لماذا يكتبون بأسماء مستعارة؟

لماذا يكتبون بأسماء مستعارة؟

14 أكتوبر 2019
+ الخط -
يتعمد البعض التخفي عن عيون الرقباء، لا سيَّما إن كان الرقيب قارئًا لبيبًا أو ناقدًا أريبًا، ولا يقتصر التخفي على المبتدئين، بل يتعدى ذلك بمراحل عدة، وله بواعث متباينة منها البحث عن مساحة أوسع من الحرية، أو لتفادي النقد وما يترتب عليه، وربما لقيود سياسية واجتماعية فرضها المجتمع، أو بحثًا عن مصالح مادية، وقد يكون حفاظًا على مشاعر من يتناولهم الكاتب، وفي بعض الأحيان يأتي الحياء أو الخجل مبررًا، ناهيك بالأحاسيس والمشاعر الشبوبة بالحقد والظلم أو الأعراف والتقاليد.

تأتي المنزلة الاجتماعية للمرء على رأس القائمة؛ فمثلًا يوم كتب محمد حسين هيكل رواية "زينب"، أول رواية في دنيا العرب، لم يضع اسمه عليها بل ذيلها بتوقيع "فلاح مصري"، وفي ثلاثينيات القرن المنصرم كتب أحدهم في جريدة البلاغ سلسلة من المقالات السياسية والحماسية، وذيلها بتوقيع من الأحرف الأولى (س. أ)؛ ليتضح لاحقًا أنها للزعيم سعد زغلول، مفيدًا من اسمه الثاني غير المعروف للعامة "سعد إبراهيم زغلول"، وكتب إسماعيل صدقي بالأحرف الأولى (أ. ص)، والكتابة/التوقيع بالأحرف الأولى ديدن عدد لا بأس به من الكتاب؛ فنرى توفيق عودو يكتب بأحرف أولى (ت. ع)، وفريد كامل (فا. ك)، وكتب عبد الرحمن شكري في المقتطف بإمضاء (ع. ش).

في نطاق الاعتبارات الاجتماعية، نجد أن الكاتب والأديب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه -الملقَّب بيوسف إدريس القصة الليبية- قد تعمد الكتابة باسم مستعار، بل وتخير اسم "ليلى سليمان" لكتاباته دون غيره من الأسماء؛ تشجيعًا للنساء وحثهن على الخروج للعمل، وليبعث في نفوسهن الحمية للتحرر الاجتماعي، وفي ذلك يقول فقيه: "دخلت المعركة باسم مستعار لأدفع الضيم عن المرأة". لم يكن الفقيه وحيد نسجه في هذا المضمار؛ فكتب محمد مولسهول باسم مستعار هو الآخر.


في عام 1997، ترك مولسهول الكتابة باسمه، عمد إلى الكتابة باسم "ياسمينة خضرا"، وهو اسم زوجته، وربما يعود ذلك لشهرته كرجل عسكري؛ فأراد أن يخلع عن نفسه رداء الانضباط الذي تفرضه الرتبة العسكرية، وتقاعد واستقر في باريس ليتفرغ للأدب، وكتب أعماله بالفرنسية. أما الفنان الكويتي عبد العزيز النمش -أبو صالح- فجسَّد أعماله تحت مظلة اسم أنثوي آخر؛ إنه "أم عليوي"! وظل لأربعين سنة يؤدي دور أم عليوي.

وكتب الروائي إبراهيم الورداني باسم "مي الصغيرة"، وحصد الورداني شهرةً منقطعة النظير! لم تكن شهرة الورداني لقاء جودة القصص، ولا لحسن الفكرة المطروحة وتفردها، إنما لإباحيته السافرة! فلم تشهد تلك الأيام كتابات نسائية إباحية؛ فكانت "مي الصغيرة" ومن ورائها كاتبها الحقيقي -الورداني- ظاهرة جديدة في دنيا الكتابة، وإن لم يألف المجتمع كتابات الرجال الإباحية؛ فكيف بها من امرأة! وفي السياق نفسه، ظهرت بعد سنوات فتاة فرنسية، كتبت باسم مستعار وحققت شهرة أسطورية، لكنها سرعان ما انطفأت.

هذه الكاتبة بلغت أوج المجد والشهرة، ونافست شهرة بلزاك وموباسان وفولتير وفلوبير، لا لشيءٍ إلا لأنها كتبت مذكراتها بلغة قريبة من الشارع، وبمضامين إباحية لم يتطرق إليها المجتمع بهذه الصورة قبلًا؛ فكانت "فرانسواز ساغان" صاحبة كتاب "مرحبًا أيها الحزن". امتدت شهرتها إثر كتاب واحد، وكانت في الثامنة عشرة من عمرها، لكنها لم تقوَ على تقديم جديد؛ فانتهى بها الأمر إلى التكرار والسطحية، وعلقت في دائرة الإدمان والإباحية.

وقبل أعوام، عرف الأدب العربي موجة أخرى من هذه الإباحية، موجة جاءت من عالم النساء، ما يجعل الصدمة أكبر والإقبال عليها أوسع؛ فكتبت سلوى النعيمي -ومن دون استحياء- "برهان العسل". لم يكن التوجه النسائي للأسماء المستعارة لدوافع جنسية، بل في أحايين كثيرة لأسباب فرضها المجتمع؛ فنجد الدكتورة عائشة عبد الرحمن تكتب تحت اسم "بنت الشاطئ"، وتميزت بكتاباتها الإسلامية الرصينة، وكتبت أمينة الصاوي -قرينة الشيخ مصطفى الصاوي الأستاذ بالأزهر الشريف- تحت اسم مستعار آخر "فتاة الجزيرة".

كذلك فإن الشاعرة الليبية حواء القمودي كتبت بأسماء مستعارة، منها "أريحا صامد"، "بنت سوق الجمعة"، "دلال المغربي". مثلما رأينا رجالًا يكتبون بأسماء نسائية؛ فإن التاريخ يحمل لنا أسماءً لامعة لسيدات كتبن أعمالهن بأسماء ذكورية، ومن أشهر تلك الأسماء تأتي السيدة أماردين لوسيل أورو دوبان، وقد كتبت أعمالها باسم "جورج صاند".

لم تقتصر الكتابة على الأحرف الأولى أو الكتابة بأسماء مغايرة لجنس الكاتب، بل قد يتخذ الكاتب لنفسه ستارًا منيعًا إذ يكتب متحصنًا بصفة، أو لائذًا باسم لا يدل عليه من قريب ولا بعيد؛ فمثلًا كتب الصحافي والأديب المصري عباس حافظ تحت اسم "صاحب مبدأ"، وكتب محمد فهمي عبد اللطيف في الرسالة باسم "الجاحظ"، وكتب يعقوب صنوع باسم "أبو نضارة"، وانتقى إبراهيم دسوقي أباظة -والد الأديب المعروف ثروت أباظة- اسم "الغزالي" لينشر به مقالاته السياسية، وذلك نسبةً إلى اسم قريته في محافظة الشرقية. نشر أحمد نجيب الهلالي باشا مقالات "مخالب القطط" وخلع عليها اسم ديك الجن، أما مصطفى أمين فتخيَّر اسمًا فَكِها "مصمص".

أما حافظ عوض فكتب في اللواء والمؤيد تحت اسم "خان بها دور"، ثم كتب سلسلة مقالات بعنوان "هل كان الحق مع الأغلبية؟" ونشرها في جريدة اللواء بتوقيع "متشكك"، وكتب مقالات لاذعة في جريدة النظام ممهورة بتوقيع "محمدين". أما أمين حسن الحلواني المدني، وكان مدرسًا في الحرم المدني؛ فكتب "السيول المغرقة على الصواعق المحرقة" ينقد فيها أحمد سعيد الرافعي نقدًا مريرًا، واتخذ لنفسه اسم "عبد الباسط المنوفي"، ونشر أحمد أمين كتابه "الملكة عالية" بتوقيع "كاتب عربي معروف".

وكتب الأديب اللبناي أسعد مفلح داغر (1886 – 1958) كتاب "ثورة العرب مقوماتها، أسبابها ونتائجها"، ونشره باسم "أحد أعضاء الجمعيات العربية". لكنك لن تجد مثل الأب أنستاس الكرملي؛ فقد اصطفى الرجل لنفسه أربعين اسمًا كتب بها مقالاته، من بينها (ابن الخضراء، ابن العصر، أبو الخبر فهر بن جابر الطائي، أحد القراء، الأخ أنستاس ماري، أمَكح، باحث، بُعيث الحضري، الجابري، الجزويتي، الخضري، متطفل، مستهل، مبتدئ، مستفيد).

وقد تتخذ الأسماء المستعارة بغرض التعمية والتنكر وإشاعة الإبهام والغموض، ومن بينها نقرأ (أبو مجاهد، أبو خليل، ابن ألطف، ابن الفرات، عربي عراقي، الكاتب المحبوب، علوان أبو شرارة، ابن سينا، الحارث بن حجي، الجاحظ الجديد، الهلفوت، ابن ماء السماء، ابن ذي الكنيتين، مطالع، الشاعر المجهول، لأمير من أمراء البيان، الغريب).

ومن أغرب من كتبوا بأسماء مستعارة يطل اسم شكري الخوري -صاحب جريدة "أبو الهول"- ومبعث الغرابة أن الرجل اتخذ لنفسه اسمًا مستعارًا، ولكنه -واعجب معي- وضع اسمه المستعار تحت صورته! وقد تضحك من هذا الاسم المستعار وغير المستعار في الآن ذاته، وهذا ينقلنا إلى قصتين واحدة ليحيى حقي والأخرى للعقاد ودسوقي أباظة، نذكرهما في الجزء الثاني لطرافتهما وفائدتهما.