَ الأرض. وبقيتْ الأسلاك تْكَنْطِكْ، والكونطاك يمشي بين الأسلاك المعلقة فوق العواميد لحتى وصلتْ لنهاية الشارعْ من جهة الغربْ، بعدين الكونطاكْ راحْ باتجاه الشمال، حتى غابْ عن أنظارنا.. فيه واحد من الواقفين جنب الحادث قال: ولي، هلق بتنحرقْ التَلَّاجةْ في البيت.. وركض باتجاه بيته. بوقتها نحن انتبهنا للضرر اللي ممكنْ نتعرضْ لُه، لأنه في مرة من المرات، قبل كم سنة، الكهربا ضعفتْ كتيرْ، وبعد شوي قويتْ، وسمعنا صوت طقطقة، وانطفتْ الكهربا، ولما اشتعلتْ بعد ساعتين كانتْ قوية كتير، واكتشفنا بوقتها إنُّه كلّْ الأدواتْ الكهربائية الموجودة في بيوتْ الحارة احترقتْ من شدة التيارْ، وعلى أثرْ هالشي ازدادْ الطلبْ على مصلحين التلاجات والغسالات والمراوح والميكروييفات، وصار إقبالْ كبيرْ على بياعين قطع التبديل ولمبات النيون. وفي ناس نصحونا إنه بعد هاي المَرَّة بمجردْ ما تْكَنْطِكْ الكهربا عندكم لازم تسكروا (القاطع/ الفاصلْ) لحتى ما تنحرق الأجهزة الموجودة في البيت.

قال أبو مراد: هاي الحادثة اللي صارت بهديكه الأيام أنا بتذكرها، بوقتها انحرقْ عندي كل شي، حتى اللمبات الصفر، والجيران نصحوني إني أرفعْ دعوى قضائية على شركة الكهربا، عساي أن أحصلْ على تعويضْ، لاكن أنا رفضت، لأن رفع الدعوى بيكلف مصاري، والنتيجة مو مضمونة.. قالت لي مرتي بوقتها: ما بدنا نشتكي ولا بدنا ندفع مصاريف إضافية، وعلى قولة المتل "اللي بيزيدْ عن الحرامية بياخدوه فتاحين الفالْ".

قال أبو زاهر: بسورية في قانون بيعفي ضابطْ الأمنْ من المساءلة إذا ماتْ تحت إيدُه معتقلْ من شدة التعذيب، يعني الإنسانْ ما إلُه قيمة عند طغمة بيت الأسد، بقى إنته بدك يعوضوك عن الأجهزة الكهربائية إذا تسببوا بتعطيلها؟!

قال كمال: الملاحظة اللي قالها أبو زاهر ممتازة. المهم في الموضوع، معظم الناس الموجودين حول الحادث ركضوا باتجاه بيوتهم، لحتى يتلافوا موضوع احتراق الأجهزة.. لكن بحسب ما سمعنا من الناس إنه الكونطاكْ تَابَعْ طريقُه عبرْ الأسلاكْ حتى وصل لمقر مكتب الصيانة، ودق جرس الإنذار عندهم، وعمالْ الطوارئْ اللي كانوا عم يلعبوا بالورق لعبة الـ 41 تركوا لعبتهم، وركبوا سيارتْهم الصفرا اللي شايلة على ضهرها سلم خشبي، وأجوا ع حارتنا وهني مشغّلين زمورْ الخطرْ.. لاكن لما وصلوا لعندنا كان الكونطاك منتهي، والكهربا انقطعتْ عن كل الحارة، وما كان في مكانْ معين ممكن ينزلوا فيه، ويباشروا بالتصليحْ، فكان من الحكمة إنهم يعودوا لمقرهم، ويتابعوا لعبة الـ 41.

قال كمال: في هديكه الأيام، بعدما انتهتْ الأمور المتعلقة بالحادثْ، كتبتْ أنا في دفترْ مذكراتي عباراتْ وَصَفْتْ فيها التداعياتْ اللي أعقبتْ اصطدام السيارتين على الشكل التالي: (ارتفعتْ أصواتٌ غريزية من حيث لا ندري: فُتِحَتْ أبوابٌ ونوافذ، وظهرت رؤوس كاملة، ورؤوسٌ نساءٍ لم يَتَمَكَّنَّ من ارتداء الأغطية الشرعية بسبب العجالة فوضعن عليها ما تيسرَ من شراشف وملاءات الصلاة ومناشف الحمام ونَزّالات الطبيخ..

وظهر رجالٌ يرتدون السراويل الداخلية الطويلة حتى الركبتين، مطوا جذوعهم عبر الشرفات، وشرعوا يصرخون ويزعقون، والشجعان لم يقتنعوا بالفرجة المجردة، فنزلوا إلى الشارع ليتبرعوا بتعليماتهم وتوجيهاتهم التي لم يكن في مقدور أحد سماعها بسبب الزمامير وتداخل الأصوات المختلفة. وأنا شخصياً لم أميز سوى صوت جاري أبي عبدان الذي بذل جهداً استثنائياً حتى أسمع الجميع هتفته المستجيرة:
- الغاز يا شباب، الغاز!!

قال أبو إبراهيم: وصف جميل ومشوق، الله يسلم إيديك يا أستاذ كمال.

قال كمال: بوقتها انتبهنا لوُجود شاحنة صغيرة (طرطيرة)، محملة بالغاز محصورة بين الهنشل والفورد. والغاز بهيك حالة بيكون مصدر خطر، وخاصة مع وجود الكونطاك. على كل حال بعد العشا منحكي لكم أيش صار بموضوع الغاز. وين العشا يا شباب؟
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...