بشر... حجر جوع وتشرد!

بشر... حجر جوع وتشرد!

16 أكتوبر 2019
+ الخط -
هل كانت العلاقات مع الناس في فترة ركود بعض الشيء، وأبطأت حركتها مع بزوغ علامات فجر الثورة السورية وظهورها للعلن وتحويلها من جدار صامت كئيب إلى حمل وديع لم يَعُد يصعب الاقتراب منه والنيل من جلاديه، وإنما كانت تغييراً لصورة مزرية تلمّس معها المواطن الكثير من المؤسيات والفقر المدقع الذي جثم سنوات على صدور الكثيرين ممن لم يُسمح لهم دخلهم اليومي، في أعلى مراحله، من العيش بأبسط مقوّماته، ألا وهو العيش في بحبوحة، وهذا ما لم يكن متوافراً للكثيرين من أبناء سورية الذين تحمّلوا وعلى مضض واقعا مزريا؟

وفي المقابل نجد أنّ هناك نُخبة من الناس ظلّت تعيش في بحبوحة غريبة، وهي التي تملك وتتاجر بالعقارات، تبيع وتشتري وتسافر، وتلبس من أفخر اللباس، وتأكل وتشرب ما تيسّر لها من الطعام والشراب، وتتنعّم في توافر الخدمات، في الوقت الذي يُعاني البقية من نزف غريب وشُحّ أغرب، لا يزال وإلى اليوم، وما قبل انبلاج ضوء الثورة يعيش في برج عاجي!

كم أنت مظلوم أيها المواطن السوري؟! وكم تحمّلت من شظف العيش وألوانه؟ وكم حاولت أن تفرّ بجسدك بحثاً وطلباً للكلأ والمال لإطعام أطفالك؟ وكم حاولت أن تنفر من كل شيء ليعيش غيرك ويتنعّم على حساب غربتك وجهدك ومعاناتك وألمك؟!


هذا الواقع لا يمكن أن يشعر به إلاّ ذلك الذي عانى من الجوع، وتحمّل مؤسيات واقع مرير، وتحمّل التشرّد والبرد القارس، وعانى الفاقة من أجل أن يعيش بكرامة، ولأجل تجاوز حياة مريرة لم يعرف يوماً أنّه سيلاقي كل ذلك، ويتحمّل آلاماً كثيرة من المعاناة، وها هو اليوم منهم من يلازم بيته المهجور، وآخر من ينظر إلى منزله الذي سُوّي مع الأرض، وغيره من تحوّلت داره إلى أنقاض، وغيره إلى ركام من الحجارة، وخامس من وضع يده تحت خده يلطم جور المعاناة وصورها اللعينة التي حوّلت الإنسان بين ليلة وضحاها من إنسان مسالم بسيط وطيّب في طبعه إلى إنسان أكثر وحشية وضراوة!

وقد يقول قائل: تكتب هذا الكلام وأنت لم يسبق أن رأيت بأمّ عينك شيئاً على أرض الواقع، ولو أنك عشت بيننا أثناء وقوع الحرب اللعينة، وأيام "داعش" واستصدارهم الأحكام الجائرة وتنفيذها لأتفه الأسباب، ناهيك بهدير طائرات النظام وأصواتها المدوية المخيفة، والبراميل المتفجّرة، وصواريخ سكود التي كان يدفع بها النظام لقتل الناس، ويقذفهم بها لقلت كلاماً غير ذلك؟.

لا شكّ أنّي عشت أشهراً مع هذه الحال الكئيبة المَرَضية، ولم أكمل بقية الوقت مع واقع تحوّل بغمضة عين إلى صرخة بائسة، وعشنا أيامها الأولى وما تلاها بعد أن دخلت مليشيا "جبهة النصرة" المنقذة، وشلل الحرامية، والمجرمين الذين سرقوا الرَّقة، وغيرها من المدن السورية، وتركوها بعد ذلك لـ عناصر"داعش" المجرمة هي الأخرى وقواتها الأكثر تجذراً في الإجرام، والتي لم ترحم طفلاً ولا امرأةً، لا رجلا طاعنا في السن ولا شاباً مزهراً لم يعرف بعد من طعم الحياة إلاّ القليل.

وفي هذا المقام ما لنا إلاّ أن نقول ليكن الله في عون الجميع، فمن ظلّ متشبثاً بأرضه، ولم يغادرها ولمن استطاع الفرار والرحيل بعيداً إلى بلاد قصية احتضنت معاناته ويأسه وقنوطه، وأملاً في العيش بأمان وحرية.

هذه الصورة التي عشناها وعاشها معنا أبناء الرَّقة، وغيرهم من أبناء المحافظات الأخرى الذين أقاموا فيها ولجأوا إليها، فكانت مجرد لعنة حقيقية تحمّل عبئها أبناء هذا البلد الأشمّ الذين لم يرضوا بالذل أو الاهانة. ما العمل ما دام أن ابن بلدهم، راعي العلم والعلماء، وباني سورية الحديثة، مع ما بذره الأسد الأب الذي ولّد في نفوس أبناء سورية الذلّ، وأوجعهم بإحداث الكثير من الأفرع الأمنية التي أهانت المواطن ورسّخت في ذهنه الشرّ وفنونه التي لم يستطع، والى اليوم التخلّص منها، من خلال تفشّي هذه الظاهرة وتعدد مسؤوليها وكل ما يهدف إليه هو تخويفهم وترهيبهم، وإجهاض قدراتهم والنيل منهم، والدعس على رؤوس الجميع وبلا استثناء، لتحقيق مآربه الشخصية ولنشر قوته، وبدلاً من أن يتعاطف مع المواطن ويقدّم له جزءاً يسيراً من حاجته ومتطلباته المعيشية تراه أنه يُغلق أمامه كل أبواب الأمل التي حلم بها يوماً!.

وحدها الأسرة الحاكمة الطاغية استمرت في استصدار المراسيم والقرارات والتعليمات والأوامر الإدارية، وما على المواطن السوري إلاّ أن ينفّذ وبدون أيّ اعتراض، أو يلجأ إلى تقديم شكوى أو حتى تذمّر!. فهو ملزم بالتنفيذ تحت أي ظرف كان. تحمّل عبئاً كبيراً وما زال يتحمّل لأنه لا يريد أن يفرّط ببلد عاش فيه أيام عمره إلى جانب أهله ورفاق دربه وأصدقائه ومعارفه، وحدها الحكومة السورية وقيادتها الخبيثة اغتالته ودمّرت بيته، وألزمته بالتخلّي عنه وتجريده من محتوياته وتعفيش ما قدّر لها، تحت راية، وبذريعة شعار: "وحدة، حرية، اشتراكية".

الشعار الذي لطالما سمعنا به ونحن كنا صغاراً، وها هو والى اليوم يردّده صغارنا ولم نفهم المقصود منه، وعلى الأرض هم من استفادوا من رفع هذا الشعار اللّعنة، الذي دمّر البلد، وقتل الشعب الذي أذلّ وهُجّر!.

عناوين كبيرة عرفناها، إلاّ أنّها، وللأسف، كان من نتيجتها تخريب بلد مثل سورية، فكيف بنا نحن أبناءها أن نرحَم من أساء لها، وأعادها مئات السنين إلى الوراء لأجل الحفاظ على كرسي سيؤول للغير طال الزمن أم قَصُر، هذه حقيقة قائمة لا يمكن أن ننكرها.

لقد أحالوا البلد إلى وسم سيئ وصورة أسوأ، وأحرقوا كل ما هو جميل ومفرح فيه. أحالوه إلى زعاف قاتل، وأفرغوه من كل ما يمكن أن يصبّ لصالح ابن سورية الذي مات ودثّر بلحافه جرّاء هذه الصور التي أنهت معه حال معاناة استمرت طويلاً وهم يدركون ذلك تماماً، ويريدون لهذه الحرب أن تستمر أطول فترة ممكنة لتعَمُر جيوبهم بالمال الذي لا يمكن أن ينفعهم، وهذه رؤيتهم.

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.